بين العامين 1947 و1948 انتشر وباء الكوليرا في مصر وذلك للمرة الثالثة خلال قرنين. سوف يقول المصريون أن جنودا إنجليز عائدين من الهند هم الذين جاؤوا بالوباء معهم. وسواء أكان هذا صحيحا أم لا، فإن الوباء انتشر بشكل دفع الإنجليز محتلي مصر حينها إلى إغلاقها تماما منعا لانتقال الوباء إلى خارجها. ولقد أسفرت تلك الكارثة يومها عن إصابة أكثر من عشرين ألف شخص مات نصفهم تقريبا قبل أن يختفي الوباء.
هزت تلك الكارثة المصرية يومها العالم كله ولا سيما العالم العربي، وظهرت بوادر تعاطف مدهشة رغم أن الإعلام لم يكن جزءا من المعركة كما الحال اليوم. ولما كان الإبداع هو ما يبقى دائما ليذكّر بما حصل، بعد أن يُنسى كل شيء، بقيت من تلك الكارثة أعمال إبداعية يمكننا أن نتوقف منها عند عملين تكمن خصوصيتهما في أن أولهما كان واحدة من أولى وأقوى أعمال الكاتبة الروائية الفرنسية (من أصول مصرية/ لبنانية) أندريه شديد، والثاني قصيدة للشاعرة العراقية نازك الملائكة عنوانها "كوليرا"، تعتبر عادة – دون أن يكون هذا دقيقاً – بداية شعر التفعيلة الحديث في الشعر العربي. ومن دون أن نتوقف عند هذا التفصيل التقني الذي غالبا ما "شغل بال النقاد والدارسين" حتى وإن لم يبدوا اهتماما بمضمون القصيدة ودلالاتها، نعيد نشرها هنا كما هي في محاولة لنقل تلك الحساسية الشاعرية التي التقطت هذا الموضوع من الحدث الواقع بالفعل في زمن الحدث نفسه، حيث تقول الملائكة في تصويرها للمناخ الذي استشرى بفعل الوباء في مصر:
"سكن الليلُ/ أَصْغ إلى وقع صدى الأنّات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات/
"صرخات تعلو تضطربُ/ حزن يتدفق يلتهبُ/ يتعثّر فيه صدى الأهات/
"في كل فؤاد غليانُ/ في الكوخ الساكن أحزانُ/ في كل مكان روح تصرخ في الظلمات/
"في كل مكان يبكي صوتُ/ هذا ما قد مزّقه الموتُ/ الموت الموت الموت/ يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت/
"طلع الفجر/ اصغ إلى وقع خطى الماشين/ في صمت الفجر، أَصِخ، أنظر ركبَ الباكين/
"عشرة أموات، عشرونا/ لا تحص أَصِخ للباكينا/ إسمع صوتَ الطفل المسكين/
"موتى، موتى، ضاع العددُ/ موتى، موتى، لم يبق غدُ/ في كل مكان جسد يندبه محزون/
"لا لحظة إخلاد لا صمتْ/ هذا ما فعلت كفُّ الموتْ/ تشكو البشريةُ تشكو ما يرتكبُ الموت/
"الكوليرا/ في كهف الرعب مع الأشلاء/ في صمت الأبد القاسي حيث الموتُ دواء/
"استيقظ داء الكوليرا/ حقداً يتدفق موتورا/ هبط الوادي المرحَ الوضّاء/ يصرخ مضطرباً مجنوناً/ لا يسمع صوتَ الباكينا/
"في كلّ مكان خلَّف مخلبُه أصداء/ في كوخ الفلاحة في البيتْ/ لا شيء سوى صرخات الموتْ/
"الموت الموت الموت/ في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت/
"الصمت مرير/ لا شيء سوى رجع التكبير/ حتى حفّار القبر ثوى لم يبق نصير/
"الجامع مات مؤذِّنه/ الميّت من سيؤبّنه/ لم يبق سوى نَوْح وزفير/
"الطفل بلا أم أو أب/ يبكي من قلب ملتهب/ وغدا لا شك سيلفظه الداءُ الشرير/
"يا شبح الهيضة ما أبقيت/ لا شيء سوى أحزان الموت/ الموت الموت الموت/ يا مصرُ شعوري مزّقه ما فعل الموتُ"
هذا بالنسبة إلى القصيدة التي لا بأس من التذكير بكونها "افتتحت الحداثة العربية" خير افتتاح فنيّا، ولكن أسوأ افتتاح من ناحية المضمون، بحيث تبدو لنا القصيدة بمقاييس اليوم الشعرية، مغالية في سوداويتها ومفرطة في حديثها عن الموت رغم فداحة الكارثة. وربما في تبسيطية لغتها.
حكاية أم حسن
أما بالنسبة إلى العمل الآخر، وهو "اليوم السادس" العمل الروائي كما أشرنا والمكتوب بالفرنسية حيث لا تزال الرواية تطبع وتعاد طباعتها منذ صدورها للمرة الأولى في العام 1960 بحيث أن ثمة الآن ست طبعات لها إضافة إلى الأولى ويقبل عليها القراء بشكل استثنائي، فلا بد من التذكير أولا، بأن السينمائي يوسف شاهين قد اقتبس الرواية في العام 1986 في واحد من أقوى أفلامه، - وإن لم يكن من أكثرها نجاحا على أي حال - وهو الفيلم الذي أعطاه نفس العنوان وقامت فيه المغنية الفرنسية/ الإيطالية/ المصرية داليدا بالدور الأول، فكان آخر أدوارها السينمائية بل آخر عمل فني كبير أدته قبل انتحارها في تلك الآونة. المهم أن أندريه شديد خلدت في روايتها تلك الكارثة التي حلّت بمصر ولكن بصورة مختلفة تماما عما فعلت نازك الملائكة.
ففي "اليوم السادس" – التي تستعير عنوانها من فترة الستة أيام التي يمكن أن يصمد خلالها مريض الكوليرا ريثما يموت أو يتمكن الطبّ من إنقاذه. ومن هنا يدور الجزء الأساسي من الرواية في ستة أيام هي مسافة الرحلة التي تقطعها صدّيقة (داليدا في الفيلم) مصطحبة حفيدها حسن الذي أصيب بالداء في منطقتهما الريفية النائية وكان لا بد له من أن يُنقل إلى حيث يمكن له أن يُشفى كما ترى صدّيقة. وكان النقل كما يمكننا أن نتصوّر بطرق بدائية تجبر صدّيقة وحفيدها على سباق مع الوقت هو في الوقت نفسه سباق مع الموت حيث أن الجدّة التي تُلقّب عادة باسم "أم حسن"، لأنها هي التي تتولى تربية حسن والإهتمام بأمره علاوة على اضطرارها للعناية بزوجها المشلول والمقعد، تدرك أن حسن هو كل ما تبقى لها في هذا العالم فإن فقدته وتمكنت الكوليرا من القضاء عليه، ستكون هي الأخرى قد فقدت كل مبرر لوجودها. ولكن إلى أين تأخذ صدّيقة الطفل وقد راحت تظهر عليه علامات المرض وتتفاقم؟
طهارة البحر الشافية
إلى البحر، لا إلى حيث ثمة مستشفيات وأطباء. فهي في بداية الرواية حيث كانت قد أتت من القاهرة إلى ريفها النائي لاجئة مع حسن إلى البلدة، تكتشف أن كل عائلتها قد أُبيدت بفعل الداء وأن لا بد لها من أن تعود أدراجها من حيث جاءت، ولا سيما بعد أن تلتقي بمعلم المدرسة الذي أصيب بدوره ويؤخذ إلى المستشفى، وينتظر أيامه "الستة" مخبرا أم حسن بأنه سوف يعود، لكنها لا تصدقه فجميع الباقين في البلدة أخبروها أن الذين نُقلوا إلى المستشفيات لم يعودوا، وبالتالي عليها ان تعود إلى المدينة الكبيرة لتعتني بالطفل والزوج... والحقيقة أن معلم المدرسة لا يعود لا في اليوم السادس ولا اليوم السابع ولا في أي يوم بعد ذلك. ومن هنا تتخذ صدّيقة قرارها الحاسم: لن تأخذ حسن لا إلى المدينة ولا إلى المستشفى. ستشفيه هي بقوة عزيمتها. أو بالأحرى ستوصله إلى البحر الذي تؤمن أنه وسيلته الوحيدة للشفاء. لكن عليهما ان يصلا إلى البحر في أقل من ستة أيام وإلا مات حسن. وهكذا تنطلق في تلك الرحلة التي أعطت عنوان الكتاب مساحتها الزمنية، وستكون الرحلة عبر نهر النيل وصولا إلى طهارة البحر، الطهارة التي تشعر صدّيقة من دون أن يخبرها أحد بذلك، أنها الطبيب الوحيد والترياق النهائي...
واضح هنا أنه فيما تتناول قصيدة نازك الملائكة الداء والموت بلغة يائسة وتجريدية لا تجد أي مجال للتفريق بينهما، تلجأ أندريه شديد إلى لغة رمزية لابتكار امرأة استثنائية لا تريد أن تستسلم أمام المرض والموت مستخدمة إياهما ككناية أكثر منهما واقعا، تقدم من خلالهما صورة لامرأة مصرية رائعة تفضل حدسها على الحسّ العام وذكاءها على الواقع الماثل أمامها لا فكاك منه. ومن هنا إذا كانت الحكاية في قصيدة نازك الملائكة حكاية مرض وموت، فإن الحكاية في "اليوم السادس" حكاية أم حسن والمقاومة الشرسة التي تبديها ضد كلّ ما كان يبدو سوداويّا قاتلاً.