القول بأن النقد الأدبي العربي يعاني أزمة، ليس جديداً، وقد ذهب كل من تبنَّاه إلى أسباب مختلفة تقف وراء تلك الأزمة الافتراضية، ومنهم الدكتور محمود الضبع أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة قناة السويس والحائز على جائزة طه حسين في النقد الأدبي، والذي رأى في أحدث كتبه؛ وهو متعلق بشكل مباشر بالموضوع؛ أن الأمر يرتبط بـ"الإغراق في الأكاديمية"، ومن ثم "الابتعاد عن مواصلة القدرة على قراءة المشهد الأدبي الراهن، واستمرار الوقوع في فخ التبعية الغربية ومناهجها التي انتهى وجودها بين منتجيها".
هذا الطرح يرتبط أيضاً بالموضوع ذاته، ولكن من زاوية أخرى ذات علاقة وثيقة به، وهي البحث المتصل عمّا يسمى نظرية عربية في النقد الأدبي، وهو طرح أختلف معه كما اختلفَ معَه كثيرون يرون أن النظريات – والعِلم عموماً- لا دين لها ولا موطن، وأنها بالتالي قابلة لأن يستفيد منها الجميع وأن يجري العمل هنا وهناك على تجاوزها ليتحقق التطور الذي تنشده الإنسانية بمختلف لغاتها وثقافاتها.
الكتاب يحمل عنوان "أزمة النقد وانفتاح النص: نجيب محفوظ والفنون السبعة"، وقد صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتكمن أهميته من وجهة نظري، ليس في إعادة طرح مقولة أزمة النقد، ولكن في ربط تحليل النصوص الأدبية بانفتاحها الحتمي على فنون عدة، بما أن خبرة الكاتب - أي كاتب- لا بد أنها قد تشكَّلت عبر احتكاك ضروري بالشعر والمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي، وغيرها من الفنون والمعارف والعلوم، في إطار بيئته، وهي بيئة اتسعت وتعمَّقت بفعل الثورة المعلوماتية وازدهار التعاطي مع السوشيال ميديا، فبات التثاقف عولمياً أكثر من أي وقت مضى، وتضاءلت؛ من ثم؛ مساحات التباين بين الثقافات لتقترب أكثر من المشترك الإنساني الرحب والعميق. وأهمية الكتاب تتصل كذلك باختيار نجيب محفوظ بالذات لتكون رواياته ونصوصه الأدبية عموماً مجالاً للتعامل معها باعتبارها نصوصاً مفتوحة على تأويلات تستند إلى "سبعة فنون"، مهما تقادمت فإنها تظل معيناً لا ينضب لتشكيل الوجدان البشري في أي مكان وفي أي زمان، وحتى في ظل التطورات التقنية المتسارعة في عوالم تلك الفنون نفسها وفي عالم الكتابة الأدبية أيضاً، وفي عالم النقد الأدبي بالتبعية. ويظل نجيب محفوظ نفسه خير مثال على ذلك الانفتاح، بما أنه يُقرأ الآن بأكثر من خمسين لغة، وتحوّلت روايات له إلى أفلام سينمائية عالمية. وقد يرى البعض أن الإنتاج الأدبي لنجيب محفوظ والذي حصل بمقتضاه على أرفع جائزة أدبية في العالم، وهي جائزة نوبل في الأدب عام 1988، قد أحيط بها نقداً أدبياً وثقافياً منذ سيد قطب في الأربعينيات مروراً بأسماء نقاد آخرين أكاديميين وغير أكاديميين من العرب وغير العرب، وبالتالي صار من الصعب أن يأتي النقد بجديد في تناول "أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" و"الحرافيش" و"بين القصرين" و"اللص والكلاب" و"المرايا" و"قلب الليل"، وغيرها من روائع هذا الأديب الكبير.
زوايا نظر جديدة
لكن كتاب الدكتور محمود الضبع يؤكد أن ذلك ليس صحيحاً بما أنه "ابتكر" زوايا نظر نقدي إلى تلك الأعمال وغيرها من إبداعات نجيب محفوظ. وقد سبقه أو تزامن معه -على سبيل المثال- كتاب الأديب والناقد سيد الوكيل "مقامات في حضرة المحترم"، الصادر مؤخراً عن دار "روافد"، وفيه أيضاً يبتعد الوكيل قدر الإمكان عن صيغ النقد الأدبي التقليدية، ليبتكر، زاوية خاصة في قراءة العديد من أعمال نجيب محفوظ، تتكئ على مقاربة "صوفية" اتخذت العناوين التالية: "مقام الأسرار"٬ "مقام الكمال"٬ و"مقام الوصل"، وجعلت له - أي لمحفوظ- ريادة نوع أدبي هو "كتابة الأحلام"، التي سار على دربها عدد من الكتاب من أجيال تالية، منهم سيد الوكيل نفسه، وشريف صالح، على سبيل المثال.
وفي مقمة الكتاب الذي نحن بصدده، يقر الدكتور محمود الضبع بدايةً بأن "كتابة نجيب محفوظ محيرة، ندخل إليها بمنطق وفكر، فتفرض علينا منطقها وفكرها، ونرتكن إلى تأويل لرموزها ودلالاتها، فتفتح لنا أبواباً جديدة من التأويلات، نصنفها ونرسم حودها واتجاهاتها، فتعيد علينا طرح رؤى جديدة للتصنيف والمداخل" صـ11. ويضيف أن "من هنا كانت هذه القراءة من منظور حضور الفنون والآداب والحقول المعرفية والثقافات المتنوعة؛ ليس فقط في أعمال نجيب محفوظ وتحليل جمالياتها وإنما أيضاً للتطبيق على مدخل: الاشتغال بثقافة النقد ونتاج درسه، وليس بتطبيق منهجه، وهي محاولة لفتح بوابة قد نختبر مسالكها في طريقنا للبحث عن مخرج لأزمة النقد العربي، وإعادة تواصله مع مجتمعات المعرفة وثورة الاتصال والمعلوماتية وغيرها من الوسائط والآليات التي غدت تتحكم في الإنتاج المعرفي عموماً، وفي الإنتاج الأدبي وقراءته وتلقيه، وأساليب تداوله كما يعيشها العالم من حولنا.
ويمضي الدكتور الضبع في مقدمته ليركز على منطلقه الحاص بأزمة النقد الأدبي العربي، وهو الأمر الذي سبق أن أوضحنا هنا اختلاف الناس عليه، فيقول: "ولعل هذه القراءة الثقافية هي التي ستسمح بتوسيع أفق النقد العربي ومن ثم عودته للتواصل مع الخطاب الثقافي المعاصر بأبعاده، وأجياله المتنوعة وتعدد الأذواق العامة للاستقبال والتلقي، أو تجعلنا نعيد النظر في قراءة نجيب محفوظ وعدم حصره فقط في مراحل التقسيم التاريخي والواقعي والفلسفي، والخروج به إلى انفتاح النص وتعدد القراءات وتنوع المداخل وتعدد الاتجاهات وتداخل الفنون والآداب والتفكير في ثقافته وليس في تخصصه فحسب". ويصرّ الدكتور محمود الضبع في هذا الصدد على أن المنهج الغربي غرَّر بالنقد العربي وأوقعه في التغريب، فانفصل عن النص وعن الواقع، ناهيك بالطبع عن تبعية هذه المناهج لفلسفات ونظريات اقتصادية وسياسية واجتماعية كانت تمثل توجهات في مجتمعاتها، وكانت ترجمتها للعربية تتأخر من الأساس لسنوات طويلة تتجاوز الخمسين أحياناً، ما يعني أن الوعي بها في بلادها قد تجاوز الحدود". وهو طرح، كما أسلَفنا، قابل للأخذ والرد، في إطار المتعارف عليه عربياً وغربياً، بل والأحرى إنسانياً، من نقد النقد.
بعد المقدمة، يتضمن الكتاب (232 صفحة من القطع الكبير) تسعة فصول، جاءت في إطار مخاطبة القارئ العام وليس المتخصص بالضرورة بحسب ما سبق أن أكده محمود الضبع نفسه خلال ندوة تناولت الكتاب. يحمل الفصل الأول عنوان الكتاب نفسه، ويتناول التحولات العالمية في مفاهيم الإبداع والفكر والفلسفة، أزمة النقد وانفتاح النص، مداخل قراءة النص العربي، القراءة الثقافية والمثاقفة، ومن الأحادية إلى التعدد، ونجيب محفوظ والفنون السبعة (قراءة ثقافية). أما الفصل الثاني فحمل عنوان "الاستهلال السردي والفنون السبعة في رواية نجيب محفوظ"، أما عناوين الفصول التالية فجاءت على النحو التالي: "تنوع الحضور الثقافي في النص المحفوظي"، "الفكري والفلسفي في أدب نجيب محفوظ"، الصداقة والأيديولوجية في أدب نجيب محفوظ"، "ثورة الإنسان في قلب الليل"، "قصص محفوظ القصيرة: الفنون واتساع الرؤية"، "فن الأحلام عند نجيب محفوظ"، و"الفن السابع وأدب نجيب".
وفي الفصل الأخير تناول الدكتور محمود الضبع رواية "أفراح القبة" بين النص الروائي وفنون العرض، وفي طياته يذهب المؤلف إلى أنه كما أن محفوظ قد أفاد من السينما بتقديم أعمال روائية واقعية وإن كانت لا تخلو من أبعاد فلسفية وتشريح لبنية المجتمع، فإن السينما قد أفادت نجيب محفوظ وطورت من تقنيات الكتابة لديه، وبخاصة في ما يتعلق بالمشهدية ورسم الصورة وتقنيات التعامل مع السيناريو، وهو مرحلة وسيطة بين الرواية والفيلم، يتم فيها تقطيع المشاهد إلى صوت وصورة وتوصيفها توصيفاً دقيقاً من جهة حركة الكاميرا والإضاءة ومكونات المشهد والأصوات المصاحبة له الأساسية والخلفية، بهدف تحويلها إلى مشاهد مرئية. وفي هذا السياق يلاحظ محمود الضبع تطابق بعض الأعمال السينمائية مع نصوص محفوظ السردية إلى حد كبير، مثل ثلاثية "بين القصرين"، "قصر الشوق"، و"السكرية"، و"الطريق"، كما تبتعد بعض الأعمال التي رصدت للحكاية دون إمكانية الإمساك بروح النص، فلم يستطع مثلاً فيلم "ثرثرة فوق النيل"، الإمساك بروح النص، وأسقط تياراً كاملاً كان يمرره نجيب محفوظ عبر النص الروائي وهو تيار حضور التاريخ مصوراً إلى خيال "أنيس زكي" وتفاعله معه، ذلك الحدث الذي يتكرر عبر مشاهد الرواية في العوامة ومع أنفاس الحشيش كما يرصده النص الروائي، ويغيب عن الفيلم السينمائي.
ومعروف أن هذا الفيلم تمَّ إنتاجه عام 1971 وأخرجه الراحل حسين كمال، والغريب أن نجيب محفوظ كتب له السيناريو، وفقاً لموسوعة ويكيبيديا، ما يجعله شريكاً في مسألة عدم استطاعة الفيلم الإمساك بروح النص، وفقاً لملاحظة الدكتور محمود الضبع! علماً أن رواية "ثرثرة فوق النيل" صدرت في كتاب عام 1966 بعد نشرها مسلسلة في جريدة "الأهرام". ولكن في المقابل هناك مصادر توثيق أخرى تنسب سيناريو هذا العمل إلى الراحل ممدوح الليثي. وأياً يكن الأمر فإن نجيب محفوظ نفسه لطالما أكد أنه يرفض أن يحول بنفسه عملاً أدبياً له إلى فيلم على الرغم من أنه أشتهر بكتابة سيناريوهات عدد من الأفلام المأخوذة عن روايات أو قصص لكتاب آخرين، منهم إحسان عبد القدوس مثلاً.
وهناك – كما يؤكد محمود الضبع- أعمال لنجيب محفوظ تم اقتباسها في أعمال درامية عن قصص قصيرة له، ومنها مثلاً مسلسل "الرجل الآخر" الذي عُرض عام 1999من بطولة نور الشريف وميرفت أمين ومن إخراج مجدي أبو عميرة، وتأليف مجدي صابر! مع أنه مأخوذ عن قصة "أهل الهوى" من مجموعة "رأيت في ما يرى النائم"، من دون ذكر محفوظ من قريب أو من بعيد، على الرغم من اعتماد المسلسل كلية على القصة، وبالأسماء والأحداث ذاتها التي رسمها العم نجيب، مع عدم قدرة المسلسل على الإمساك بالروح الفلسفية للنص، وفق دراسة تحليلية ليحيى الرخاوي.