مع "طفح الكيل"، أنجز المخرج المغربي محسن البصري فيلمه الروائي الطويل الثاني. بعد "المغضوب عليهم" الذي لفّ على عددٍ كبيرٍ من المهرجانات الدولية ونال الجوائز، تفرّغ البصري إلى السينما كلياً، هو الذي يأتي من سلك التعليم. "طفح الكيل" ليس سوى صرخة غضب يطلقها المخرج الأربعيني ضد المهانة والتهميش اللّذين يتعرّض لهما الإنسان المغربي في وطنه. الحكاية تتمحور حول "أيوب"، ابن السنوات الخمس الذي يُنقل إلى المستشفى بعد شعوره بألم شديد في الرأس، فيخضع لعملية جراحية. أمه ووالده يتكبّدان عناء نقله من البادية إلى المدينة، ولكن لا يجري كلّ شيء كما كانا يشتهيان.
بأسلوب هادئ ولغة رصينة، يدخلنا البصري إلى مستشفى تابع للحكومة في الدار البيضاء، الذي يتحوّل إلى "ميكروكوزم" للمجتمع المغربي برمّته، لمشاكله التي بلا حلول وأمراضه المستعصية. عبر التقاط شذرات يومية، نشهد على الرشوة والإهمال والإتجار بالبشر داخل أروقة مؤسسة طبية من المفترض أنها مؤتمنة على حياة المواطن.
لغة مباشرة
عن اللحظة التي وُلد فيها الفيلم، يقول البصري: "بدأتُ العمل على الفكرة منذ عام 2012، بعد الانتهاء من إنجاز فيلمي الأول. أردتُ التكلّم عن المجتمع المغربي بإطاره العام بلغة غير مباشرة، عن طريق الاستعارة. مجتمع يعاني الأمراض والفساد، كمعاناة الدول العربية ودول أخرى. من هنا، ارتأيتُ التصوير في مكان واحد (المستشفى) كاختزال مجتمعي. اكتشفتُ أثناء الفيلم عدداً من الشخصيات، لكلّ منها صفة أو ناحية تمثّل المجتمع. كيف اجتمعت بأسرها في حيّز واحد؟ المجتمع بكاملة في مكان؟ هنا الرسالة. تطلّب الأمر وقتاً. كيف أبعث برسائل من دون خطاب أو لغة مباشرة؟ أردتُ شخصيات تترك انطباعاً بالإلفة، فيشعر المتلقّي بأنّه يعرفها. وددتُ كائنات حيّة، كأن تكون الزوجة أو الأب أو الممرض أو الطبيب نماذج بشرية يمكن التعايش معها. هذا تطلّب وقتاً في الكتابة وبناء الشخصيات، أكثر من القصة التي أردتُها بسيطة: عائلة فقيرة في قرية، لديها طفل يعاني أوجاعاً في الرأس. ظنّوا أنّه أمر عابر ولا بدّ من الاكتفاء بالدواء، ليكتشفوا أنّ لديه ورماً في الدماغ يتطلّب إخضاعه للجراحة. مرور الوقت يجعل الخطر أكبر ويعرّضه لبتر ساقه. الخطر الداهم يمنح الفيلم لحظات شحن سينمائية. إلى تفاصيل أخرى، تختزل حالة الميكروكوزم التي أردتُ إيصالها".
ولكن، هل أجرى البصري بحوثاً قبل كتابة السيناريو، هل زار مستشفيات والتقى أطباء؟ هذا ما وددتُ معرفته، خصوصاً أنّ فيلم كهذا ينطوي على عددٍ كبيرٍ من التفاصيل الطبية التي يُفترض الاطّلاع عليها قبل التنظير بشأنها. يقول: "وبينما أكتب، كنتُ أعاين المشهد على الأرض، خصوصاً في الدار البيضاء. كنتُ أرتاد الطوارئ ليلاً وأدّعي أنّني أعاني ألماً، فأراقب الوضع في المستشفيات. أمكن الحصول على المعلومات بسرعة أكبر، لمجرّد النقاش مع طبيب مثلاً. لكنني كنتُ أبحث عن الجوّ. أردتُ أن أشعر. ما إحساسك وأنت تمضي الليل بأكمله في المستشفى؟ كان المرض قد أصاب والدتي. زارت طبيباً، فلم يكترث لحجمه، مكتفياً بوصف دواء. لم يُخضِعها لفحص "سكانر"، إذ لم يكن متوفّراً. في النهاية، سافرتْ إلى سويسرا وأُخضِعت لجراحة في اليوم ذاته. أخبرني الطبيب أنّها لو أُرجِئت يوماً إضافياً لكانت شُلّت. ما جرى مع أمي، ألهمني فكرة المرض وتداعياته كالبتر والشلل النصفي. من هنا اخترتُه. لكنّ مناخ المستشفى لازمني منذ البدء. كلّما دخلت مستشفى في أي دولة، ستكتشف شيئاً ما، خصوصاً في المستشفيات الحكومية. النظام الطبي يختزل صورة البلد. حين طلب المغرب انضمامه إلى كأس العالم، ووصل إليه (جوزف) بلاتير (رئيس الفيفا آنذاك) زائراً، فإنّ أول ما فعله هو تفقّد الطوارئ. وجد أن الظروف هناك غير مطابقة لشروط الاستضافة، فاتّخذ قراره".
الناحية الأسلوبية
لا يمكن تجاهل الناحية الأسلوبية في الفيلم عند الحديث عنه: المعالجة الهادئة، عدم الاستعجال، وسط سيطرة تامّة على الأجواء. يقول البصري إنه يشعر أنّ هذا هو بالنسبة إليه فيلمه الأول. ذلك أنها المرة الأولى التي يعمل فيها بشروط تتيح له الوقت الكافي للتحضير. يشرح قائلاً: "تكلّمتُ مع المنتجة وناقشتُ معها التفاصيل، مع إتاحة الوقت للعمل على كلّ مَشهد، وإن تطلّب الأمر يومين لتصوير مشهد واحد. هذا جعلني أرسم اللقطات بتروٍّ، وأختار بعناية الزوايا والكومبارس الذي تطلّب في ذاته جهداً خاصاً. تُشبه قصّة أيوب مئات القصص من حوله. رافقني هاجس آخر خلال التصوير. نحن مجتمعات مُتكلّمة، نُردّد غالباً نحو عشر جمل من أجل الحصول على فنجان قهوة. كان أمامي خياران: إمّا التنازل عن الحوار، وبذلك سأقدّم عملاً لا يُشبه المجتمع، أو إخراج الحوار الذي لا أريده من الكادر. فتُقال أشياء لا تُسمَع جيداً ولا تُلحَق بها الترجمة، لكنّها تجعلك تشعر بأنّك في وطن عربي، الناس فيه تتكلّم كثيراً، إنّما الكاميرا تركّز على العُمق. كما أنني عملتُ أيضاً على ضبط انفعالات الممثّلين لتفادي الوقوع في المبالغة. حاولتُ تجاوز هذه المسألة".
بما أنّ البصري يقيم في سويسرا منذ سنوات، ألا يجد صعوبة في التواصل عن بُعد مع مجتمعه المغربي لمحاكاة إشكالياته سينمائياً؟ يقول إنه بإمكان الفنّان أن يرى المجتمع من مسافة. "أزور المغرب كلّ شهرين تقريباً، مدّة أيام، بدافع العمل أو قضاء وقت مع العائلة. يتيح العيش في الخارج، رؤية أمور لا يستطيع آخرون في قلب المجتمع رؤيتها. العادة تجعلنا نغضّ النظر. المسافة تمنح مساحة، فتلاحظ ما تغيّر، وما لم يتغيّر. وجودي في الخارج عامل إيجابيّ. ثم إنّ العالم قرية صغيرة بفعل مواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، فلا تشعر أين مكانك وفي أي بقعة من العالم أنت. الحصول على المعلومة متاح وسهل، فأعرف يومياً ماذا يجري في المغرب أو مصر أو تركيا".
المغرب من البلدان العربية التي لم يمرّ بها "الربيع العربي". في المقابل، نهاية "طفح الكيل" دعوة إلى الانتفاضة على الوضع. الأمر الذي لا يراه البصري من هذه الزاوية، قائلاً إنّ الدعوة ليست وفق مفهوم "الربيع العربي" الذي قد يُسمّى خريفاً أو أي شيء آخر. يقول: "تفاءلتُ جداً أيام الثورة، حين انطلقت الشرارة في تونس ومصر. ثم فقدنا الأمل. شاهدتُ ما يحدث في العالم، لا في دولنا العربية فحسب، وتوصّلتُ إلى أنّ الديمقراطية هنا قد تكون الفاشية في إيطاليا أو فرنسا. فقدتُ الأمل حتى في السياسيين. وعود تلو الوعود، وهم لا يسعون سوى خلف المناصب. كلامهم أكاذيب ووعودهم زائفة. استعنتُ بقصيدة أحمد مطر الذي يحضّهم فيها على الخروج. "طلعوا برّا". مَن أخاطبه في الفيلم هو المجتمع المدني القادر على صناعة التغيير. هذه منطلقات الثورة عندي، لا "الثورة" ضد الحكومة والحكّام. فقد يُطاح بحاكم ليأتي مَن هو أسوأ منه في الغالب".