هذا كتاب في مديح السفر، ولا نقول إن صاحبه استشرف منع السفر الذي يعيشه العالم في الوقت الراهن إلى أمد غير معلوم، بسبب فيروس كورونا القاتل، ولكنه ينطلق من سؤال: ماذا لو حُرِمَ الإنسان من نعمة السفر وفُرِض عليه المكوث طوال سنوات عمره في مكان محدد لا يبرحه؟ ولا يخفى أن العالم يواجه الآن هذا السؤال، ويناضل من أجل نسيانه والعودة مجدداً إلى ما كان عليه حتى وقت قريب مضى، بما أن فكرة الانعزال لأمدٍ طويل، حتى ولو كانت من أجل تلافي موت محتَّم، لا يمكن تقبلها في شكلٍ مطلق، لأسبابٍ فطرية ودينية وثقافية واجتماعية وإقتصادية متشابكة.
الكتاب يحيل عنوانه "غرفة المسافرين"، إلى معنى راسخ في الثقافة المصرية، خصوصاً لدى المنحدرين من أصول ريفية، فبيوتهم كانت تضم دائماً غرفة للمسافرين، تكون عادة بمعزل عن باقي غرف البيت، لاستضافة قريب أو صديق، جاء من بلدة أخرى سواء لمجرد الزيارة أو لقضاء حاجة ما، فتكون تلك الغرفة جاهزة لمبيته وإكرامه وصون خصوصيته وخصوصيات أهل الدار في الوقت ذاته، ومن ثم لا يضطر إلى البحث عن فندق لينام فيه، ولا يضطرون هم إلى العيش على غير طبيعتهم في وجود ذلك الضيف. صدر الكتاب في بداية العام الجاري عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وفيه يتأمل الروائي المصري عزت القمحاوي فكرة الولع بالسفر، الذي ارتبط بالإنسان ربما منذ بدء الخليقة. ويستهله تحت عنوان "في المعنى" على النحو التالي: "إليكم افتراضي الذي أؤمن به إيماناً مطلقاً: مَن لم يسافر، ولو عبر قصةٍ في كتاب، لم يعش. ولأنني أخشى تهمة المبالغة، ومن باب تجنب الشِقاق مع قارئ أسعى إلى صحبته، أعدل عبارتي إلى: من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش سوى حياة واحدة قصيرة".
وهكذا يكون تأمل أحد أبرز الكتب في تاريخ الإنسانية "ألف ليلة وليلة"، منطقياً بعد ذلك الاستهلال، خصوصاً في ما يتعلق بفكرة السفر والتي انطوت عليها حكايته الأساسية، قبل أن تعبر عنها حكايات كثيرة أخرى يضمها، وباتت معروفة لدى كثير من القراء من ثقافات شتى. وتحت عنوان "مبدأ القوة"، يستوقف القارئ حديثُ القمحاوي عن "روما"، مثلاً، فتبدو مدينة غير التي حوَّلها فيروس كورونا إلى حجرٍ صحي كبير... "روما، المدينة الحرة، تضغط على سكانها بالبذخ، جمالها متفاخر، فخامة العمارة، كرنفال الألوان في الملابس والورود والمطعم الغني، تجعل زائرها مبهوتاً محسوراً مثل كافر رأى معجزة".ويضيف القمحاوي: "لم أكن أول من اكتشف أن روما تجبر زائرها على السير مرفوع الرأس، لكن هذه الوضعية لا تعني تفاخر الزائر وغروره، بل مجرد انتصاب للقامة تجبره عليه المدينة، لا ليزهو بنفسه، بل ليتأمل جمالها الذي ينثر بهجة سريعة الزوال ويخلف ندبة في القلب". ويستطرد القمحاوي متحدثاً عن ولعه بإيطاليا ما قبل كورونا: "لو كان لي أن أختار موطناً لما يتبقى من حياتي فسيكون فيرونا، بشرط أن يكون البيت في أبعد مكان ممكن عن ضريح الحب وحجيجه المؤمنين بكراماته: فيلا جولييت".
حزن البندقية
وتحت عنوان "لماذا علينا أن نحب فينيسيا أو البندقية؟"، يؤكد القمحاوي أن فينيسيا هي المكان الذي يزور محبي السفر في أحلامهم ويناديهم، مثلما تفعل المدن المقدسة في أحلام المؤمنين". ويواصل القمحاوي وكأنه يتحدث عما يمكن فعله بعد زوال كابوس كورونا: "لكي تقاوم حزن فينيسيا عليك أن تتسلح بنظرة سطحية، تضرم النار في وقتك بالتقاط الصور وشراء التذكارات وزيارة مشاغل الحرف اليدوية، أما التعمق، فخطر، سواء انتبهت إلى هرطقة العمارة أو تعمقت في الإشارات المتضاربة للماء، فالبحر أحد وجوه اللامتناهي في الكون، وكل ما لا نحيط بحدوده جميل ومخيف، مع ذلك فماء فينيسيا ليس بحراً تماماً، هو مستنقع آسن وعكر، لا يرقى إلى صورة الخالد المطلق، ولا موج فيه يستدعي رمز القوة" صـ130، 131.
السفر ولع يوحد البشرية؟ نعم، هذا ما يجد عزت القمحاوي نفسه مؤمناً به، ومدافعاً عنه، معتبراً أن كل الأماكن تصلح موضوعاً لحلم السفر، حتى بلاد العالم الثالث التي يتحملها أهلها كعقوبة على ذنب لم يقترفوه، على حد تعبيره. هو يرى أن كل الأماكن لديها القدرة على خلق مجانين يعشقونها، والعاشق لا يعرف بالضرورة أسباب عشقه. هو يفترض، لكنه يميل إلى تصديق أن الولع بالسفر بدأ مبكراً جداً، منذ أن عرف الإنسان ألم الوجود، وأدرك ان عليه التزود بما يقدر عليه من الحياة، بما أن السفر "بمعنى ما" هو سعي للعيش الكثيف، "طالما أن وقتنا على الأرض محدود" صـ15 وإذا كان المبصر يستطيع أن "يعيش" على ذلك النحو، فإن الكفيف بمقدوره أيضا "أن يرى"، في السياق ذاته، حتى أن التنافس المحموم – كما يقول القمحاوي- بين الوجهات السياحية الشهيرة أوجدَ "سياحة المكفوفين"، التي تتضمن وسائل الراحة والانتقال وإرشاداً سياحياً خاصاً، يوفر إمكانية اللمس ويبتكر طرقاً مختلفة للشرح تمنح الأعمى تصوراً أقرب إلى حقيقة تمثال أو معبد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأدب والسفر
هنا يبرز طه حسين الذي لطالما اعتبر زوجته سوزان عينيه التي يرى بهما في السفر، وهي اعتادت خلال حياتهما المشتركة أن عينيها لهما معاً: "وأمر أمام مقهى الكاردينال حيث كنا ننظر إلى زخرفته، وأتخيل إعجابنا وتسامحنا"، بحسب ما ورد في كتابها "معك" الصادر عام 1987 عن دار المعارف في القاهرة بترجمة بدر الدين عرودكي.
ويظل الغموض أحد أهم أسباب عشقنا للسفر، يقول القمحاوي، وهو بالمصادفة أهم ركائز الأدب العظيم، مشيراً في هذا الصدد إلى أنه قد اجتمعت لـ"الموت في فينيسيا" كل عوامل الغموض الممكنة التي جعلت تلك الرواية التي كتبها توماس مان في 1910 تتخطى قرناً من الزمان بكامل عظمتها، وفيها مسافر لم يقو في ظل شغف غامض على اتخاذ قرار المغادرة بعد أن علم بتفشي وباء الكوليرا، وظل في المدينة حتى غمره زحف ذلك الوباء. ومن فينيسيا إلى القاهرة التي يسميها المصريون "النداهة" في تفسير أسطوري لسحرها، عبر الاعتقاد بأن ثمة جنية تسكنها تنادي الغرباء، وقد التقط يوسف إدريس ذلك الخيط في قصة حملت العنوان نفسه، نشرت في كتاب عام 1969 قبل أن يحولها حسين كمال إلى فيلم عام 1975 حمل العنوان نفسه. يوسف إدريس – يقول القمحاوي- أبعد ما يكون عن تشاؤمية شوبنهاور وسوداوية نيتشه اللتين تجلتا في رواية توماس مان، لكنه جعل "فتحية"، تلك الفتاة الريفية، بطلة قصة "النداهة" تستسلم لضياعها في القاهرة. في القاهرة أيضاً كان حجاج المغرب العربي يتوقفون في طريقهم إلى الحجاز، ليزوروا مسجد الإمام الحسين وضريحه الرمزي، وكان بعضهم يكتفي من الرحلة بهذا القدر، فلا يكمل الرحلة، أو يكملها ثم يتوقف في رحلة العودة. وهؤلاء –يقول القمحاوي- صاروا في ما بعد أولياء، وصارت مدافنهم مزارات... فتنتهم مصر، وبدورهم فتنوها. أما أنطوان دو سانت إكزوبري، فيضعه القمحاوي من زاوية أخرى، نقيضاً لتوماس مان، في إطار المقارنة بين "الموت في فينيسيا"، و"الأمير الصغير"، وارتباطهما بفكرة السفر، فبينما رسم الكاتب الألماني بكلمات مشحونة بشهوانية يائسة جمالاً مهدِدا لصبي، لم ير الكاتب الفرنسي في جمال صبيه أي تهديد، رسمه بالريشة، وترك للكلمات التعبير عن عاطفته وعاطفة الصبي تجاه العالم. لكن صاحب رواية "يكفي أننا معاً" يرى أن هاتين الروايتين رحلة، وفي كل منهما كهل وصبي جميل... "لذلك أفترض أن "الموت في فينيسيا" كانت في ذهن إكزوبري، عندما كتب "الأمير الصغير"، وأنه وضع وصف توماس مان للفتى تاديزيو عنواناً لتحفته، كمفتاح ينبهنا إلى أن العمل الأخير هو معارضة أدبية للعمل الأول" صـ 33. ومن الأدب إلى الأسطورة، يرى صاحب "بيت الديب" أن بوسعنا أن نرى في رحلة نوح وما حمل في سفينته من أزواج الكائنات، أمثولة للاصطفاء الديني إلى جانب أنها قصة الهروب الوحيدة الناجحة، ونرى في الفرار غير المجدي لأوديب مثالاً للحبكة الأدبية المحكمة، لكنها تقول كذلك إن الفرار من الموت سعي خائب، مع ذلك لا نتخلى أبداً عن المحاولة" صـ45
وتمتد تأملات القمحاوي في هذا السياق لتعرج على أقدم الملاحم الشعبية المعروفة، التي تعكس فكرة الولع بالسفر، وأثرها في الأدب الحديث والسينما، ومن ذلك مذكرات كزانتزاكس "العودة إلى غريكو"، وأفلام الروسي أندريه تاركوفسكي واليوناني ثيو أنجلوبولس ورومان بولانسكي وكريستوف كيسلوفسكي. في أفلام هؤلاء - يلاحظ القمحاوي- لا نرى حكايات بقدر ما نرى تحديقات مطولة لعدسة كئيبة تسافر بحثاً عن خلود، تعرف مسبقاً أنه غير موجود، لكنها تواصل نحتها الصبور في الزمن، وتنتهي إلى أن الرحلة إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا، كي لا ننسى في هذا السياق ابن الإسكندرية قسطنطين كفافيس" ص_37.
يكتب القمحاوي عن خفة الكائن خارج مكان عيشه الأصلي، عن السفر بوصفه موتاً لذيذاً نعود منه لنتأكد أن مَن نضحي بحياتنا من أجلهم يستطيعون العيش من دوننا.