في المستقبل، ربما يُطلق على العام 2020 اسم "عام الكمامة" ويشتهر به كما الأعوام التي سميت عبر التاريخ بأسماء أحداث مهمة حصلت فيها (عام النكبة، عام الطاعون...). فهذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يضع فيها معظم سكان الكوكب الكمامة على وجوههم في الوقت نفسه ولمدة طويلة، قد تطول أكثر. ومؤرخو المستقبل حين سيعودون إلى أرشيف الصور لعام 2020، لن يجدوا صورة من دون الكمامة التي تصدّرت المشهد كسلاح "فعّال" في المعركة ضد فيروس كورونا المستجّد.
وتكاد الكمامة تصبح جزءاً من الملابس التي يرتديها الناس. فكما للجسد ملابسه التي تغطيه، صار للوجه ما يغطيه أيضاً. وهذا ما دفع كثير من بيوت الأزياء والموضة إلى تصميم كمامات بألوان مختلفة وموديلات تناسب ألوان الملابس وتصاميمها، وبعضها مزيّن بأحجار كريمة وأخرى ذات تصميم عصري، ينزع عن الكمامة كونها أداة تحمي الجهاز التنفسي من الجراثيم والفيروسات والغبار والهواء الملّوث ومن انتقال العدوى، إلى جهاز يناسب الأذواق المختلفة لأشخاص تعنيهم الموضة وصورتهم الشخصية أمام الجمهور أو المتابعين عبر قنوات التواصل الاجتماعي بقدر ما يعنيهم الحفاظ على صحتهم.
والكمامة ليست جديدة، إلا بشكلها الطبي، لكن تغطية الأنف والفم لطالما كان حاجة لكثيرين. فمثلاً، رجال قبائل الطوارق يغطون الأنف والوجه بطبقة سميكة من القماش منعاً لغبار العواصف الرملية التي تهب في الصحراء الأفريقية الكبرى التي يتنقلون فيها. ويُقال إن البرقع الذي تغطي به النساء وجهها في بعض الدول العربية الصحراوية كان لهذا السبب قبل أن يكون دليلاً على الحشمة. وهناك شعوب ارتدت الكمامات قبل كورونا وقبل انتشار الفيروسات، وخصوصاً في عواصم الدول الآسيوية التي شهدت حركة صناعية أدت إلى تلوّث الهواء فيها، مثل طوكيو وبكين وكوالامبور وبانكوك وهوشيمنه، حيث كانت الكمامة ترافق كثيراً من سكانها في تنقلاتهم اليومية. أما في كاتماندو عاصمة النيبال التي يطلق عليها اسم "سقف العالم" لكونها أعلى عاصمة في العالم، فإن الكمامة "لباس" عادي لجميع سكانها، لأنها أكثر المدن تلوثاً على الرغم من أنها غير صناعية، وذلك لأن تلوّث العالم الصناعي يتجمع فيها، كما يرتفع دخان الموقد نحو السقف في الغرفة.
فاعلية الكمامة
حتى اليوم، ومنذ بدء انتشار العدوى بفيروس كورونا، ما زالت الكمامة محل أخذ ورد في فائدتها لردع هذا الانتشار. فهناك دول تفرض على مواطنيها وضع الكمامة في الأماكن العامة وخلال التجمّعات. في حين تؤكد منظمات صحية أن لا فائدة من استعمال الكمامة في مواجهة الفيروسات. وفي مقدمة تلك المنظمات منظمة الصحة العالمية التي دأبت على نشر بيانات تتعلّق بالكمامة وطرق استخدامهعا والحالات التي تُستخدم فيها.
فالكمامات ليست أجهزة تنفس كما يعتقد كثيرون ممن أصابهم الهلع أو الأكثر قلقاً على صحتهم. وهي ليست مخصصة للحماية من أمراض الجهاز التنفسي، وإنما تصلح في منع استنشاق جزيئات كبيرة من الغبار أو الأوساخ. لذا، فإن منظمة الصحة العالمية توصي باستخدامها "في حال كنت تعتني بشخص مشتبه في إصابته بفيروس كورونا" فحسب. على الرغم من أن كمامات الوجه نافذة، إذ يمكن للجزيئات الفيروسية الدخول عبرها بسهولة إلى الفم أو الأنف. وكما هي الحال مع ارتداء القفازات، فإن الكمامة تحقق شعوراً زائفاً بالحماية، فيقوم مرتدوها بملامسة الأشياء ومن ثم لمس عيونهم أو أنوفهم أو أفواههم. ما يزيد في فرص تعرّضهم لالتقاط الفيروسات.
وفي معلومة لا يعرفها كثيرون من مستعملي الكمامة، أنها صُمّمت بلونين، أبيض وأزرق، لغرض معين. ففي حال كنت المريض فستقوم بارتدائها كي تحمي الناس من العدوى، لذلك يجب أن يكون اللون الأبيض هو الملامس لوجهك، واللون الأزرق ظاهراً للخارج. أما في حال كنت سليماً وتريد أن تحمي نفسك من العدوى، فيجب ارتداء الكمامة بحيث يكون اللون الأبيض للخارج، والأزرق ملامساً لوجهك. فالكمامة مصممة بحيث تكون فلترة الجراثيم تبدأ من اللون الأبيض في اتجاه الأزرق، وليس العكس.
مبادرات لإنتاج الكمامات
لكن، على الرغم من هذه الاختلافات في الرأي حول الكمامة ودورها، إلا أن الحاجة إلى الشعور بالأمان باتت حافزاً لتصاعد حمى شرائها بعدما فقدت في معظم مخازن الدول. فازدهرت الصناعة المنزلية للكمامة واشتهرت أمهات يعملن على آلات الخياطة في منازلهنّ يقدّمن دوروساً في صنع كمامة من قطعتي قماش قطن بينهما عازل من طبقات مناديل. وانتشرت لهنّ فيديوهات كثيرة على شبكة التواصل الاجتماعي ولقيت رواجاً كبيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانتشرت معامل تنتج الكمامات وأنشئت على عجل في مدن العام الثالث تحديداً، حيث متطلبات النظافة والتعقيم داخل هذه المصانع شبه معدومة. وهذا كلّه سببه ارتفاع الطلب وقلة العرض، خصوصاً أن الكمامات الطبية لا يمكن استخدامها لأكثر من أربع ساعات يجب أن ترمى من بعدها. وهذا الأمر دفع إلى اختراع أنواع منها من أقمشة يمكن أن يعاد غسلها وتعقيمها واستخدامها مرات عدة.
من هذه المبادرات "كمامة القدس" في لبنان، المصنوعة من قماش "الكوفية"، التي انطلقت من داخل أروقة مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في لبنان. وتخضع "كمامة القدس" لمعايير المواصفات الصحية العالمية بحسب مصنّعيها، وأجريت تجارب عليها في مختبرات طبية أثبتت فاعلية صحية قبل بدء إنتاجها. وقماشها مصنوع من مادة "مايكرو فابريك"، التي تمنع الفيروس من الاختراق. وهي ضد الماء، وقابلة للاستخدام المتكررّ، بعد الغسل والتعقيم من خلال حرارة المكواة.
"قرصنة" الكمامات عالمياً
باتت عمليات الاستيراد التي تقوم بها دول تفشى فيها فيروس كورونا بشكل سريع وغير متوقع، وتحديداً في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، معرّضة لمخاطر القرصنة، بل وباتت خاضعة لسيطرة الأكثر ثراءً ومن يملك مالاً نقدياً للشراء من بين الدول. فبعدما استولت تشيكيا على شحنة من الكمامات قدمتّها الصين إلى إيطاليا، قامت السلطات الألمانية باتهام الولايات المتحدة بالاستيلاء على مئتي ألف كمّامة طبية في مطار بانكوك، كانت قد اشترتها برلين لاستخدامها في مكافحة فيروس كورونا.
الأمر نفسه تكرّر مع فرنسا، حين قام الأميركيون في اللحظات الأخيرة بشراء شحنة من الكمامات كانت قد طلبتها السلطات الفرنسية من الصين، بعدما ضاعفوا ثمنها لمصلحة الجهة المصنّعة، ودفعوا الثمن نقداً. وحدثت الصفقة "المقرصنة" في مدرج مطار صيني قبل أن تقلع الطائرة في اتجاه فرنسا.
وفي السويد، اتهمت شركة مولنليك الطبية السلطات الفرنسية بمصادرة ملايين الكمامات والقفازات الطبية التي استوردت من الصين لصالح إيطاليا وإسبانيا. ووصف المدير التنفيذي لشركة مولنليك ريتشارد تومي تصرف باريس بأنه "غير متوقع ومزعج لأبعد الحدود".
وفي سلوفاكيا، قال رئيس الوزراء بيتر بيليغريني قبل أيام إن حكومته تعلمت الشهر الماضي درساً مفاده أنه عندما يتعلق الأمر بشراء شحنات كمامات فإن النقد هو سيد الموقف.
على الرغم من عدم التأكد من فعاليتها في حالة الفيروس المستجّد، فإن الكمامة دخلت في تفاصيل حياة البشر في زمن الكورونا. فعلى المستوى الشخصي فإنها تحقق الشعور بالأمان ولو كان زائفاً. أما على الصعيد الدولي فقد باتت كما السلاح الحربي، تخضع لصفقات ومقايضات "وقرصنة" وتهريب.