تشهد الساحة العراقية السياسية تطورات دراماتيكية متسارعة على مسار تشكيل الحكومة الجديدة التي ستعقب حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة منذ أكثر من أربعة اشهر.
وقد رفع من وتيرة هذه التطورات لجوء رئيس الجمهورية برهم صالح إلى اعتماد خيار تكليف عدنان الزرفي رئيس كتلة النصر النيابية التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
مشهدان هيمنا على المشهد السياسي في اليومين الأخيرين، من جهة الاجتماعات المتوالية التي يجريها سفراء الدول الخمسة الدائمة العضوية ومعهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة مع جهات في الدولة العراقية، لم تقتصر على الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، بل مع رئاسة المحكمة الاتحادية العاليا التي لعبت دوراً أساساً في وصول الزرفي إلى هذا الموقع، ومنحت صالح الغطاء الدستوري والقانوني لتجاوز ما تطالب به غالبية الكتل البرلمانية الشيعية بحق الكتلة الأكثر عدداً بتسمية المرشح لرئاسة الوزراء باعتبارها حقاً دستورياً لها.
ومن جهة أخرى تداعي الكتل الشيعية لضرورة الاتفاق على مرشح بديل يكون نقطة وسط بين الظروف الموضوعية التي أوصلت الزرفي، وبين مطالبها والدفاع عن حقها الدستوري. ومن ضمنها الحفاظ على مصالحها ومصالح الجهات الإقليمية التي تدعمها خصوصاً النظام الإيراني.
القوى الشيعية المعترضة على تكليف الزرفي انطلاقاً من رؤيتها بعدم دستورية قرار رئيس الجمهورية، تعتقد بأن أحد المخارج الذي يمكن أن يساعدها على تجاوز هذا المأزق الذي وصلت إليه الأمور يمر عبر المحكمة الاتحادية بقرار جديد يسمح للرئيس بالتراجع عن قراره وسحب التكليف من الزرفي، وبالتالي يقلل من حدة تأنيب الضمير بتحملها مسؤولية ما آلت إليه الأمور وبسبب المماطلة وعدم تقديم مرشح تجمع عليه كل المكونات العراقية، وهي تعتقد بأن اللقاءات التي عقدها السفير الأميركي تحديداً مع رئيس هذه المحكمة، يصب في إطار قطع الطريق على الضغوط التي قد تمارس على رئيس الجمهورية لسحب تكليف الزرفي.
في المقابل، فإن هذه القوى تعمل على خط عرقلة الجهود التي يبذلها الرئيس المكلف لدفع رئاسة البرلمان إلى تحديد جلسة مناقشة البرنامج الحكومي والوزراء ومنح الثقة، فالتعطيل سيجبر الزرفي على الانسحاب من السباق أو التكليف بسبب انتهاء المهلة الدستورية التي تمنحه 15 يوماً وتمديدها لمثلها لتقديم تشكيلته إلى البرلمان، وبالتالي فإن تعطيل عقد الجلسة لأسبوع تعني خروج الزرفي من السباق، وفتح الطريق أمام عودة هذه القوى إلى تقديم البديل أو البحث عن مرشح آخر.
وعلى الرغم من ظهور بوادر لمستوى متقدم من الليونة في الرسائل التي وجهها الزرفي إلى القوى والأحزاب الشيعية وإمكانية مراعاة حصصها في التشكيلة الحكومة من خلال اختيار مرشحين منها تنطبق عليهم الشروط التي وضعتها هذه الأحزاب، إلا أن معركة استبعاد الزرفي ومنعه من الوصول إلى البرلمان، حتى عن طريق طلب يتقدم به 50 نائباً أو أكثر، تجبر رئاسة البرلمان على عقد هذه الجلسة في حال لم تقم الرئاسة بهذه الحطوة، تبدو معركة مصيرية بين الخيار الذي يمثله الزرفي والخيار الإيراني والقوى المنتمية إلى المنظومة الإيرانية على الساحة العراقية.
فطهران التي ترى في تكليف الزرفي وإمكانية وصوله إلى رئاسة الوزراء ما يشبه الهزيمة أو هزيمة بكل معنى الكلمة لكل الجهود التي بذلتها على مدى السنوات الـ 16 الماضية لتثبيت سيطرتها ونفوذها على الحياة السياسية العراقية والتحكم بمفاتيح السلطة والدولة، وأن خروجها من موقع المقرر أو الشريك الحقيقي في تسمية رئيس السلطة التنفيذية التي تعتبر من حصة المكون الذي تحتكر تمثيله (الشيعي) يعني التأسيس لخروجها من التوازنات العراقية وبالتالي التأسيس لتراجع دورها ونفوذها الإقليميين، وأنها سمحت بحصول ذلك وتمرير الزرفي، فستكون على موعد مشابه ومماثل على الساحات الأخرى التي تشكل مسرحاً باستهداف دورها وحصتها.
قد لا تكون لدى طهران مشكلة أو أزمة مع الزرفي كشخصية سياسية عراقية طامحة لتولي رئاسة الوزراء، إلا أن تسميته من خارج إرادتها هو الذي يشكل عائقاً أمام قبولها به وتمرير تكليفه، خصوصاً أن طرح اسم الزرفي اعتبرته القيادة الإيرانية بمثابة تحد أميركي واضح ومباشر لها، وأنه ترافق مع تهديدات مباشرة من مسؤولين أميركيين في مقدمهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومساعده لشؤون غرب آسيا دايفيد شينكر من مغبة عرقلة عملية تشكيل الحكومة وإمكانية دخول العراق في دوامة العقوبات والمحاصرة، وهو أيضاً ما أشار إليه السفير الأميركي في بغداد ماثيو تويلر الذي اعتبر تكليف الزرفي الفرصة الأخيرة أمام العراق لاستعادة توازنه وعلاقاته ودوره المحايد والانفتاح على العالم والحصول على الدعم السياسي الدولي والمؤسسات المالية الدولية.
وترى طهران أن الدفع بالزرفي إلى الواجهة من دون أن يكون لها دور أو مشاركة في تسميته أو ترشيحه، يشكل كسراً أميركياً لقواعد التفاهمات التي حكمت العلاقة بينهما على الساحة العراقية، وأن المساعي الأميركية لتحجيم الدور الإيراني في العملية السياسية هو استكمال لعملية اغتيال رأس مشروعها الإقليمي الجنرال قاسم سليماني داخل حرم مطار بغداد، وحلقة من حلقات معركة شد الجبال بينهما في المنطقة، خصوصاً أن الأجواء تجعل من الصعب على طهران القبول بهزيمة جديدة أو القبول بتسوية على حساب نفوذها، لذلك تنظر إلى ما يجري كأنه جزء من الشعار الذي رفعته بعد اغتيال سليماني بتولي جبهة المقاومة المتشكلة من حلفائها مهمة إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا.
وفي الرد على هذه المعركة المفتوحة مع الأميركي، لم تجد طهران أمامها سوى الدفع بإعادة تسمية رئيس جهاز الاستخبارات مصطفى الكاظمي ليكون بديلاً من الزرفي، وإسقاط كل التهم التي وجهتها له مباشرة أو عبر فصائل من الحشد تتبع لها بتقديم معلومات للجانب الأميركي سهلت عملية اغتيال سليماني، وهي بهذه الخطوة تحاول أن تضع الأميركي بين خيارين، إما الذهاب إلى مواجهة مفتوحة إذا ما تمسك بالزرفي، أو الانتقال إلى تسوية لا تغضبها خصوصاً أن كل الأطراف وحتى الإيراني يتهم الكاظمي بالعلاقة الوطيدة مع واشنطن ولعلها تكون أكثر عمقاً من علاقة الزرفي بالأخيرة، وبالتالي تضمن أن لا يكون الحل على حسابها، إلا أن الأمور تبقى رهن قدرة قوى المكون الشيعي بعرقلة عقد جلسة برلمانية للثقة التي يطلبها الزرفي ورهن بموافقة الكاظمي على هذا المسار لتسميته وقدرته على فرض شروطه السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية التي لا تبتعد عن شروط الزرفي ورؤيته.