عوالم من الفانتازيا والعجائبية ينسجها الكاتب المصري النوبي حجاج أدول (1944) باقتدار ليصنع خطاً مختلفاً من السرد يحمل بصمته الخاصة، في نصوص يتقاطع فيها الواقع مع الخيال والخرافة مع الحقيقة، فتكتسي أعماله بالمتعة والإثارة والتشويق.
معاناة مكررة
من هذه الحكاية المحورية يعود أدول إلى أحداث تعاقبت عليها السنوات، مجسّداً معاناة الإنسان المكررة، في دائرة مغلقة من الظلم الاجتماعي والقمع والبطش. يستمر السرد في نطاق زمني ممتد عبر أجيالٍ متعاقبة حتى يصل إلى الحكاية المحورية ذاتها "عصفة وطاسة الزيت المغلي"، ليتمم أركان الحكاية وتبلغ العقدة ذروتها ثم تتوالد منها وتتناسل الحكايات، ويكون "زلنبح" (ابن عصفة من الشيطان) قاسماً مشتركاً وبطلاً محورياً فيها جميعها.
تبدأ هذه الرحلة الغرائبية بقتل الفتى الطيب الضخم، ثم يموت "الأصفهاني"، المخنث وتابعه القواد، حرقاً. وعبر هاتين الحكايتين وغيرهما، يطأ الكاتب قروح الواقع ويُظهر وجهه القبيح الذي تطلّ منه الجريمة بشتى صورها.
يجسّد النص جوهر الصراع بين متناقضات العالم وأيضاً متناقضات النفس الواحدة، فيطرح زحاماً من هذه المتناقضات، بدا بعضها في البيئية المكانية للنص التي كانت تحمل في طياتها الثراء الفاحش والفقر المدقع، الشجاعة والاستكانة، المروءة والخسة، ثم ينقل السرد حالة الصراع التي تحدث داخل النفس البشرية ذاتها، بين نوازعها الدنيئة وضميرها الحي. ويبلغ الصراع ذروته عبر الشخصية المحورية "زلنبح" المنقسمة إلى نصفين: أحدهما شيطاني بانتمائه إلى "زلنبح" الشيطان الأب، والآخر إنساني ينتمي إلى "عصفة" الأم، ليكابد ويلات هذا الانقسام الذي يسفر عن شتاتٍ يضيع في دواماته عند محاولة كل قسم منه الانتصار على الآخر. وعلى الرغم من الطبيعة الغرائبية للشخصية وانتمائها إلى عوالم الخيال، فإنها ليست بعيدة تماماً من جوهر الإنسان المتأرجح بين الخير والشر، بين نزعاته الناقصة ولومه لتلك النزعات محاولاً التسامي عنها.
تلعب المرأة دوراً محورياً في الأحداث، فهي الأم التي تضحي بنفسها وتطلق لدى الابن "ضرغام الأول" شرارة الثورة والانتقام، وهي الزوجة التي تعمل جنباً إلى جنب مع زوجها لبناء وإعمار الربوة، وهي جزء من المقاومة التي تصدّت للشياطين ودحرتهم بزغاريدها المؤلمة. هي الأخت التي تستمع لبوح أخيها، والأم التي تستميت في إعلاء الجانب البشري على نزعات الشيطنة وهي العاشقة التي تسامح وتعفو وتصلح مفاسد النفس وتدرأ آثامها. ومن خلال هذا النموذج، مرّر الكاتب فلسفته التي ترسّخ مفهوم الحب وقدرته على تهذيب النفس واستعادة إنسانيتها والانتصار على نوازع الشر فيها.
اختار الكاتب لشخوصه أسماء تتصل بالطبيعة الخيالية للنص مثل "زلنبح"، "شينكا"، "حوحو"، "تايرو"، "خنزب"، "كروب" و"سفساف"، وفي مواضع أخرى من السرد كان فيها الواقع أكثر حضوراً، تخيَّر الكاتب لشخوصه أسماء لها دلالات حية، جاء بعضها متّسقاً مع معناه مثل "عصفة" الفاتنة التي سلبت فتنتها عقل الشيطان وعصفت به، "محفوظة" التي حافظت الأم على حياتها بالتضحيات الثمينة، "ظريفة" المرأة السمحة التي لا تحمل حقداً ولا ضغينة. بينما حملت أسماء أخرى دلالات عكسية مثل "حلالي" الماجنة و"مكين" الضعيف. واستمراراً لاستخدام الدلالة، لجأ الكاتب إلى الأحلام والكوابيس ليبرز من خلالها الجانب الإنساني من شخصية "زلنبح" وجلده لذاته ورفض عقله الباطن لكل سلوك يحرّضه عليه عقله الواعي. ولم تبثّ أحلام الشخصية المحورية في النص الدلالات وحسب، وإنما عزَّزت الجانب الخرافي من الأحداث الذي ينسجم مع الخط العام للسرد وأضفت عليه مزيداً من المتعة والتشويق. الألوان أيضاً كانت إحدى أدوات الكاتب الرمزية التي أجاد توظيفها داخل النص، فشخوصه الشيطانية ترتدي اللون الأحمر ذا الدلالة النارية لتؤكد طاقة الشر والهيمنة، و"زلنبح" حين يركن إلى نصفه الشيطاني لا يرتدي سوى الأحمر، وفي طريقه لاستعادة إنسانيته، يتخلّى عن هذا اللون.
حضور النهر
وإضافةً إلى ما استخدمه الكاتب من أدوات فنية كالدلالة والرمز، استعار الصورة السينمائية ليرسم شخوصه والبيئة المكانية للنص، فقد لعبت هذه الصورة الدور الوحيد في الإخبار عن القرى التي كانت المجال المكاني للأحداث، حيث لم يخبر السرد عن أسماء تلك القرى، بينما أفصحت الصورة التي رسمها الكاتب عبر وصف بارع للمناخ، الشخوص، والأبنية عن ماهية المكان وربما أتاح الكاتب للقارئ عبرها إمكانية تحديد هذه الأماكن ومواقعها على الخريطة. ولم تقف التقنيات البصرية عند حدود تصوير الحيّز المكاني والشخوص، وإنما نقلت أيضاً الأحداث ذاتها، لا سيما الخيالي منها والأكثر صعوبة في الاستدعاء كمهرجانات وأعياد الشياطين، محاكماتهم، وحروبهم ضد البشر. وخلاف التقنيات البصرية، تخلّلت السرد تقنية المونولوغ المسرحي ليضفي الكاتب -من خلالها- على نسيجه الروائي كثيراً من الحركة والديناميكية والطزاجة. وكان لاعتماده في مواضع متفرقة من العمل على المونولوغ الداخلي أثر في كشف معالم الشخصيات وبواطنها ورصد انفعالاتها، قلقها وأنينها. وعبر كل هذا الزخم الإبداعي، طرح الكاتب تساؤلات جدلية حول ماهية الخطأ والصواب، الجناة والمجني عليهم، عن مسامحة الآخر ومسامحة الذات ليمرّر بالفانتازيا وطبيعة السرد الخيالية، فلسفاته الخاصة التي تعكس إيمانه بدور الخيال في صناعة الوعي وتشكيل منظومة القيم. وقد اعتمد الكاتب نهاية مفتوحة تتّسق ومعطيات النص وتسمح للمتلقي بالمشاركة في الفعل الإبداعي، ومن جهة أخرى تُنبئ باستمرار الصراع في أحداث جديدة ربما تقع في مخيلة القارئ هناك، خلف الصفحة الأخيرة من النص.
وتمثل رواية "زلنبح" امتداداً لأدب حجاج أدول الذي يكتسي "في غالبيته" بالخيال ويصطبغ بالطابع الأسطوري وتتجلّى فيه الثقافة النوبية (التي لم تحضر في روايته الأخيرة بشكل مباشر) باستدعاء النوبة استدعاءً صريحاً في النص كمسرح للأحداث كما هي الحال في مجموعته القصصية "ليالي المسك العتيقة"، أو رواية "خالي جاءه المخاض" على سبيل المثال. في "زلنبح" استدعاء غير مباشر للثقافة الشعبية النوبية التي تتمسك باعتقادات خاصة عن عوالم الجن والشياطين، هذه العوالم السحرية التي كانت بمثابة قاسم مشترك يربط كثيراً من أعمال أدول الأدبية، ومنها "انتقام الأبله" و"حكاية سمكة الصياد" و"مأساة الملك علوي" و"الأمير دهشان والجارية الطيبة" و"بهاء الدين السقا في بلاد الغيلان" و"رحلة السندباد الأخيرة" و"كشر" و"بلدة ترمس"، ومسرحيات "ناس النهر" و"النزلاية" و"إغراق عنخ"، وغيرها من أعمال عبّرت عن الطابع الخيالي ذاته وإن كان الكاتب يصدره بكونه حقائق واقعة يصدقها ويؤمن بها وإن تلقّاها العقل الجمعي بصيغة الأسطورة.
تتماسّ رواية "زلنبح" كذلك مع غيرها من أعمال حجاج أدول في حضور النهر كعنصر رئيس في السرد ولاعب مؤثر في اتجاه سير وتطور الأحداث، فكان اللبنة الأساسية والأداة الناجعة التي استخدمها بعض شخوص الكاتب داخل النص للفرار من الذل والفقر والخنوع عبر إعادة زراعة الأرض وبناء مجتمع جديد باقتصاد قوي، ليكون أكثر تماسكاً وأكثر نظامية. وهكذا يصبح النهر طوق النجاة والخلاص والأمل، بما يشي بما له من قدسية ليست في هذا العمل أو في مجمل أعمال حجاج أدول وحسب وإنما في الأدب النوبي عموماً، ومن رموزه محمد خليل قاسم وإدريس علي ويحيى مختار ومحمد خليل ويحيى إدريس وحسن نور.
استمرت الثقافة النوبية تطلّ في رواية "زلنبح" برأسها بشكل ضمني غير مباشر، إذ تخلّل النسيج الروائي بعض الطقوس التي طالما اهتم واحتفى بها المجتمع النوبي، مثل الرقص والأعياد والمهرجانات والأعراس. أما اللغة التي اعتمدها الكاتب، فكانت الفصحى السلسة شديدة العذوبة كثيفة الدلالة، كما كانت دائماً في كل نصوص حجاج أدول وكان يبرز دوماً خلالها ارتفاع الحس الإنساني الذي يعبّر بصورة أو بأخرى عن المجتمع النوبي ويميّز أهله بشكل خاص.