لعلّ المفارقة التي برزت في السلوكيات الدولية إزاء أفريقيا بشأن كورونا، تشير إلى القوى المستقبلية الفائزة بالقارة السمراء في عالم ما بعد كورونا.
ففي الوقت الذي أرسل رجل أعمال صيني "جاك ما" معونات طبية إلى أفريقيا وزّعتها الخطوط الجوية الإثيوبية في خمسة أيام، فإنّ طبيباً فرنسياً يُدعى جان بول ميرا اقترح أن تجرَّب لقاحات فيروس كورونا على الأفارقة، في سلوك عنصري واضح، وبمزاعم أنهم عاجزون عن حماية أنفسهم من الفيروس، بسبب هشاشة النظم الصحية، وإن لم يكن انهيارها، منوهاً إلى أنّ الأفارقة كانوا "حقل التجارب الأول" للاختبارات الغربية بشأن تركيب الأمصال المكافحة الإيدز.
ارتباك أوروبي أميركي
هذه الرسالة الفرنسية ربما تكون أنقذت الصين من جدلٍ نقديٍّ عنيفٍ في أفريقيا يحدث منذ عدة سنوات، غذَّاه الغربيون والأميركيون على وجه الخصوص، محتواه يشير إلى أن الصين "تستغل أفريقيا ولا تساعدها"، إذ تدعم النخب الحاكمة على حساب الشعوب، للاستفادة من الموارد بعوائد غير عادلة.
لكن، الجائحة الكورونية أفصحت عن مشهد ارتباك أوروبي أميركي في النظم الصحية بها، يكشف عن هشاشة غير متوقعة ليست طبعاً بالقدر الأفريقي، لكنها على الأقل وقفت عاجزة عن تقديم أي مساعدات خارجية، في الوقت الذي أقدمت فيه الصين على تقديم هذه المساعدات ليس لأفريقيا فقط، لكن أيضاً لأوروبا وأميركا، التي اعتمدت على تغطية حاجاتها من الكمامات الطبية بحركة قرصنة تحمل ملامح الكاوبوي الأميركي، حين استولت على الصفقة الفرنسية من الكمامات بالصين.
في هذا السياق ربما تكون الصين هي القوة الدولية التي سوف تعتمد عليها أفريقيا بشكل أكبر، ربما في المرحلة المقبلة، ليس فقط في مواجهة فيروس كورونا، لكن أيضاً في اعتماد نموذج النظام السياسي الصيني نموذجاً قابلاً للنجاح، تقوم مؤسسة الدولة فيه بأدوارها الوظيفية في مقابل نموذج النظام السياسي الغربي الذي فرض مشروطيات على الدول الأفريقية، لكنه فارق تراثها السياسي والاجتماعي، ولم يحقق نجاحاً في دعم قدرة الدولة على بناء استقرارها الداخلي.
ولعل قراءة أزمات مثل دارفور في السودان مثلاً، تشير إلى أنّ الاستجابة إلى مشروطيات البنك وصندوق النقد الدوليين في إعادة الهيكلة الاقتصادية في السودان كانت أحد معطيات هذه الأزمة، التي تسببت في انسحاب الدولة من تقديم الخدمات الأساسية، وبالتالي اندلاع الصراع المسلّح.
على أي حال يبدو التفاعل الأفريقي مع الصين كبيراً لمواجهة كورونا، وذلك عبر آليات الاتحاد الأفريقي الصحية، فدشّن "الاستراتيجية القارية الأفريقية المشتركة لـ(كوفيد 19)" (AFTCOR)، وضَمِن نوعاً من التنسيق مع منظمة الصحة العالمية والصين بهذا الشأن.
لكن، من اللافت أن أساليب مواجهة الفيروس اتخذت أبعاداً مناطقية، وربما تنافسية في أفريقيا، فمثلاً اجتمع زعماء منظمة "إيجاد للتنمية ومكافحة التصحر بشرق أفريقيا" عبر سكايب لهذا الغرض في نهاية مارس (آذار)، وبطبيعة الحال تبرز فيهم إثيوبيا والسودان، بينما اجتمعت مجموعة أخرى من الزعماء الأفارقة قبل يومين وعبر سكايب أيضاً مع فرنسا، تبرز فيهم مصر وجنوب أفريقيا.
ومن المتوقع أن تنال جهود مواجهة كورونا في أفريقيا مجهودات واضحة، إذ انتشر الفيروس في مجمل القارة باستثناء تسع دول، وبلغ عدد الوفيات ما يقل عن 100 حالة، لكن الإصابات وصلت إلى أكثر من أربعة آلاف، وتصدّرت جنوب أفريقيا مشهد الإصابات والوفيات، وفقاً لتقديرات المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض AFRICA CDC.
تحديات كورونا
وعلى الرغم من هذه المؤشرات المطمئنة نسبياً فإنّ المشكل الأساسي في أفريقيا سيكون هو التخلي عن تناول القردة والخفافيش التي يتناولها مواطنو بعض الدول نتيجة الفقر، وهي الكائنات الثابت أنها حاملة الفيروس، بينما هذه المعلومة قد لا تكون وصلت بالفعل إلى بعض التجمّعات النائية مثل القرى أو كتلك التي تعاني صراعات مسلحة.
ولعله من التحديات الأساسية بشأن وباء كورونا في أفريقيا هو القدرة على رصد حجم الإصابة الفعلي، وذلك نظراً لغياب وضعف بنية المؤشرات المعلوماتية، واعتمادها على أساليب بدائية بحيث يصعب مشاركتها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وذلك فضلاً عن ضعف حجم الكوادر الصحية، ففي كينيا يوجد طبيب واحد لكل 5000 مواطن، حيث تفتقر القارة إلى الأطباء بسبب هجرتهم إلى الخارج للعمل بظروف وعوائد أفضل.
ويكفي القول، إنّ 65 في المئة من الأطباء الممارسين في الولايات المتحدة هم من ثلاث دول أفريقية طبقاً لدراسة كليمنس وبيترسون المنشورة عام 2008، وهذه الدول هي نيجيريا، وجنوب أفريقيا وغانا، وفضلاً عن كل ما سبق فإن الأنظمة الصحية الأفريقية إلى جانب هشاشتها فهي تعاني ضغوط تفشي الأوبئة، مثل توطّن الإيدز الذي يقدر عدد المصابين به ما يزيد على 25 مليون شخص أفريقي، وكذلك مرض الكلازار بإثيوبيا، إضافة إلى حمّى لاسا في نيجيريا التي تصنّف أكثر فتكاً من كورونا، بينما وباء الإيبولا ما زال ماثلاً في عدد من الدول، خصوصاً في شرق أفريقيا .
وتبدو أفريقيا في هذه الجائحة تحتاج إلى ما يزيد على مليون عامل صحي، وذلك بعد أن تسببت الهجرة الداخلية والخارجية في فقدان القارة كوادرها الصحيين، خصوصاً العاملين بالأرياف لصالح المدن، والعاملين بأفريقيا لصالح دول العالم المتقدم.
وبطبيعة الحال سيكون نقص الإمدادات المائية النظيفة، أو نقص المياه أصلاً من التحديات الكبرى التي تواجهها أفريقيا جنوب الصحراء، وذلك في ضوء أوضاعها الاقتصادية الصعبة، حيث يعيش فيها 400 مليون شخص تحت خط الفقر معدومي القدرة على الوفاء بمتطلبات الوقاية من كورونا.
وإذا كانت دول شمال أفريقيا تنظر بالارتياح إلى ارتفاع معدلات درجات حرارة الجو، وهو ما يُسهم ربما في تراجع الإصابة بالفيروس، لكن في المقابل الدول الأفريقية جنوب الصحراء هي مقبلة على فصل الشتاء، وهي الدول الأشد فقراً طبقاً لمؤشرات البنك الدولي.
أزمة التوعية
وستبقى مسألة التوعية بالإرشادات الصحية المُنجّية من الإصابة بكورونا، تحدياً تواجهه أفريقيا بسبب نقص الإمدادات الكهربائية، التي يصعب معها استخدام وسائل الميديا المعروفة السريعة الانتشار، إذ يبقى المجهود البشري المنظم وغير المنظم عنصراً فاعلاً في هذه المعركة رغم بطء فعاليته.
التحدي الكبير أمام أفريقيا لمواجهة هذه الجائحة هو تمويل تحديث النظم الصحية وتداعيات انهيار القطاعات الاقتصادية الأفريقية، الذي قُدِّر من جانب الأمم المتحدة بـ100 مليار دولار، وهو رقم مماثل لرقم تحديث البنية التحتية الأفريقية للتحديث والتشبيك بما يوفّر فرصة لانتقال الخدمات الصحية، وأيضاً يدعم فرص التكامل الاقتصادي الأفريقي، الذي يبدو راهناً أحد أساليب مواجهة كورونا، وبالتالي إنقاذ الأفارقة.
خسائر اقتصادية وعون دولي
وتبدو هذه الأرقام شبه تعجيزية، في ضوء انقطاع حركة النقل الدولي، وغير معروف على وجه الدقة متى ستنتهي، حيث سوف تحرم أفريقيا من تصدير موادها الأولية التي تعدُّ عموداً فقرياً في اقتصاداتها، خصوصاً مع الشركاء الدوليين الأساسيين مثل الصين والهند، فضلاً عن الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، ومع انهيار أسعار النفط فإنّ دول خليج غينيا الأفريقية تواجه تحدياً اقتصادياً مزدوجاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي إطار الخسائر الاقتصادية الأفريقية فإنّ توقف قطاعي السياحة والطيران الناتج عن فيرس كورونا سوف ينعكس علي حجم النواتج المحلية الإجمالية، ووصول معدلات المديونيات الخارجية إلى مستويات أكثر خطورة من المستويات الراهنة، وهي التي تسجِّل حالياً نحو 60 في المئة من الناتج المحلي بغالبية الدول الأفريقية وبفوارق بسيطة.
وتأسيساً على هذه المعطيات المؤسفة تبدو أفريقيا في حاجة إلى عون دولي مكثف في وقت تبدو فيه معظم القوى الدولية التي تقدم أنواع الدعم تقليدياً غير جاهزة لأداء هذا الدور، فكل من فرنسا والولايات المتحدة تحاولان بجهد ملحوظ ملاحقة الوباء على أراضيهما، بينما تبدو الصين هي القوى الدولية الجاهزة للعب هذه الأدوار، وهو الأمر الذي سوف يجعل الصين تصعد مجدداً في أفريقيا طبقاً لشروطها، ومن دون تحديات أساسية من باقي مفردات النظام الدولي في الوقت الراهن.