لا يمكن الافتراض أن مؤسس شركة "مايكروسوفت" ورجل الأعمال العملاق بيل غيتس، المتربّع لمرات على عرش لائحة أغنى أغنياء العالم، بأنه يستغل تفشي فيروس كورونا للحصول على مزيد من النجومية.
فقد حقق نجوميته منذ سنوات طويلة على رأس شركته العالمية، وبعد أن قرر الاستقالة منها أسس مع زوجته جمعيات إنسانية مختلفة تساهم في دعم الدول والشعوب الفقيرة في شتى المجالات، مستخدماً الثروة التي جمعها.
لكن في زمن انتشار الفيروس عاد بيل غيتس الى الظهور إعلامياً بشكل مكثّف ليدلي بدلوه في كل ما يجري، ويقدّم النصائح للحكومات والمؤسسات الدولية في كيفية مكافحة هذا الفيروس، وأطلّ في مؤتمرات صحافية، وعقد اجتماعات مع كبار رؤساء الدول للمساهمة في مواجهة الوباء، حتى أنه قدّم المساعدة المالية للجمهورية الصينية نفسها خلال الفترة القصوى التي انتشر الفيروس فيها. ووجّه له الرئيس الصيني رسائل شكر عدة في وسائل الإعلام العالمية "على الكرم الباذخ في المساعدة التي قدمتها مؤسساته للصين".
تكشف لنا مواكبة تصريحات غيتس حول كورونا بشكل تأريخي، خلال السنتين الماضيتين، مدى اهتمام الرجل بموضوع الأوبئة وهذا الوباء تحديداً، وهنا نبدأ بتحذيره الذي أطلقه عام 2018 والذي شغل، العالم ليس في حينه، بل بعد بدء انتشار الفيروس بشكل مروّع في كل الدول.
بيل غيتس يحذّر في 2018
كان المليونير الأميركي قد حذّر في فبراير (شباط) 2018 خلال مؤتمر صحافي لم يلق حينها الاهتمام الذي يستحقه، ولكنه عاد إلى الواجهة بعد تحوّل الفيروس إلى وباء، من أن مرضاً فتاكاً سيضرب جميع الدول، وسيقضي على أكثر من 30 مليون شخص، بغضون أشهر.
اللافت في تصريحه المرفق بفيديو يشرح فيه كيفية تطور الفيروس وطريقة انتشاره، أنه يحمل لغة قاطعة في يقينها وتحديداً للمدى الزمني الذي سينتشر فيه الفيروس، عدا عن تحديده مصادر الوباء القادم، أي "أن الوباء سيكون من إنتاج وتطوير متخصّصين في القرصنة"، وتحديده لنوعه، أي "تطوير أنواع جديدة من مرضي الجدري والأنفلونزا، لاستعمالها كسلاح فريد".
التساؤل حول هذه المعلومات التي أدلى بها غيتس قبل سنة من انتشار الوباء وكيفية معرفته بها ومدى تأكدّه منها، يدخلنا في متاهة ما يسميه كثيرون "نظرية المؤامرة".
لكن في حال أزحنا هذه الفرضية جانباً، يمكننا التساؤل عن سبب عدم أخذ الحكومات هذه التهديدات على محمل الجدّ والاستعداد لمواجهة مثل هذه الجوائح في حال حصولها، بخاصة أن باحثين وأطباء ومختبرات حول العالم كانت قد حذرت بدورها من مثل هذه السيناريوهات القادمة، طالما أن الأبحاث على الفيروسات قائمة، والأسلحة البيولوجية موجودة، وإمكانية استخدامها من قبل "الأشرار" محتملة. وكانت أفلام هوليوود قد أنتجت أفلاماً كثيرة تصوّر مثل هذه التوقعات في العقود الماضية.
علماً أن غيتس وزوجته أسسا عام 2017 منظمة عالمية تعمل على "ربط" جهود الهيئات العامة والخاصة والخيرية، ومنظمات المجتمع المدني، لمحاربة الأوبئة العابرة للحدود. سميّت "تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة"، عقب تفشي وباء "إيبولا" في غرب أفريقيا بين عامي 2014 و2015، لتسريع وتيرة العمل على ابتكار لقاحات للأمراض المُعدية الجديدة.
تحذير ديموغرافي ودعم مالي سخي
لكن مؤسسة "بيل ومليندا غيتس" عملت وبشكل موازٍ على إصدار تقارير حول التوجهات الديموغرافية التي تهدد التّقدم العالمي، وكان التقرير الأهم صدر في سبتمبر (أيلول) 2018 تحت عنوان "تقرير بيانات مناصري الأهداف"، والذي جاء فيه "إنّ التوجهات الديموغرافية قد تشكّل عائقاً أمام استمرار التقدم غير المسبوق الذي حققته جهود مكافحة الفقر في العالم. وبينما نجح مليار شخص في انتشال أنفسهم من الفقر على مدى العشرين سنة الماضية، بفضل الجهود العالمية، فإن النّمو السّكاني السّريع في أشد البلدان فقراً، لا سيّما في أفريقيا، قد يشكّل خطراً يعيق مسيرة تقدّم هذه الجهود مستقبلاً".
وهكذا يكون بيل غيتس ومؤسساته يعملون بشكل متواز بين التحذير من آفات تطوير الفيروسات، والتحذير من زيادة أعداد سكان كوكب الأرض.
لكن عمل مؤسسة غيتس وزوجته لم يقتصر على إصدار التقارير فقط، ففي الشهر الأول من عام 2019 أعلنت المؤسسة عن استثمارها 10 مليارات دولار منذ عام 1999 في صناديق البرامج الصحية العالمية التي تشمل كلاً من الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، والمبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال، والتحالف العالمي للقاحات والتحصين، ومرفق التمويل العالمي لصحة الطفل والأم.
وسعت المؤسسة إلى تشجيع الحكومات المانحة مثل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا وألمانيا وبريطانيا وكثير من الدول الأخرى على سد العجز في أربعة صناديق عالمية رئيسية في الشهور الثمانية عشرة القادمة حتى تتمكن من مواصلة عملها.
بعد انتشار كورونا
حين وصل الفيروس الذي حذّر منه قبل عام، بدا الأمر وكأنه يعني غيتس مباشرة، فكانت له تصريحات مكثّفة حول الموضوع، وصولات وجولات حول العالم.
ففي 15 فبراير (شباط) 2020 حذّر صاحب شركة "مايكروسوفت"، من أن انتشار فيروس كورونا الجديد في أفريقيا، سيجعل الأمر أكثر مأساوية، معتبراً أن هذا الوباء اذا استمر في الانتشار سيعرّض العالم إلى "وضع من المحتمل أن يكون سيئاً للغاية".
وفي 23 من الشهر ذاته، كتب الرئيس الصيني شي جينبينغ، رسالة عبّر فيها عن امتنانه لمؤسسة "بيل وميليندا غيتس" لالتزامها المالي "السخي" في مكافحة فيروس "كورونا المستجدّ". ومنحت المؤسسة مبلغ 20 مليون دولار لمؤسسات من بينها منظمة الصحة العالمية والمراكز الأميركية والصينية للمراقبة والوقاية من الأمراض، و20 مليون دولار أخرت منحت إلى سلطات الصحة العامة في بلاد أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرقي آسيا ومناطق غير جاهزة لمواجهة الوباء.
كما خصّص مبلغ 60 مليون دولار، للأبحاث حول اللقاحات والعلاجات وأدوات التشخيص.
بعد تطور الأمور وانتقال الفيروس السريع بين دول العالم وتحديداً في الولايات المتحدة منذ بدايات مارس (آذار) الماضي، بدأ بيل غيتس بنشر النصائح للدول، وكانت أولها الطلب من الحكومة الأميركية تطبيق الإغلاق الكامل لوقف انتشار فيروس كورونا. ورأى أن النموذج الصيني في الإغلاق يجب أن يحتذى في الولايات المتحدة، أي الإغلاق الكامل لكل البلد لمدة من 6 إلى 10 أسابيع.
فبرأيه لا يمكن غلق ولاية وراء ولاية، "الإغلاق الكامل سيقلّل من الضغط على النظام الصحي قبل أن نفاجأ بعدد كبير من الوفيات". واعترف غيتس بـ"الثمن الباهظ" لإغلاق البلد على الاقتصاد، لكن برأيه فإن البديل سيكون أسوأ بكثير.
الحياة لن تعود إلى طبيعتها
بعد أسبوع من طلبه الإغلاق الكامل للولايات الأميركية صرّح غيتس خلال الشهر الحالي في 6 أبريل (نيسان) الجاري "أن الحياة لا يمكن أن تعود إلى وضعها الطبيعي بالكامل إلا عندما يتوفر لقاح لمكافحة فيروس كورونا المستجد على مستوى العالم". وصرّح مرات عدة بعدها أن هناك حاجة إلى العمل بسرعة على تطوير لقاح جديد لإنتاج "مليارات الجرعات" في أسرع وقت ممكن، لأن هذا "الفيروس يجب هزيمته عالمياً".
في الأسبوع الماضي أي في12 أبريل (نيسان) 2020 كتب بيل غيتس مقالاً في صحيفة "صنداي تلغراف"، دعا فيه إلى "نهج عالمي" لمكافحة المرض، ومحذراً من ترك الفيروس للانتشار في الدول النامية من دون عوائق، لأن الفيروس سينتعش ويضرب الدول الغنية في موجات لاحقة.
فالفيروس "لا يكترث بالحدود" كما يقول، لأن الدول الغنية حتى لو نجحت في إبطاء انتشار كورونا خلال الأشهر المقبلة فقد تعود الإصابة بالمرض إذا ظل الوباء حاداً بما يكفي في أماكن أخرى. لذا كان لا بد من توجيه دعوة عاجلة لقادة العالم للعمل معاً لمحاربة "كوفيد-19" وضمان توزيع المعدات الوقائية والعلاجات الجديدة واللقاحات بشكل عادل. فغيتس وهو من أشدّ المؤمنين بالرأسمالية بحسب ما يقول عن نفسه، ولكن برأيه فإن "بعض الأسواق لا تعمل بشكل صحيح في ظل الجائحة، وسوق الإمدادات الطبية المنقذة للحياة مثال واضح. "نحن في "منطقة مجهولة" بسبب نقص الاستثمار والإعداد لمثل هذا الوباء. سننظر خلفنا ونتمنى لو أننا استثمرنا المزيد ليكون باستطاعتنا أن نحصل على العلاجات واللقاحات بشكل أسرع. لقد قللنا الاستثمار في ذلك".