يبدو أن تراجع أسعار النفط وخسارة صدارة الدول المصدرة للغاز إلى إسبانيا، أدخل اقتصاد الجزائر غرفة الانعاش وما رافقه من استنفار المسؤولين والشعب على حد سواء. وعلى الرغم من تطمينات الرئيس عبد المجيد تبون وحكومة عبد العزيز جراد، غير أن الجبهة الاجتماعية تتوجس مما تحمله الأسابيع المقبلة من مفاجآت.
خسارة إسبانيا الزبون الأول للغاز
وبعد بوادر أمل صاحبت قرار السعودية وروسيا بتخفيض انتاجهما للنفط من أجل إحداث استقرار في الأسعار دولياً، استيقظت الجزائر على خسارتها المرتبة الأولى من حيث صادرات الغاز إلى إسبانيا لصالح الولايات المتحدة الأميركية في تطور مفاجئ ولافت، على اعتبار أن الجزائر احتلت الصدارة لفترة تفوق الثلاثة عقود.
وكشفت شركه "كريس" الإسبانية المعنية بتسيير احتياطيات المحروقات، أن صادرات واشنطن إلى مدريد من الغاز أصبحت تعادل 27 في المئة في فبراير (شباط) 2020، ما يعني أن الجزائر تراجعت إلى المرتبة الثانية بواقع 22.6 في المئة.
صدمة تهاوي أسعار النفط
وبغض النظر عن أسباب لجوء إسبانيا الى الولايات المتحدة أو كيف تحولت هذه الأخيرة من مستورد إلى مصدر للغاز، فإن المتفق حوله أن الجزائر خسرت أحد أهم أسواقها، وما زاد من علامات الاستفهام لدى السلطة السقوط الحر لأسعار النفط التي بلغت مستويات سلبية لم يشهدها التاريخ، خصوصاً النفط الأميركي، بينما تراجع الجزائري إلى حدود 16 دولاراً للبرميل، ومنه تقلصت مداخيل البلاد التي تعتمد على المحروقات بنسبة 95 في المئة، ما يضع برنامج الرئيس تبون ووعوده، خصوصاً ما يتعلق بالشان الاجتماعي، أمام امتحان مفتوح على كل الاحتمالات.
الجزائر متحكمة في الأزمة؟
ورداً على هذه التخوفات، أوضح الناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية محند أوسعيد بلعيد، أن الجزائر لا تزال متحكمة في الأزمة الناتجة من الهبوط الحاد لأسعار النفط في ظل تفشي وباء "كوفيد-19"، وتابع أن الإجراءات الضرورية لمواجهة هبوط أسعار النفط كانت قد اتُخذت خلال مجلس الوزراء الذي ترأسه تبون قبل حوالى شهرين، مستطرداً "كنا نتوقع هذه الأزمة، واحتطنا لها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكر أنه من ضمن التدابير التي اتخذت، خفض الواردات إلى نسبة 30 في المئة على أمل تقليص فاتورة الاستيراد من 41 إلى 31 مليار دولار، إضافة إلى خفض قيمة الأموال المخصصة للدراسات والخدمات من مكاتب الدراسات الأجنبية، ما سيوفر للبلاد ما يقارب السبعة مليارات دولار سنوياً، إلى جانب تأجيل المشاريع المسجلة أو قيد التسجيل.
من جهته، أكد وزير الطاقة محمد عرقاب، أن الجزائر قادرة على مواجهة أزمة انهيار أسعار النفط، وأن قطاع الطاقة بتنسيق مع مجمع المحروقات الحكومي "سوناطراك" قام بوضع خطة عمل، وقال "باشرنا في أعمال الصيانة التي كانت مبرمجة في أوقات أخرى، لتفادي تسجيل عجز أكبر في موازنة الدولة"، وبيّن أن الجزائر حضّرت نفسها لمرحلة ما بعد الحجر الصحي، للحفاظ على موارد الطاقة في البلاد.
التوجه الى الأسواق الآسيوية... هو الحل
ويعتبر الخبير الاقتصادي مراد ملاح في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الجزائر تحتاج إلى التوجه إلى الأسواق الآسيوية كبديل عن الأسواق الأوروبية، وهو التوجه الذي لن يكون سهلاً من ناحية أن المنافسة شرسة جداً مع روسيا، ومن ناحية أنه تحوُّل يحتاج لترسانة لوجيستية قوية وسلاسل إمداد صلبة ومرنة في الوقت نفسه، وهذا يستدعي ديبلوماسية اقتصادية نشطة وتحركات استباقية وتحالفات جيواستراتيجية، موضحاً أن "كوفيد 19" من المفروض أن يشكل فرصة حقيقية للحكومة الجزائرية من أجل اتخاذ قرارات شجاعة والدخول في استثمارات قوية.
وواصل ملاح أن هذه التراجعات في التصدير يرافقها ضغط مالي وتراجع للموارد المالية للبلاد، بالتالي لا يمكن الاستمرار في إدارة دفة الحكم بشراء السلم الاجتماعي، بينما سقف الطموحات للمجتمع الجزائري ارتفع بعد حراك 22 فبراير، كما أن تولي الرئيس تبون الحكم سمح بتنامي الرغبة الشعبية في إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، لدرجة أنه لا يمكن التراجع عن إشارات إيجابية أرسلها الساكن الجديد في قصر المرادية للمجتمع، بأنه ماض في تحسين الاقتصاد والمعيشة، ما يجعل العبء مضاعفاً، إذ لم يعد بالإمكان إسكات الجزائريين أو ثنيهم عن المطالبات"، لذلك نحن أمام سيناريو صعب جداً من الناحية الاقتصادية للحكومة الجزائرية".
المصير المرهون
لقد تساءل الرئيس تبون في مداخلة خلال مجلس الوزراء: "إلى متى ومصيرنا مرهون بتقلبات الأسواق العالمية للبترول"، معتبراً أن الوقت حان للتركيز بكل عزم وجدية على الصناعة البتروكيماوية، وتطوير قطاعات الصناعة والفلاحة، و"استغلال الثروة البشرية التي تتخرج سنوياً من جامعاتنا"، ورأى أنه من الضروري التوجه من دون تأخر إلى الاستثمار في قطاع الطاقات المتجددة بهدف التصدير، "لتحصين استقلالنا الاقتصادي من عالم المفاجآت الذي تمثله سوق البترول".
الاقتصاد الذكي
من جانبه، يعتقد الأمين العام لاتحاد المستثمرين الشباب، الخبير في اقتصاد المؤسسات الصغيرة فلاح عبد النور، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن الجزائر متجهة تدريجاً للتخلص من التبعية الاقتصادية للبترول، من خلال ما لوحظ من توصيات اجتماع مجلس الوزراء الأخير، حين تم الكشف عن خطط إيجابية لتحقيق النهضة الحقيقية بالاعتماد على التقنيات والأساليب الحديثة في الصناعة والزراعة، وقال إنه على الرغم من الوضع الراهن المحفوف بالمخاطر غير أن الجزائر تسيّر المرحلة بحكمة، وهي "فرصة أمامنا لتدارك ما يمكن تداركه والتصالح مع أنفسنا واسترجاع ثقتنا في ثرواتنا واقتصادنا وتقاليدنا"، والحديث للمرة الأولى عن ضرورة الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي الذكي يعتبر إشارة إيجابية.
وتابع فلاح أن الجزائر تتمتع بطاقة بشرية هائلة تتمثل في الشباب المبتكرين والمبدعين الذين أظهروا قدراتهم خلال المحنة الحالية للتصدي لفيروس كورونا، إضافة إلى المصنعين والمنتجين المحليين الذين تمكنوا من تحقيق الاكتفاء في مجال المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية على وجه الخصوص، مؤكداً أن الاهتمام الذي يوليه الرئيس تبون للمؤسسات المصغرة والناشئة يكشف عن التوجهات الجديدة للحكومة، وأوضح أن حاجات المواطنين يمكن تلبيتها مؤقتاً بالمبادرات التضامنية، وختم قائلاً "نستطيع تحقيق اكتفائنا الذاتي لو وقفنا وقفة للتصالح مع الذات، ونبذ التفكير السلبي".