يدور لبنان حول نفسه في معالجة أزماته المتناسلة التي تتعمق يوماً بعد يوم، في وقت تعتمد السلطة السياسية فيه على الخطوات التجريبية والإجراءات المتناثرة، وإذا كانت التدابير التي اتخذها لبنان حتى الآن في التصدي لوباء كورونا لقيت شبه إجماع على أنها ساعدت في مكافحة الوباء، في ظل بروز نوع من التكافل الاجتماعي والتبرعات للقطاع الصحي، إضافة إلى بعض المساعدات الصحية الخارجية للبلد المفلس، عوّضت عن تأخر بعض الإجراءات، فإن الانطباع العام هو أن الأزمة الاقتصادية المالية افتقدت حتى الآن إلى الإدارة الهادفة إلى السيطرة عليها.
تغييب الأسباب السياسية ونهج "حزب الله"
ويعزو معظم المراقبين غياب التصور الواضح لخطة الخروج من المأزق الاقتصادي المالي إلى أسباب سياسية، وإلى مواصلة الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان أساليبها القديمة في التناحر والمناكفات، فضلاً عن فقدان التوافق السياسي حيال تسهيل المساعدات الخارجية للبلد، التي من دونها لن يتمكن من تطبيق أي حلول لافتقاد ماليته إلى السيولة، وهي مساعدات فضلاً عن أن المجتمع الدولي والعربي يشترط تغييراً في نهج سيطرة "حزب الله" على سياسة لبنان الخارجية، واستخدامه منصة لسياسات معادية، للبحث فيها، فإنه ينتظر من الحكومة أن تطبق الإصلاحات الموعودة في إطار خطة اقتصادية تنير الطريق إلى المخارج من الأزمة، كما أنها مساعدات بات من الصعب الحصول عليها من الدول والهيئات المالية الدولية الإقليمية في ظل انهماك العالم بمعالجة آثار كورونا على انكماش الاقتصاد العالمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشكلت الجلسة النيابية التشريعية التي عقدها البرلمان اللبناني يومي 21 و22 أبريل (نيسان) بعد غياب ثلاثة أشهر من التزام المنازل والعزل، اختباراً ودليلاً لما يعتري المشهد السياسي الداخلي من تناقضات، سواء بين القوى السياسية التي تتشكل منها الموالاة الممثلة في حكومة الرئيس حسان دياب، أو بين قوى المعارضة غير المشاركة فيها، وبات يصح وصف الفريقين بأن القوى التي تتشكل منها الموالاة، تمارس في زمن كورونا، "التباعد الاجتماعي" بينها، وأن قوى المعارضة تطبق "التباعد الاجتماعي" بدورها، لأنها تفتقر إلى توافقات مدروسة بين مكوناتها هي الأخرى.
عودة الحراك الشعبي إلى الشارع
لكن الأبرز كان، لمناسبة انعقاد الجلسة النيابية خارج مقر البرلمان، في مكان أكثر اتساعاً (قصر المؤتمرات في اليونيسكو) لضمان المسافة الآمنة بين النواب، عودة الحراك الشعبي إلى الشارع بعد توقف مجموعات ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن النزول إلى الشوارع على إثر تأليف الحكومة، في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، وبسبب ظهور إصابات كورونا في لبنان في 21 فبراير (شباط)، فالتدهور السريع للوضع المعيشي، بارتفاع متزايد لسعر صرف الدولار بالليرة (خسرت أكثر من 110 في المئة من قيمتها)، والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية، وتزايد البطالة بسبب إقفال مؤسسات، وعجز المياومين عن كسب قوتهم نتيجة الإغلاق العام، وتأخر تقديم المساعدات المالية الحكومية المتواضعة للفقراء، أعادت شحن النقمة الشعبية ضد الطبقة السياسية، فتظاهر الناشطون في معظم المناطق بالسيارات ملتزمين تدابير الوقاية من كورونا، بارتداء الكمامة الواقية من الفيروس، واقتصار الركاب في كل سيارة على إثنين، ورفعوا شعارات منددة بالطبقة السياسية الفاسدة، تتهم الحكومة بالخضوع لرموزها، وتطالب بسقوطها وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، لفقدان الثقة بالطبقة الحاكمة، وواكب ذلك صدور تعاميم عن مصرف لبنان المركزي بين الفينة والأخرى لمعالجة النقمة ضد القيود على سحب الودائع في المصارف، تؤدي إلى المزيد من الإرباك وآخرها تشريع سحوبات ودائع الدولار، لكن بعد تحويلها إلى الليرة اللبنانية بسعر سوق الصيرفة أي ضعف السعر الرسمي، ما يعني تحرير سعر الصرف بالسعر الأعلى الذي يحدده السوق، ما أثار ضجة، لأنه تم من دون تنسيق مع الحكومة كما قال رئيسها.
دفع كل ذلك شخصية سياسية معارضة إلى الاعتراف بأن هناك سلطة تفتقد التوافق بين مكوناتها، في شكل يحول دون قيام معارضة موحدة.
انقسام طائفي حول قانون العفو
وأكثر المواضيع التي شهدت الجلسة النيابية انقساماً عليها هو اقتراح قانون العفو عن مساجين محكومين بجنح كالاتجار بالمخدرات وترويجها (أكثريتهم من محافظة البقاع، شرق لبنان)، أو بجرائم مالية، أو بغيرها ومنهم السجناء الإسلاميون الذين بقوا من دون محاكمة منذ سنوات، وبدا الانقسام حوله بين الأحزاب الإسلامية مثل "حزب الله" وتيار "المستقبل" وحركة "أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" التي تؤيده، بينما الأحزاب المسيحية مثل "التيار الوطني الحر" وحزب "القوات اللبنانية" وحزب "الكتائب" تعارضه، بحجة وجود ثغرات فيه يمكن أن ينفذ منها بعض المتطرفين الذين قاتلوا الجيش والقوى الأمنية وتسببوا بمقتل ضباط وعسكريين، على الرغم من وجود مواد فيه تستثني هؤلاء من العفو، فالأحزاب الأولى وعدت جمهورها في البقاع والشمال وغيرهما بالعفو منذ سنوات، والثانية تريد حصر الأمر بجرائم صغيرة، مع أن الفريقين يتفقان على وجوب خفض اكتظاظ السجون مخافة انتشار كورونا فيها، لكن السجال أخذ طابعاً حاداً حين اعترض رئيس "التيار الحر" جبران باسيل بطريقة تطرح صلاحيات البرلمان قائلاً "وباء كورونا لا يغطّي الجريمة ولا يجوز تمرير العفو تحت جنح كورونا والسياسة العقابية تضعها الحكومة ونرفض مناقشة العفو بهذا الشكل".
لكن رئيس مجلس النواب نبيه بري ردّ بحدة مؤكداً أن "من حق المجلس أن يشرّع وعندما يأتي المشروع من المجلس يكون اقتراحاً وعندما يأتي من الحكومة يكون مشروعاً"، وفرض متابعة النقاش في الاقتراح الذي كان تقدم به عدد من النواب، وتجنباً لانقسام طائفي في البرلمان في حال جرى التصويت على العفو، أحيل نتيجة المناقشة إلى اللجنة النيابية المعنية لمناقشته وإعادة طرحه بعد أسبوعين.
صراع الصلاحيات بين قوى "الموالاة"
وغمز بري من قناة حزب باسيل بملاحظة قد تهدف إلى استمالة مجموعات الحراك أيضاً بقوله "المشكلة في لبنان، أن الاحزاب لم تحزّب الطوائف بل الطوائف طيّفت الأحزاب وكفى دوراناً حول الحقيقة، فالمجلس النيابي لم يستطع القيام بدوره الرقابي بسبب النظام الطائفي".
الواقعة الأخرى التي تدل إلى أن علاقات مكونات الحكومة ليست على ما يرام، تكمن في الصدام المبطن الذي جرى بين بري وفريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي كان ردّ مشروع قانون إقامة نفق بين بيروت والبقاع، تضمن في أسبابه الموجبة نوعاً من التوبيخ للبرلمان على أخطاء تشريعية، لكن بري حيّد الرئيس عون في رده تجنباً للصدام معه، لا سيما أن حليفه "حزب الله" يحرص على حفظ علاقة جيدة مع رئيس الجمهورية، فاعتبر أن من كتب كلام عون هم المستشارون وقال "المجلس يقوم بدوره وأكثر، تشريعياً ورقابياً مهما قالوا ويقولون".
وسبق لبري أن اعترض داخل الحكومة على التعيينات المالية، وأوقف عبر وزيرين مواليين له مشروع "الكابيتال كونترول" ثم خيار الاقتطاع من الودائع لسد فجوة الخسائر المالية للمصارف ومصرف لبنان، داخل الحكومة، بينما كان عون وباسيل يؤيدانهما ضمناً.
وتعددت الانقسامات حول مشاريع القوانين التي أحيل الكثير منها إلى اللجان النيابية لدرسها ريثما يتم التوافق عليها، فخضع بعضها للمزايدة باسم محاربة الفساد مثل رفع الحصانة عن الوزراء لمحاكمتهم أمام القضاء العدلي بدلاً من المجلس الأعلى المشكل من البرلمان، فأحيل إلى اللجان.
الاستدانة وغياب الخطة الاقتصادية
مثل آخر على غياب التوافق حول الأزمة الاقتصادية المالية، أن الأكثرية النيابية أحالت إلى اللجان النيابية مشروعاً تقدم به دياب بدعم من "التيار الحر" لتخصيص 1200 مليار ليرة (800 مليون دولار) لمساعدة المزارعين والصناعيين والحرفيين ومن فقدوا أعمالهم، عبر طرح سندات خزينة بالليرة للبيع، فقد تساءل العديد من النواب "كيف تقرر الحكومة المزيد من الاستدانة في ظل الإفلاس والعجز، في وقت لم تنجز خطتها الاقتصادية التي يفترض أن تطلع البرلمان عليها"؟
يلخص أحد النواب المستقلين المشهد السياسي النيابي معتبراً أن القوى السياسية التي تقف وراء الحكومة توظفها كواجهة لأجندتها الخاصة، تحت سقف الكيديات بين مكوناتها وبينها وبين الأحزاب المعارضة، والقيمون على الأمور يهربون من معالجة المشكلة الأساسية، الاقتصادية المالية، باللجوء إلى طرح عناوين رنانة تتعلق بالفساد، لاتهام فريق آخر بالتسبب بالمأزق، في وقت المطلوب خطة واضحة توقف التدهور وتطلب مساعدات على أساسها من صندوق النقد الدولي، وإذا نجحت في ذلك، فإن طرح الحلول التقنية لا يكفي لأن استعادة ثقة المجتمع الدولي تحتاج إلى معالجة الأسباب السياسية للمشكلة.
أما المعارضة، أي "المستقبل" و"القوات" والاشتراكي" و"الكتائب"، فتتقاطع مواقفها في بعض المسائل وتتعارض في غيرها، وليست لديها رؤية موحدة للإنقاذ، بما فيها حيال اقتراح القانون الذي طرحه "الكتائب" على البرلمان بتقصير مدة ولايته لإجراء انتخابات نيابية مبكرة في الخريف المقبل، وهو اقتراح جرت إحالته إلى اللجان النيابية لدرسه أيضاً.
ويبقى ترقب تطور تحركات الانتفاضة الشعبية في الشارع بعد التعبئة التي بدأت لمناسبة اجتماع البرلمان.