في إحدى الأسواق الصاخبة لبيع اللحوم في جزيرة سياحية في إندونيسيا في السابع من أبريل (نيسان)، وضعت كومة من الخفافيش الميتة للبيع على طاولة، إلى جوار قطع من لحم الخنزير الطازج، بينما كان جزّار يعمل غاضباً على إبعاد زبون حاول التقاط صورٍ للمشهد بواسطة هاتف آيفون الخاصّ به.
وقبل يومين، تمّ على بعد ألفي ميل إلى الشمال، حشر قططٍ في أقفاص قذرة في سوق في مقاطعة غوانشي جنوب غربي الصين، حيث جرى تكديس أنواع مختلفة منها بعضها فوق الآخر بشكل عشوائي، وتمّ ذبحها جنباً إلى جنب، فوق أرضٍ خرسانية تطغى عليها الأوساخ والدماء والأجزاء الحيوانية.
وفي السادس والعشرين من مارس (آذار)، كان بائع أدوية تقليدي في مقاطعة غوانغدونغ الجنوبية المجاورة لهونغ كونغ، يقدّم علاجات مستخرجة من خفافيش وعقارب لعلاج أمراض تتفاوت ما بين آلام الكتف والروماتيزم، وصولاً إلى لدغات البعوض.
وتواصل أسواق الحيوانات الحيّة وتجارة الحياة البرّية عملها في أنحاء مختلفة من الصين ومناطق في جنوب شرقي آسيا، على الرغم من الدعوات الدولية المتزايدة إلى فرض قيودٍ أكثر صرامة على أسواق "الحيوانات الحيّة والأسماك"، واستخدام الحياة البرية في الطب التقليدي. ويُعتقد أن تفشّي فيروس كوفيد-19 المستجدّ قد نشأ في سوق للحياة البرية في ووهان في الصين وانتقل إلى البشر بسبب قربهم من الحيوانات البرّية.
"اندبندنت" تنظّم حملةً لوقف تجارة الحياة البرّية، من خلال تعبئة ملايين الأشخاص حول العالم للمرّة الأولى عبر الإنترنت. وتتزامن الحملة مع الذكرى الخمسين لـ"يوم الأرض" الأربعاء، لمعالجة موضوع العمل المناخي لهذه السنة. وحذّر خبراء البيئة من الصلات التي لا تنفصل بين تغيّر المناخ وفقدان التنوّع البيولوجي والأمراض الحيوانية المصدر، مثل فيروس كورونا، خوفاً من ألا يكون هذا آخر وباء يلحق الخراب بالجنس البشري.
وفي ما تبدو أسواق اللحوم نظيفةً ومنظّمة في كل من بكين ومدينة شنغهاي التي تُعدّ المركز المالي للبلاد، فإن "الأسواق الرطبة" في المدن البعيدة في جنوب وغرب الصين التي تبعد أكثر من ألفٍ و600 كيلومتر عن العاصمة، لا تظهر أي ملامح تذكّر بالتحذير الذي وجّهه علماء الأوبئة من مخاطر المرض المنتقّل من الحيوانات.
وقد اكتسبت سوق توموهون الإندونيسية سمعةً سيّئة بين زائريها، لبيعها أنواع اللحوم البرّية ومواصلة الذبح اليومي فيها للكلاب والقطط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من وقوع ستة آلاف وسبعمئةٍ وستين حالة إصابة بفيروس كورونا، وخمسمئةٍ وتسعين حالة وفاة في جميع أنحاء إندونيسيا، فقد استمرّ بيع الحيوانات البرّية بما فيها الخفافيش والجرذان والزواحف الأسبوع الماضي بلا رادع، بسبب الإحباط الكبير الذي تشعر به مجموعات رعاية الحيوانات، التي كانت تسعى إلى إيقاف هذه التجارة مؤقتاً على الأقل. وقد شوهدت أشلاء الأنواع المختلفة من الحيوانات، مقطّعةً ومرميةً على الطاولات.
وأطلع فرانك ديلانو مانوس من مؤسّسة الرفق بالحيوان Animal Friends Manado Indonesia "اندبندنت" على أنه شارك في اجتماعين أخيرين مع مسؤولين حكوميّين إقليميين، برز فيهما كلام على الخطر الوشيك المتمثّل في انتقال مسبّبات الأمراض من الخفافيش في سوق توموهون منذ عام 2018.
وقال إنه "في عام 2018، اختبرت وزارة الزراعة عيّنات من خفافيش أُخذت من سوق توموهون. وبعد فحص نحو ثلاثة عشر خفّاشاً، تبيّن أن أربعةً منها كانت نتائجها إيجابية لسلالة مختلفة من فيروس كوفيد-19. وقد تفاجأتُ وذُهلت عندما علمت بذلك".
وعندما بدأ فيروس كورونا بالتأثير في إندونيسيا، أمرت الحكومة الإقليمية في بادئ الأمر بفتح سوق توموهون فقط في فترة الصباح حتى الساعة العاشرة صباحاً - وهو مرسوم يقول مانوس إنه تمّ الاستهزاء به على الفور.
وأشار في المقابل إلى أن المسؤولين وافقوا الآن على إقامة حواجز على الطرقات لمنع نقل الحيوانات البرية، بما فيها القطط والكلاب، إلى سوق توموهون. ومن المتوقّع أن يتمّ نشر تلك الحواجز في غضون أسبوعين، لكن ذلك سيكون متأخراً جدّاً وفق المسؤول في مؤسّسة الرفق بالحيوان.
ويضيف بأن "فيروس كوفيد-19 جاء من الصين، وتلك الدولة تعاني على الرغم من أن لديها قوّة كبيرة واقتصاداً ضخماً، وما زالت تكافح من أجل التغلّب على المشكلة. وقد قلتُ للناس في أحد هذه الاجتماعات: تخيّلوا ما سيكون التأثير في شعبنا واقتصادنا إذا جاء هذا الفيروس من توموهون؟ إنه قد يدمّر كلّ شيء".
وتُعدّ الخفافيش طبقاً شعبياً في مقاطعة شمال سولاويزي في إندونيسيا، حيث يتمّ تناولها مع الكاري الممزوج بحليب جوز الهند. ويقول فرانك ديلانو مانوس: "إذا سألت الجزّارين أو العملاء عمّا إذا كانوا قلقين من تفشّي فيروس كورونا، فإنهم يردّون بالقول إن الوباء جاء من الصين ولم يأت من توموهون. إنهم لا يكترثون على الإطلاق".
ويرى الدكتور ريتشارد س. أوستفيلد عالم أمراض البيئة وكبير العلماء في معهد "كيري لدراسات النظم البيئية" Cary Institute of Ecosystem Studies لـ"اندبندنت"، أن "خطر انتقال فيروس حيواني إلى الناس يرتبط غالباً بإفرازات الحياة البرية المصابة، بما فيها اللعاب والبول والبراز".
وأضاف: "من الممكن أيضاً أن يحدث انتقال للعدوى من خلال قتل الحيوانات وذبحها. إن استهلاك اللحوم المطبوخة سواء كان مصدرها حيوانات برية أو من الماشية، فلا يشكّل الخطر نفسه".
وأشار أوستفيلد إلى "أن المخاطر الصحّية تكمن في إسكان أنواع مختلفة من الحياة البرية في أماكن قريبة جداً وفي ظروف غير صحية، الأمر الذي لا يحدث عادةً في الطبيعة. ويتمّ في ظلّ هذه الظروف، الضغط على الحيوانات وإلقائها مسبّبات الأمراض التي يمكن أن تنتقل بسهولة إلى حيوانات أخرى وإلى البشر".
وكانت الصين قد أعلنت في أواخر فبراير (شباط) الماضي، حظراً على تربية الحيوانات البرية واستهلاكها بسبب تفشي فيروس كورونا. وتُعرض لافتاتٌ بالإنجليزية والصينية في محطّات السكك الحديد وتقاطعات الطرق تقول: "لا تأكل الحيوانات البرية".
وأعيد فتح أسواق اللحوم في جميع أنحاء البلاد لكن يبدو أنها تلتزم الحظر المؤقّت الذي من المتوقّع الآن أن يتمّ رفعه بمجرّد انتهاء أزمة كوفيد-19. وكان حظرٌ مماثل فوري قد تمّ فرضه في أعقاب أزمة "سارس" في عام 2003، لم يُجرَ تمديده.
ومع ذلك، تختلف ظروف النظافة في أسواق اللحوم اختلافاً واضحاً في أنحاء مختلفة من البلاد، بحيث تكون نظيراتها في بكين وشنغهاي والمدن الشرقية الرئيسية نظيفةً نسبياً، بينما تبدو أقل من عادية في المناطق الريفية الغربية من الصين.
في أسواق مقاطعة غويلين في الصين، وبلدات أخرى في مقاطعة غوانغشي الجنوبية الغربية التي تمّت زيارتها في الأسبوعين الأخيرين، تم تكديس أقفاص القطط والكلاب والبطّ والأرانب بعضها فوق البعض الآخر، وذُبحت الحيوانات جنباً إلى جنب على الأرض في ظروفٍ يُنظر إليها على أنها تشكّل خطر انتقال المرض من نوع إلى نوع.
وقد بحثت دراسة نُشرت في مجلة "ساينس" الأسبوع الماضي، في مدى ارتباط حيوانات النمس وغيرها بانتقال فيروس كوفيد-19 من خلال إجراء اتصال وثيق مع البشر.
ووجدت مجموعة علماء في الصين، بمَن فيهم باحثون من "مختبر الدولة الرئيسي للتكنولوجيا الحيوية البيطرية" ومن "المعهد الوطني لمكافحة الأمراض الفيروسية والوقاية منها"، أن الفيروس استُنسخ بشكل قليل جدّاً عند الكلاب والخنازير والدجاج والبط، في حين أن حيوانات النمس والقطط كانت مجيزة للعدوى. وظهرت أيضاً أدلّة على أن القطط كانت عرضة للعدوى المحمولة جواً.
في دونغوان مقاطعة غوانغدونغ المجاورة، التي تبعد نحو ساعة بالسيارة عن حدود هونغ كونغ، ظهر اسم الخفافيش على قائمة تجار الأدوية التقليدية، الذين أعلنوا عنها على أنها علاجٌ لمجموعة من الأمراض. وكانت مدرجة على لافتة بارزة في سوق اللحوم.
وأفاد أحد المراسلين في غوانغشي بأن "الظروف في الأسواق ما زالت نفسها كما كانت عليه قبل إغلاقها لبضعة أسابيع أثناء تفشي فيروس كورونا". لكنه لاحظ أن "الاختلاف الوحيد هو في عدم وجود حيوانات برّية للبيع في الوقت الراهن. إن أحداً لا يتوقع جدياً أن يدوم هذا الوضع، لأن هناك الكثير من الأرباح التي يمكن أن تتحقق نتيجة الاتجار بلحوم الحيوانات البرية".
أما في العاصمة بكين، فعلى نقيض ذلك، كانت أسواق اللحوم التي زارها مراسلٌ آخر، تشبه أقسام اللحوم في محلات السوبرماركت البريطانية، حيث يُجرى الذبح خارج الموقع، ويتم الحفاظ على معايير صارمة في تطبيق النظافة.
وأوضح مراسلنا في بكين أن "الرئيس شي جين بينغ كان قد أقفل جميع الأسواق القديمة في العاصمة الصينية بعد وقتٍ قصير من تولّيه السلطة في عام 2012، لكن هذا الإجراء أسهم في نقل تجارة الحياة البرية إلى أجزاءٍ أخرى من البلاد حيث تواصلت أعمال ذبح الحيوانات".
وكان تركيز بعض المسؤولين الصينيّين في الأسابيع الأخيرة يصبّ على إبعاد اللوم عن تجارة الحياة البرية في اتجاه نظريات المؤامرة، لجهة أن فيروس كوفيد-19 قد أدخل إلى مدينة ووهان على يد أفراد من الجيش الأميركي أو من زائرين أتوا من إيطاليا.
وفيما يُعدّ مصدر الفيروس الذي تسبّب بمرض كوفيد-19 غير معروف، كانت الدلائل تشير إلى أنه ربما نشأ عند الخفافيش. وعلى الرغم من أن حالات الإصابة الأولى بين البشر بفيروس كورونا المستجد قد تم تحديدها في ووهان، فمن غير الممكن تحديد طريقة إصابتها بالعدوى، كما تقول منظمة الصحة العالمية.
واستناداً إلى المنظمة التي تُعنى بشؤون الصحة على المستوى الدولي، فإن تفشي مرض "سارس" في عام 2003 نجم عن فيروس قفز من قطط الزباد إلى البشر. وبطريقة مماثلة، يُعتقد أن فيروس كورونا المستجد قفز مخترقاً حاجز أصناف الحيوانات من خلال مضيفٍ وسيط، وهو صنف غير معروف من المرجح أن يكون قد تم التعامل معه من جانب البشر - سواء كان حيواناً محلياً أو بريا.
ويرى أستاذ علم الأوبئة البريطاني بن كولينغ، الذي يعمل في جامعة هونغ كونغ، وكان قد درس التفشّي الأصلي بالتفصيل، أن الفيروس نشأ "بالتأكيد" عند الخفّاش، وأنه من غير المحتمل أن يكون قد بدأ في أي مكان آخر غير مدينة ووهان الصينية، أو في المنطقة المحيطة بالمدينة.
وأشار إلى أنه لا يوجد خطأ بطبيعته في أسواق الحيوانات الحيّة شرط أن تستوفي شروط النظافة، لكن المشكلة الأكبر تتمثل في تجارة الحيوانات البرية التي تقدر قيمة التداول فيها بنحو سبعةٍ وخمسين مليار جنيه استرليني (70.7 مليار دولار أميركي) سنوياً في الصين وحدها.
وقال البروفيسور كاولينغ: "لقد أوقفوا (في الصين) تجارة الحيوانات البرية في الأسواق بعد مرض"سارس" لكنها عادت إلى الظهور. قاموا مرة أخرى بحظر بيع الحيوانات البرية، لكن هناك الكثير من المصالح الخاصة والكثير من الأموال التي تفرز مخاوف من أنه قد يكون من الصعب إبقاؤها محظورة".
من المثير للدهشة أن قائمة العلاجات الموصى بها للتعافي من عدوى كوفيد-19 الصادرة عن "لجنة الصحة الوطنية الصينية"، تضمّنت حِقن علاج الطب التقليدي التي تحتوي على المادة الصفراء التي يفرزها كبد الدب.
وتقول جيل روبنسون المؤسّسة والرئيس التنفيذية لمنظمة Animal Asia التي تدير ملاذاتٍ في الصين وفيتنام للدببة التي تم إنقاذها من تجارة الصفراء، إنه "ينبغي ألا نعتمد على منتجات الحياة البرية مثل دب الصفراء، لمكافحة فيروس قاتل يبدو أنه نشأ من حيواناتٍ برية".
ورأت أنه بدلاً من ذلك "يجب إغلاق أسواق الحياة البرية والمزارع في آسيا إقفالاً دائماً. فهذا التفشي الأخير للفيروس أدى إلى خلل كارثي يحيط بمعالجاتنا للمرض وباستغلالنا للأنواع البرية، والطبيعة تقاوم".
© The Independent