في عام 2001 أجرى خبراء أميركيون محاكاة لهجوم بالأسلحة البيولوجية ضد الولايات المتحدة، بهدف وضع استراتيجية للدفاع ضد الهجمات المحتملة من هذا النوع، وتم تقديم نتائجها إلى مجلس النواب الأميركي آنذاك. التجربة التي سُميت "الشتاء الأسود" وشملت محاكاة لهجوم بمرض الجدري، حذّرت من أن عدم الاستعداد للهجمات البيولوجية بمثابة حالة طوارئ.
وقدمت هذه المحاكاة حزمة من التوصيات تركزت بشكل رئيس على جاهزية القطاع الصحي للمواجهة، وبناء مخزون صيدلاني وطني، فضلاً عن زيادة تمويل الأبحاث الطبية المختصة بتطوير لقاحات جديدة وبناء استراتيجية واضحة للعمل مع وسائل الإعلام كشركاء في توصيل المعلومات المنقذة للحياة.
وحذّر السيناتور السابق، سام نون، الذي قاد التجربة وقتها، من أن الولايات المتحدة عُرضة لهجوم بالأسلحة البيولوجية، ما يستوجب الاستعداد بكل سرعةٍ ممكنة، وقال في شهادته أمام مجلس النواب في يوليو (تموز) 2001، "الأعداء لا يهاجمونك حيث تكون قوياً، سيهاجموننا حين يعتقدون أننا ضعفاء".
درس كورونا
واليوم، إذا كان هناك درسٌ جناه العالم من تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، فهو عدم استعداد الدول الكبرى أو القوى الدولية لتهديدٍ بيولوجي، وذلك بالنظر إلى أنه حتى الآن تسبب الفيروس التاجي الجديد في إصابة نحو 2.5 مليون شخص حول العالم، بينهم أكثر مليون حالة في الولايات المتحدة، بخلاف وفاة نحو 170 ألف شخص عالمياً، ناهيك بالخسائر الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخ البشرية.
ويستبعد العلماء أن يكون فيروس كورونا، الذي نشأ في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، نوعاً من الأسلحة البيولوجية، لكن بعيداً عن الجدل بشأن المكان الذي انطلق منه، يظل هناك واقع يتعلق بالحاجة إلى الاستعداد الدائم لمثل هذه التهديدات.
الجمرة الخبيثة
الإرهاب البيولوجي، مصطلح يُستخدم دولياً للإشارة إلى التطوير المتعمد لسلالات الميكروبات المسببة للأمراض لإحداث الإصابة أو الموت للبشر، ولسنوات طويلة أوصت وكالات الأمن والاستخبارات، فضلاً عن الخبراء ووكالات الصحة في الولايات المتحدة بضرورة الاستعداد لمواجهة أي تهديدٍ من هذا النوع، لا سيما بعدما استخدم بعض المتطرفين هجمات "الجمرة الخبيثة" في عام 2001 لإحداث الفوضى والقلق، إبان فترة حكم الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش.
أول هجوم بيولوجي ضد أميركا
ولم يكن هجوم "الجمرة الخبيثة" هو الأول من نوعه في الولايات المتحدة، فقد سبقه هجوم بمرض السالمونيلا عام 1984، الذي انتشر في عددٍ كبير من المطاعم والمتاجر الأميركية في ولاية أوريغون، وهو الهجوم الذي كان يقف وراءه اتباع زعيم هندي متطرف، حيث أقر بهغوان شيري راجنيش، زعيم حركة راجنيش، بالوقوف وراء الهجوم الذي يُسجّل كأول هجومٍ إرهابي بيولوجي في الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية.
وبحسب موسوعة "بريتانيكا"، فإن الاستخدام المباشر للعوامل المُعدية والسموم ضد العدو هو ممارسة قديمة في الحروب. وفي الواقع، فإنه في العديد من النزاعات، كانت الأمراض مسؤولة عن الوفيات أكثر من جميع الأسلحة القتالية المستخدمة مجتمعة، حتى عندما لم يتم استخدامها بوعي كأسلحة.
حظر استخدامها في الحروب
ويشار إلى الأسلحة البيولوجية بوصف "أسلحة الدمار الشامل"، مثل الأسلحة الكيميائية والإشعاعية والنووية. وبسبب الطبيعة العشوائية لهذه النوعية البيولوجية وكذلك إمكانية بدء انتشار الأوبئة وصعوبة السيطرة على آثار المرض والفزع الذي تثيره، وافقت معظم البلدان على حظر هذه الأسلحة.
وحظرت معاهدتان دوليتان الأسلحة البيولوجية في عامي 1925 و1972، واعتباراً من عام 2013، وقّعت 181 دولة اتفاقية الأسلحة البيولوجية (BWC)، و171 من تلك الدول صدّقت على المعاهدة، التي فتحت للتوقيع في عام 1972، وبموجب شروطها، فإن الدول الأعضاء يحظر عليها استخدام هذه الأسلحة في الحروب أو تطويرها أو اختبارها أو إنتاجها أو تخزينها أو نشرها.
هل دمرت روسيا ترسانتها البيولوجية؟
ومع ذلك، شكّك ماكس بروكس، الزميل لدى المجلس الأطلنطي ومعهد الحرب الحديثة، في التزام الدول بهذه الاتفاقات، وتساءل في مقال أخيراً "حتى لو استطعنا أن نثق في أن الروس التزموا باتفاقية 1972 ودمروا ترسانتهم من الأسلحة البيولوجية، فماذا عن الصين أو كوريا الشمالية اللتين لم تصدقا على المعاهدة؟ ماذا عن الجماعات الإرهابية، والجهات الفاعلة من غير الدول التي ليس لديها أرض للدفاع عنها ولا شيء تخسره؟".
ويتفق معه فريدريتش فريشكنيت، الباحث لدى معهد باستور في فرنسا، مشيراً إلى أن هذه المعاهدات فشلت إلى حد كبير في منع البلدان من إجراء الأبحاث الخاصة بالأسلحة الهجومية وإنتاج الأسلحة البيولوجية على نطاق واسع. وواصل عدد من الدول السعي وراء قدرات الحرب البيولوجية، بهدف الحصول على وراء سلاح استراتيجي أرخص ولكنه لا يزال مميتاً بدلاً عن اتباع المسار الأكثر صعوبة والأكثر تكلفة وهو الأسلحة النووية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تهديد بعض المنظمات الإرهابية بصنع أو سرقة أسلحة بيولوجية يشكل مصدر قلق أمني متزايد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دول لديها برامج أسلحة بيولوجية
وبحسب مبادرة التهديد النووي، مركز أبحاث أميركي مناهض لأسلحة الدمار الشامل، فإن هناك 17 دولة لديها أو يشتبه حالياً في وجود برامج أسلحة بيولوجية لديها وهي تايوان وكندا والصين وكوبا وفرنسا وألمانيا وإيران والعراق وإسرائيل واليابان وليبيا وكوريا الشمالية وروسيا وجنوب أفريقيا وسوريا وبريطانيا والولايات المتحدة.
ولا يهدف الإرهاب البيولوجي فقط إلى إحداث الكوارث الكبرى مع وقوع إصابات جماعية والتسبب في الوفيات والمرض، لكن أيضاً خلق خلل اجتماعي وسياسي، ومن ثم فإن الاستعداد هو أقوى دفاع ممكن ضد الانتشار الطبيعي للأوبئة أو هجمات الإرهاب البيولوجي المحتملة.
ضرورة التثقيف بشأن هذه التهديدات
وقبل عامين حذّرت دراسة منشورة في صحيفة "ساينتفيك وورلد"، عدد يوليو 2018، من عدم استعداد الولايات المتحدة للتعامل مع هجوم إرهابي بالأسلحة البيولوجية، وأوصت المجتمع الطبي بضرورة الاستعداد دائماً من خلال تثقيف الجمهور وصانعي السياسيات بشأن هذا النوع من التهديدات.
وعلى المدى الطويل، أشارت إلى الحاجة إلى الاستعداد من خلال سرعة الكشف والتشخيص وتوصيف الوباء، والاستجابة بشكل مباشر حال وقوع هجوم من خلال خطط استراتيجية للتعامل الفوري تشمل تعليم وتدريب مقدمي الرعاية الصحية، خصوصاً أطباء الطوارئ الذين يشكلون ركيزة المعركة ضد الإرهاب البيولوجي.
ربط المستشفيات بغرف الطوارئ والمختبرات
ويبدو أن الاستعداد هو أقوى دفاع ضد أي هجمات إرهاب بيولوجي محتملة، حيث توصي الدراسات الخاصة بمواجهة الأوبئة والحروب البيولوجية بضرورة إنشاء أقسام الطوارئ بطريقة مناسبة للفوضى المحتملة والاكتظاظ الذي قد يحدث عند وقوع حدث حقيقي. وتؤكد على ضرورة الاستعداد لعوامل أي حرب من هذا النوع كجزء من سياسة دفاع بيولوجي وطنية. وتشمل التوصيات وضع نظام مراقبة سريع بين المستشفيات وغرف الطوارئ والمختبرات ودوائر الصحة العامة. ولذا فإن وجود طاقم طبي مدرب جيداً وأنظمة بيانات فعّالة وقدرة مخبرية كافية داخل المؤسسات الصحية هي أهم أسس الاستجابة المناسبة.
ويعتقد بروكس أن الخطأ الذي اقترفته الولايات المتحدة هو التخلي عن الدفاع البيولوجي منذ حرب العراق، إذ كان الخوف من المخزون "المزعوم" من الأسلحة البيولوجية لدى صدام أحد الأسباب الرئيسة لتلك الحرب الكارثية، ومن ثم فإنه بعد التخلص من صدام والتأكد من عدم امتلاكه هذه الأسلحة، لم يفكر الأميركيون في أنه يمكن لأي شخص أن يمتلكها.
النظر إلى الصحة العامة كأمن قومي
وفي وقت بات من الممكن أن تتسبب مجرد كلمة مثل "سعال" في إحداث فوضى عالمية ووفاة الآلاف أو حتى الملايين كما حدث بسبب انتشار الإنفلونزا الإسبانية عام 1920، فإن الدراسات تؤكد على ضرورة النظر إلى الصحة العامة كأمنٍ قومي، ما يعني إعداد بنية تحتية قوية للصحة العامة تكون حاسمة في تقليل الأضرار، وتعزيز التعاون مع منظمة الصحة العالمية واستعادة القيادة في مكافحة الميكروبات.
ولأن الصحة العامة والأمن القومي مسألة واحدة، يرى بروكس، حاجة الولايات المتحدة إلى تدريب قواتها العسكرية على حالات الكوارث، وهو ما حدث بالفعل حين تمت المشاركة في خطة الكوارث الرئيسة. وعندما تمكن المشاركون من العمل جنباً إلى جنب مع المتخصصين في الصحة العامة، كما هو الحال في عملية المساعدة المتحدة ضد مرض الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014، أظهروا قوة في هزيمة العدو في الخارج بدلاً عن انتظاره في الداخل.