يأتي عيد العمّال في الأول من مايو (أيار) من كل عام محمّلاً بثالوث بات اعتيادياً: تصريحات رسمية بأنّهم قلب الوطن وعصب التنمية وشرايين البناء والتحدي، وتحرّكات عمالية متأرجحة بين التأييد والتعضيد الرسمي للتصريحات ومعاهدة على الاستمرار في البناء، والتنديد والتقريع لأحوالهم المعيشية وظروفهم المادية وحقوقهم العمالية، وأغنيات عمالية تبثها الشاشات تتغنّى بـ"دور يا موتور"، و"هيلا هيلا والشدة على الله"، لتملأ أجواء الأثير في مثل هذا اليوم من كل عام.
لكن، هذا العام ليس ككل عام. صحيحٌ أنّ التصريحات الرسمية عن القلب والعصب والشرايين عاودت الظهور، وردود الفعل العمالية المتناقضة لم تتخلَّف عن الحضور، والأغنيات العمالية كذلك تتردد عبر الأثير، لكن الجائحة ألقت بظلالها، والخسائر أطلّت برؤوسها، وأطراف المعادلة العمالية يجدون أنفسهم في عيد العمال في مواجهات تاريخية مع بعضهم بعضاً.
تخفيض أجور وتسريح
البعض ممن كان يُفترض أن يكونوا من المحتفلين بعيد العمال هذا العام يجدون أنفسهم وقد انخفضت أجورهم إلى النصف بعد تقليل عدد الورديات، وتخفيض وتيرة العمل في مصانع وشركات، إضافة إلى تسريح البعض.
البعض الآخر اضطر إلى تغيير طبيعة العمل بعد ما توقّف دخله بفعل الفيروس. وآخرون يجدون أنفسهم قابعين في بيوتهم، منتظرين ما ستسفر عنه مطالبات رجال الأعمال بالتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وجهود الدولة لتقديم مساعدات مالية مؤقتة، ومناشدات جمعيات خيرية لأهل الخير بالتبرّع إلى هذه الفئة المتمددة المتشعبة التي تحوي ملايين العمال.
"ملايين العمال"، تلك العبارة المهلهلة تطل بعشوائيتها وغموضها في ظل الوباء الذي قلب معايير الاقتصاد رأساً على عقب، وعرّى عورات قطاعات العمل غير الرسمية من دون سابق إنذار. نائب رئيس اتحاد عمال نقابات مصر مجدي البدوي يقول "عدد العمالة غير المنتظمة في مصر يقدّر بنحو 12 مليون شخص"، وذلك رغم أن من سجّلوا أنفسهم باعتبارهم "عمالة غير منتظمة" لا يزيدون على 2.4 مليون مواطن ومواطنة. هذا الجيش الجرار لا يجد في عيد العمال كثيراً من دواعي الاحتفال. فهو وجد نفسه بفعل الوباء إمّا متأثراً بدخل انخفض إلى النصف وأكثر، وإمّا مضطراً إلى الانخراط في مجال توصيل الطلبات إلى المنازل المنتعش في ظل الحظر المنزلي والإغلاق، وإمّا قابعاً في بيته، معتمداً على أهل الخير.
حقوق وواجبات
الخير الوفير الذي أطلّ على ملايين البيوت المصرية منذ أطلّت المركبة ذات العجلات الثلاث في الشوارع المسماة "توك توك" قبل نحو عقد ونصف العقد من الزمان لم يعد وفيراً. فمع تقلّص نزول المواطنين من بيوتهم وانخفاض وتيرة المشاوير والزيارات تحت وطأة مخاوف عدوى كورونا، أقبل البعض من أصحاب التكاتك على تقليل عدد السائقين المتناوبين عليها.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقدّر عدد مركبات التوك توك في مصر (2018) بنحو ثلاثة ملايين، غالبيتها من دون ترخيص، بالتالي الصبية والشباب والرجال العاملون عليها من دون حقوق أو واجبات.
حقوق وواجبات نسبة كبيرة جداً من عمال مصر تطلّ برأسها في عيد العمال هذا العام، وهي في حيرة من أمرها. فالوباء لم يكتفِ فقط بإلحاق الأضرار البالغة بالغالبية العظمى من عمال مصر ممن أثر فيهم انتشار الفيروس والإجراءات المتبعة لتطويقه من حظر وإغلاق، لكنه كشف الغطاء عن هذا القطاع العريض جداً البعيد عن العين.
نوستالجيا وبدلة زرقاء
العيون المطالعة المشاهد المعروضة على الشاشات المصرية في هذه المناسبة من أغنيات عمّالية بالأبيض والأسود تتغنّى بالعمال وعملهم الشاق ودورهم الحيوي ومكانتهم الرفيعة في دفع الاقتصاد ونهضة البلاد لا تجد صلة تذكر بين ما تتابعه على الشاشة وما تعرفه عن الواقع، فالتركيبة العمالية بمصر في العام العشرين من الألفية الثالثة لم تعد تمتّ بصلة كبيرة إلى تركيبة الخمسينيات والستينيات التي تتفاخر بها شاشات زمان. وسواء كانت مناشدة الموتور حيث "دور يا موتور يا اللي بتلعب أعظم دور"، أو تشجيع أسطى سيد "يا أسطى سيد ارمي الأساس ده وابني وشيد واسهر ليالي ده السد عالي"، أو حتى تمجيد البدلة الزرقاء "بدلتي الزرقا من نسيح إيدي مش مفارقاني برضه ستراني"، فإن ردود الفعل لها لا تخرج عن إطار النوستالجيا العميقة والحنين إلى الماضي العمالي السحيق.
فلا العمّال باتوا ينظرون إلى "الموتور" باعتباره يلعب أعظم دور، ولا سيد ما زال يحتفظ بلقب "أسطى"، ولا كل هؤلاء باتوا يرتدون بدلة زرقاء، أو كما كان معروفاً "عفريتة زرقاء"، فقد تبدّلت الأوضاع وتغيّرت الصورة.
صورة العامل المصري في عيده 2020، شأنه شأن بقية عمال العالم، لم تعد كما كانت من قبل. لكن في مصر خصوصية من نوع مختلف. خصخصة كثير من المصانع الكبرى على مدار العقود الأربعة الماضية، واهتزاز صورة العامل بعد ما كانت جهود الدولة القصوى تبذل عقب ثورة يوليو (تموز) 1952 لتبجيل وتعظيم الأيدي العاملة على حساب "الأيدي الناعمة"، وعادت الناعمة لتحتل محل الصدارة، ولو كان سبب نعومتها قلة العمل أو تدهور قيمة العمل أو كليهما.
درجات التضرر
كل الأحاديث الدائرة هذه الآونة تدور حول سُبل مدّ يد العون إلى عمّال مصر المتضررين من آثار تفشي كورونا والإجراءات المتبعة، ما ألقى بظلال وخيمة على أماكن العمل من دون استثناء. أقل العمّال تضرراً هم العاملون في مصانع لم تغلق أبوابها بعد أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، أو تلك التي أغلقت ثم عاودت العمل بعد تحسّن الأوضاع الأمنية.
صحيحٌ، أنّ أزمة الوباء الحالية طالتهم، حيث تخفيض بدلات وحوافز مع إطالة ساعات عمل من دون مقابل، إلا أنّ كارثة على نطاق أوسع تدور رحاها بين الملايين من عمال مصر العاملين في مهن هامشية وأخرى موجودة بالواقع، لكن لا أثر لها على الأوراق الرسمية.
الأوراق الرسمية لا تحتوي على وظيفة "سايس" أو "عامل بناء" أو "صبي سباك" أو "نادل" أو "عامل ديليفري" أو "أوفيس بوي" (يجهز المشروبات، وينجز أعمالاً صغيرة في مكاتب العمل) وغيرها كثير.
مسؤولية مجتمعية
المسؤولية المجتمعية تطلّ برأسها عبر جدال محتدم منذ أسابيع، لكن يصل أقصاه في يوم عيد العمال. مسؤولية دعم العمال المتضررين من مغبة الفيروس وإجراءاته التي أغلقت أعمالاً، وخفّضت مداخيل، وخففت وتيرة العمل، وأقعدت البعض تماماً تتجاذبها أطرافٌ عدّة، ملقية بها تارة في ملعب رجال الأعمال، وأخرى في حلبة الحكومة، وثالثة في الحسابات المصرفية لأهل الخير.
مناشدات أهل الخير اليوم لم تكتفِ بألوان رمضان من دغدغة مشاعر الصائمين الراغبين في مضاعفة الثواب والتقرّب إلى الله بأعمال الخير الموجّهة إلى الفقراء، بل ارتدت لوناً إضافياً ألا وهو لون عيد العمال.
عاد الجدلُ المحتدمُ الذي تصاعد خلال أسابيع مضت بين فريقٍ يرى أن على رجال الأعمال تحمّل مسؤولية العمال المتضررين من باب المسؤولية المجتمعية، لا سيما أنهم ظلوا عقوداً طويلة يجنون ثماراً من الأرباح الناجمة عن عمل الملايين من هؤلاء، وفريق آخر يرى أن مهمة دعم وإنقاذ ملايين العمال في ظل الجائحة لا يجب أن تلقى في مرمى رجال الأعمال، وكونهم أثرياء لا يعني بالضرورة تحمّلهم مسؤولية الفقراء، وفريق ثالث يؤكد أنّ المسؤولية يجب أن تكون "حكومية بحتة"، فإمّا أن تتكفل بهم الدولة من الألف إلى الياء، وإمّا أن تجبر رجال الأعمال على تقديم العون في مقابل امتيازات ضريبية وتمويلية وغيرها.
مقايضة الدعم بالامتيازات
وبعيداً عن مقايضة الدعم بالامتيازات، فجّر رجل الأعمال نجيب ساويرس، قبل أيام، قنبلة جدلية من النوع الثقيل، حين أجرى مكالمة هاتفية إلى برنامج حواري، وقال "يجب عودة النشاط الاقتصادي فوراً بعد انتهاء الحظر، وإن لم يحدث ذلك، فإنّ القطاع الخاص سيعلن إفلاسه في ظل استمرار سداد الرواتب من دون وجود إنتاج". مضيفاً، "الحكومة وحدها لن تتمكّن من تعويض كل من فقد مصدر رزقه، وهو ما سيؤدي إلى تحوّل المتضررين إلى أحد مخرجَين: الجريمة أو الانتحار". وأشار إلى أنّ قطاعاً مثل السياحة الذي توقف تماماً "أدّى إلى تسريح آلاف العمال مع تخفيض جذري لرواتب القلة الباقية". واقترح ساويرس، أن يعود العمال "تدريجياً إلى المصانع مع بحث إمكانية مبيتهم فيها، لتفادي مشكلات التنقّل الناجمة عن ساعات الحظر المفروضة".
أبواب جهنم
فتح اقتراح ساويرس أبواب جهنم الجدلية على مصراعيها. نفتح أبواب المصانع ونغامر بأرواح العمال ونتحدّى الفيروس؟ أم نُبقي عليها مغلقة وتخرب بيوت العمال وتقل ثروات المليونيرات؟ أم نحتكم إلى الحكومة فإمَّا نحمّلها عبء الفيروس، وإمَّا نلزمها التفاوض مع رجال الأعمال؟ أم نطرق باباً آخر ألا وهو القلوب الرحيمة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رمضان المصنّف باعتباره شهر الرحمة والمغفرة فتح باباً دينياً تزامن والاحتفال بعيد العمال. مفتي مصر السابق علي جمعة يقول "يجوز تعجيل الزكاة هذه الأيام، ومنحها إلى العمّال الموسميين والعاملين المياومين الذين أدّت أوضاع (كورونا) إلى خسارتهم مصدر رزقهم، ولم يعد لهم أي مصدر رزق آخر".
مؤازرة دينية
تعضيد ديني آخر جاء للعمّال في مناسبة عيدهم من الأزهر الشريف الذي أصدر بياناً نقل فيه أسمى آيات التهاني إليهم، معرباً عن تقديره للعمال الذين يُستند إليهم لتحقيق التقدم والازدهار للوطن، ومشيداً باستمرارهم في أعمالهم يؤدونها بكل همّة وكفاءة وإتقان رغم الجائحة، حاملين أرواحهم على أياديهم، مبتغين وجه الله تعالى.
لكن، ابتغاء وجه الله تعالى وحمل الأرواح على الأيادي ومشاعر الامتنان والتقدير لا تغني عن ابتغاء المال، لضمان الاستمرار في البقاء على قيد الحياة وعدم الانزلاق نحو مزيد من الفقر.
اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) تشير إلى أن 8.3 مليون شخص سيدخلون دائرة الفقر في المنطقة العربية نتيجة تفشي فيروس كورونا، كما يُتوقع أن تفقد المنطقة نحو 1.7 مليون وظيفة على المدى القريب.
مراجعة سوق العمل
المدى القريب في مصر يشير إلى ضرورة حتمية لمراجعة سوق العمل. دراسة عنوانها "خلق فرص عمل أم امتصاص عمالة؟"، صدرت عن "منتدى البحوث الاقتصادية في عام 2018 لتشير إلى أنّ جانباً كبيراً من فرص العمل في مصر خُلِق استجابة إلى الضغوط المتزايدة من عرض الأيدي العاملة الكبير. محذرة من أن خلق الوظائف في مصر يعتمد بشكل رئيس على "العمالة غير الرسمية في المصانع الصغيرة من دون الالتفات إلى حجم الإنتاجية".
وترى الدراسة أن هذا يؤكد أن دور الاقتصاد غير الرسمي يقتصر على كونه وسيلة لامتصاص العمالة الزائدة على الحاجة في الاقتصاد الرسمي، وهو ما يتطلب تغييراً في نوع النشاطات الاقتصادية ومجالات الدراسة والتدريب والمهنية.
هذا العام، تتضاءل أصوات من ينتهزون عيد العمال فرصة للفت الانتباه إلى الحقوق المُهدرة للعاملات من النساء، أو تسليط الضوء على عمالة الأطفال، أو الأدوار النقابية الغائبة في مجال ضمان حقوق العمال، وجدليات النقابات المستقلة في مقابل الرسمية، ولا صوت يعلو في يوم العيد على أصوات تضرب أخماساً بأسداس حول مصير ملايين العمال، بين عمّال دائمين وموسميين وباليومية وبطالة مقنعة، وأخرى هامشية، وثالثة مضطرة إلى خوض مجال الديليفري لحين زوال الجائحة.
إلا أن هذا لا يمنع من أن أصوات أبطال فيلم العيد "الأيدي الناعمة" ستصدح عبر الشاشات، مذكّرة الملايين بما كان عليه وضع العمال وقيمة العمل في الخمسينيات والستينيات، وما طرأ عليه من تغيير بفعل تدهور التعليم وتجريف العقول وقلب موازين الأولويات في السبعينيات والثمانينيات وحتى أحداث عام 2011، لتبدأ مصر في لملمة أوراقها ودراسة أوضاعها لإعادة البناء. لكن يأتي كورونا ليلقي بظلاله على الجميع بدرجات متفاوتة، لكن للعمال نصيب الأسد رغم أنف عيدهم.