على غرار معظم مستشفيات العالم التي غمرتها طوفاناتٌ بشرية محاصَرة بالمرض والذُّعر، أخذ المستشفى الرئيس في بيزارو، المدينة الإيطالية الوادعة التي تستند إلى كتف البحر الأدرياتيكي، حصَّته المؤلمة من ضحايا فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19). مرضى تفيضُ بهم الحجرات والممرّات، أرواحهم تتدلى من هُدب الحياة، يقاومون الانزلاق إلى النهايات، ويقبضون على الخطط والمواعيد المؤجَّلة والهواء الذي تضخُّه الآلات في رئاتهم المُنهَكة.
من فيض هذا الأسى، فتَّش الكاتب والصحافي والمصور الفوتوغرافي الإيطالي ألبرتو جولياني، ابن بيزارو، عن وجوه جميلة، وجوه تبقى جميلةً مهما حصل، وجوه تبقى صامدةً، متماسكةً، حتى في قلب تسونامي الرعب، وجوه تبقى مضيئةً وإن انطفأت النفسُ داخلها، وتبقى حيَّةً، وضّاحةً، حتى وإن احترقت فعلياً، بالمعنى المادي المحسوس، وليس مجازياً، فما تعيشه هذه الوجوه يتخطى كل الاستعارات.
اختار جولياني، المعروف بمقاربته البصرية الحكائية التي تختصرُ الصورةُ لديه قصة، أن يلتقط بورتريهاتٍ لأفراد من الطاقم الطبي ممن يعملون في المستشفى، نساء ورجال أثقلَ الإعياءُ أبدانَهم وأوهَن قلوبَهم؛ سقط الوقتُ من ساعاتهم، فتداخلت النهاراتُ والليالي في طنين الأجهزة التي تراقبُ الأنفاسَ الهزيلةَ من وسط حشرجات الصدور. قامات متداعية تتلمَّسُ خطواتها وسط حقول المجهول الشائكة، لا تبينُ منها سوى عيون حائرة، وجِلة، ترصد الحياة الذاوية من حولها بكثير حذر وقلق، وكثير حزن وصبر، وبعض أمل منتزع انتزاعاً من فوهة الموت المدمدمة.
ركّزت عدسة جولياني الناطقة على الوجوه، وجوه الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات التي تروي حصادَ يوم طويل من ارتداء الكمّامات والأقنعة الواقية، ومصارعة جائحة شرسة ووداع أناس كانوا، إلى ما قبل أيام قليلة فقط، يسقون أصصَ الأزهار على النوافذ الملونة ويُصبِّحون على الجيران، حتى المزعجين منهم، ويوبِّخون صبيةَ الحي الأشقياء، وها هي اليوم صفحات أعمارهم تُطوى، إذ يُختطفون أو يُؤخذون غيلةً، وأسماؤهم تغيب وراء أتلال وأتلال من أرقام الضحايا.
لقد اقتنصت العدسةُ الوجوه.. وبطريقة ما "قنصتها"!
خلال فسحات راحة مسروقة، أو استراحة محارب مستحقَّة، لالتقاط الأنفاس في المستشفى الذي تحول معظم طوابقه وحجراته إلى غرف عناية حثيثة، خلع بعضهم كمّاماتهم وأقنعتهم، شبه الملتحمة ببشراتهم، وأسلموا حكاياتهم لعدسة جولياني المستبصرة، من دون حاجة لأن يتفوّهوا بكلمة؛ فالوجوه استرسلت بالبوح.
غشت الأخاديدُ والخدوشُ الملتهبة وجوههم التي التهمتها الكمّامات. وتفشّى الاحمرار كسفع النار في الوجنات والأنوف، وحرثت الحزوزُ جبهاتهم العريضة. ومع كل أخدود، وكل خدش وكل جرح وندبة، تتبدّى خسارةٌ لا تُحتمل. قد تحتاج هذه الآثار والعلامات إلى بعض زمن قبل أن تنمحي، لكنّ ما ستخلفه من ندوب وجراح في الروح وفي الذاكرة سوف تغور عميقاً حتى آخر زمانهم.
لم يحتج جولياني أن يقدّم شرحاً مسهباً أو مستفيضاً عن الوجوه الجريحة خلف الأقنعة. جمع هذه الوجوهَ غير المزوَّقة وغير المعالَجة، التي انحفر فيها الوجعُ وقلَّة الحيلة ومكابدةُ المستحيل، وضمّها في ألبوم سوف يكتب فصلاً مذهلاً من تاريخ البشرية. وعلى كل ما فيه من ألم فائض، فإن هذه الفصل سوف يمنحنا بعض العزاء. نعم. سوف نروي لمن لم يرَ أننا شهدنا شرّاً أحاق بنا من حيث لم نعلم ولم نتوقع حتى في أشدّ خيالاتنا قتامة. سوف نحكي لمن سيجيئُ بعدنا أننا عشنا كابوساً جماعياً أحاق بكل معاني الحب، فجرَّدنا من حقّنا في تلبية الشوق، وفرّقنا، وحرمنا اللقاءات والعناقات، وباعد فيما بيننا نحن بني البشر مسافات ومسافات. وسوف نصف للأبناء والأحفاد كيف أن بلاء توطَّن في الكون حيناً فسلب منا الفرح وأخذ منا حتى الأشياء العادية والتافهة، التي اكتشفنا كم أنها عظيمة، فاختبأنا في بيوتنا، وانزوت أرواحُنا في جحورها، خائفة، مشوشة، مرتبكة. وسيقرأ الأحفاد وأحفاد الأحفاد أنه كان يا ما كان... وباء عظيم أغلق على البشرية في ذاك الزمان، فصمتت المدن، وجفَّ الصخب، وتجمَّد هديرُ الطرقات، ووقفت الحياةُ على رؤوس أصابعها منتظرةً، مترقبة. وسوف ينقلُ أبناءُ الأزمنة التالية وما بعدها أنه وسط اختبار صعب واجهته البشرية في زمان قاسٍ، هدَّد باقتلاع وجودها من شرشه، فإن حفنةً من وجوه جميلة، في كل نواحي الأرض الحزينة المريضة، أنقذت العالم. فطوبي لهذه الوجوه الجميلة.. الوجوه النقية، العفيَّة، البهيَّة. طوبي لهذه الوجوه الجميلة التي بقيت جميلةً جداً وإن تجرّحت وتهشّمت من وراء كمّامات خانقة. بفضل هذه الوجوه الجميلة، انتصرت الحياة.