الأزمة الناجمة عن جائحة فيروس كورونا متعددة الأوجه. وسعى فلاسفة غربيون ودارسو اجتماعيات إثرها إلى فهم مترتباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والنظر في حال الأنظمة الديمقراطية والنيوليبرالية. فنبه الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين إلى مخاطر سوء استخدام السلطات السياسية صلاحيات اقتضتها مكافحة فيروس كورونا، منها القيود على حرية تنقل الناس والحجر. وقال وكأن كلامه يرسم ديستوبيا مستلة من رواية جورج أورويل "1984" إن جبه الإرهاب كان الذريعة إلى "إطاحة الحريات من أجل حمايتها" واليوم "يقال لنا حماية الحياة تقتضي تجميدها". أما الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس فنبه كذلك إلى مخاطر اقتضتها الطوارئ في مستشفيات إيطاليا وغيرها من المستشفيات الأوروبية حين عاد إلى الفرق الطبية البت في من "يستحق" وصله بأجهزة التنفس ومن لا يستوفي شروط الحق في حياة مديدة في مخالفة للدساتير الديمقراطية والقوانين. وسلط البابا فرنسيس الضوء كذلك على الجانب الأخلاقي والإنساني في هذه الأزمة حين يُقصى الأهل والأحباء عن وداع من لفظ أنفاسه جراء كورونا مخافة انتقال العدوى. فتوجه إلى السلطات المحلية والمدافن ومحارق الجثامين قائلاً لا تتخلصوا من الجثث كما لو أنها جيف ماشية. فـ"البشر يحق لهم وداع [فقيدهم] وداعاً لائقاً [يحفظ كرامته وكرامتهم] حتى لو كان [وداعاً] سريعاً وعدد الحضور قليلاً.
ورأى علماء اجتماع بارزون ومفكرون يميلون إلى اليسار أنها تسلط الضوء على شوائب الأنظمة الاقتصادية النيوليبرالية التي قوضت دور القطاع العام وموارده من ضرائب وقلصت الضمانات الاجتماعية. فعجزت الأنظمة الصحية العامة عن جبه الأزمة على أمثل وجه، وتوجيه الموارد اللازمة لمعالجتها. والصحة هي نواة الحوكمة الحديثة في ما عرف بـ "السلطان البيولوجي". فمن طريق الطب والصحة العقلية تدير الدولة شؤون الشعب وتراقبه. فالعقد المضمر بين الدول الحديثة وسكانها في مناطق كثيرة من العالم- وقوامه على قول دارسة الاجتماعيات إيفا إيلوتز في "لوبس" الفرنسية، قدرة الدول على ضمان أمن وصحة مواطنيها- انتهكته الدول التي تحولت إلى لاعب اقتصادي ضخم شاغله تقليص كلفة العمل ورعاية تنقيل الإنتاج إلى حيث الكلفة منخفضة، وأداء الدور الناظم للأنشطة المصرفية والمالية والنزول على حاجات الشركات. فتآكل القطاع العام في وقت هو الوحيد القادر على إدارة أزمة ضخمة ناجمة عن جائحة، وليس في مقدور عمالقة الإنترنت من أمثال آمازون جبه مثل هذه الجائحة. فالدولة في عصر النيوليبرالية حُرمت من مواردها، على قولها. وينبه دنيس كارول، أبرز الخبراء الدوليين في مجال الأمراض المعدية، إلى أن وتيرة تكرار مثل هذه الجائحة ستتعاظم في المستقبل جراء الاحتكاك المباشر بين البشر والحيوان ما يزيد من ارتفاع وتيرة العوامل المرضية الحيوانية المنشأ، مع دخول الإنسان أكثر فأكثر إلى دوائر بيئية كانت خارج مطاله إلى وقت قريب لاستغلال موارد الأرض على نطاق أوسع في أفريقيا على سبيل المثال، والتنقيب النفطي والمعدني في مناطق قلما عاش فيها البشر. وعلى الرغم من تحذيرات كثر من فيروس قادم، لم يعرها المسؤولون اهتماماً. فالبشر يدفعون اليوم ثمن لامبالاة السياسيين. وبلغ شاغل البشر في إحراز المكاسب من دون هوادة واستغلال موارد الأرض واليد العاملة أقصى مدى. وترى إيلوتز أن خطر فيروس مثل كورونا يضاهي خطر التسلح النووي الإيراني ويقتضي رقابة دولية على الموارد الحيوانية وأسواق الحيوانات البرية في الصين. وحري بعالم الأعمال أن يدرك أن استغلال موارد المعمورة شرطه وجودها، وليس فناءها.
الدولة المركزية هي الحل؟
وهذا النقاش عن دور الدولة المركزية والقطاع العام كان بارزاً في سباق الحملة الرئاسية الأميركية ولم يكن مرآة انقسام بين الحزب "الجمهوري" وبين الحزب "الديمقراطي" فحسب، بل بين فرقاء المعسكر الواحد حتى. وعابت صحيفة "وول ستريت جورنل" على مرشحي الحزب الديمقراطي، وتحديداً على بيرني ساندرز (قبل انسحابه من سباق الحزب الديمقراطي إلى الرئاسة) وجو بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، ميلهما إلى اليسار، ولكنها نبهت إلى أن بايدن على خلاف ساندرز يدرك أن المركزية ليست الحل ودليله هو ما آلت إليه الأمور في إيطاليا. ورأت أن ساندرز استغل أزمة الفيروس ليردد ما درج عليه عن "غياب العدالة" في اقتصاد يُرجح كفة "مصالح كبار الأثرياء" على كفة "العائلات العاملة". واقترح علاج مواضع وهن نظام الصحة الأميركي من طريق جعل الرعاية الصحية مركزية واشتراكية.
وسارت صحف أميركية ومواقع إلكترونية على خطى ساندرز، وأعلن موقع "فوكس" أن الجائحة "عرت أميركا وأظهرت أن قدرتها على التعامل مع جائحة أضعف من قدرات بلدان أرست نظاماً صحياً جامعاً وعاماً. ودعت سارة جونس في مجلة "نيويورك تايمز ماغ" إلى نقل الموارد من أصحاب المصالح الأثرياء إلى الأكثر ضعفاً. ورأى مايكل هيلتزيك في لوس أنجيليس تايمز أن أزمة كورونا أظهرت غباء سياسات دونالد ترمب الصحية. وخلصت هيئة تحرير "وول ستريت" أن الاعتماد على القطاع العام وحده هو ضرب من الجنون، والقرينة على ذلك هو إخفاق الدولة في إيطاليا في جبه الأزمة.
ولكن ما تغفله الصحيفة هذه والمرشحان الديمقراطيان، ساندرز وبايدن، هو طبيعة النظام السياسي الإيطالي. فالدولة في إيطاليا ليست مركزية والفشل "الإيطالي" يقتصر على مقاطعات من دون غيرها ومرده إلى عوامل كثيرة. ويلقي روبرتو سافيانو، الكاتب الإيطالي صاحب "غومورا"، في "لوموند الفرنسية"، الضوء على النظام الإيطالي، وإحالته صلاحية الشؤون الصحية إلى المناطق والأقاليم. ففي لومبارديا حيث تفشى الوباء، ترجح كفة بنية تجمع بين القطاعين الخاص والعام أرستها حكومات يمين الوسط التي أمسكت بمقاليد السلطة في العقدين الأخيرين. وهذه المنطقة هي معقل سيلفيو برلوسكوني، رئيس الوزراء السابق، والسياسي روبيرتو فورميغوني، حاكم إقليم لومبارديا من 1995 إلى 2013، وحكم عليه مؤخراً بالسجن 5 سنوات و10 سنوات جراء أعمال فساد، تحديداً جراء الروابط بين الحكم المناطقي، وكثيرون من الممسكين بمقاليده مرتبطون بالمافيا النابوليتانية وندرانغيتا الكالابرية، وبين القطاع الخاص. فالمافيا صارت الحاكم الفعلي في مناطق الشمال الإيطالي. ويروي سافيانو أنه حين سلط قبل أعوام الضوء على الوشائج الوثيقة بين اقتصاد الشمال الإيطالي والمافيا منذ السبعينات بمافيا صقلية التي كانت أول من استثمر في الشمال الإيطالي، ثارت عاصفة من الجدل اضطرت وزير الداخلية حينها، روبيرتو ماروني، سلف ماتيو سالفيني على رأس "رابطة الشمال"، إلى الرد على الاتهامات هذه. ولكن الإدانات القضائية الإيطالية سرعان ما طالت مسؤولين في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى ما تقدم الأزمة هذه متعددة الأوجه منها سياسية واقتصادية وجيو- سياسية ومجتمعية وأخلاقية وقانونية. ففي إيطاليا، برزت ضعف الآصرة المجتمعية ليس على مستوى الاتحاد الأوروبي فحسب، بل في المجتمع الإيطالي نفسه. وعاب أهالي لومبارديا، موئل أزمة كورونا التي أودت بآلاف في هذا الإقليم، على المناطق المجاورة إحجامها عن مد يد العون إليها وتشريع أبواب وحدات العناية الفائقة فيها أمام المنكوبين في بريشيا. فإميليو ديل بونو، عمدة بريشيا، ندد في رسالة مفتوحة بضعف لحمة التضامن مع المناطق المجاورة. ففي وقت تعجز مدينته عن العناية بمرضاها، شطر راجح من أسرة غرف العناية الفائقة فارغة في إقليم فينتو، البندقية، شمال شرقي إيطاليا. وختم رسالته قائلاً إن هذه المأساة تسلط الضوء على مواضع هشاشة النظام السياسي الإيطالي. ولكن الكاتب روبرتو سافيانو يرى أن هذه الأزمة وليدة مقاربة الشأن العام مقاربةً اقتصادية و"أعمالية" (نسبة إلى قطاع الأعمال) ترفع قيمة الربح في إقليم بالغ الثراء، سواء على يد الحكم اليمين الوسط كما في لومبارديا أو اليسار الوسطي كما في ميلانو وبيرغام، ومقاربة السياسة مقاربةَ تلفزيون الواقع وعلاقات الساسيين المشبوهة بعالم المافيا.
من إيطاليا إلى الانتخابات الأميركية
دور الدولة والنظام الاقتصادي النيوليبرالي كان شاغل الصحافة الأميركية والمرشحين إلى الرئاسة في سباق الحزب الديمقراطي. وردت صحف ترفع لواء النيوليبرالية وتنادي بتقليص دور الدولة المركزية، والقطاع العام تالياً، على بعض مما ساقه مفكرون يساريو الميل وبعض مرشحي الحزب الديمقراطي. وذهبت وول ستريت في انتقادها الدعوات إلى تعزيز دور الحكومة الفيدرالية الأميركية إلى أن أبرز خطأ ارتكبته واشنطن كان احتكارها تطوير الاختبارات في وقت أول وفشلها في ذلك. فمركز ضبط الأوبئة والوقاية منها ساهم في تعثر أميركا في مواجهة الأزمة، وسلطت الضوء على نجدة القطاع الخاص الأميركي القطاع العام. فـ"النصابون"، على ما وصفهم ساندرز، أي القائمين على شركات الأدوية، بادروا إلى خطوات مجانية لضبط الوباء. فعلى سبيل المثل، قامت شركة "روش"، بتمويل ابتكار اختبارات عالية الدقة، أما غوغل فخصصت موقعاً يقدم توجيهات عن عوارض فيروس كورونا، وبدأت متاجر وولمرت إجراء فحوصات سريعة للفيروس في مواقف سيارات زبائنها العابرين، وتتولى مختبرات خاصة عملية تحليل الاختبارات هذه. وثمة سباق بين أكثر من 30 شركة دواء كبيرة، تسمى بيغ فارما، وشركات البيوتكنولوجيا، على إعداد علاج للفيروس ولقاح. وحين أعلن ترمب موافقة الـ"أف دي آي" للتوسل بالدواء المضاد للملاريا في جبه الكورونا، سارعت شركة "باير" الى التبرع بـ30 مليون حبة كلوروكين. وقدمت شركات الإنترنت مثل "كوكاست" و"فيريزون" اشتراكات مجانية ليبقى الأميركيين متصلين بالشبكة في الشهرين القادمين. ووفرت "آدوب" و"غوغل" أدوات التعليم عن بُعد للمدارس والجامعات والأهل. ولائحة الشركات تطول، وتخلص الصحيفة إلى أن من يحسِب أن الأمور ستكون على أمثل حال في "أميركا اشتراكية" فعقله ذهب كمن "يتعاطى"، وترى أن إدارة ترمب جديرة بالثناء على تحالفها مع الشركاء في القطاع الخاص. و"الغيرية" هذه في قطاع الأعمال مردها جزئياً إلى "الروح الأميركية" وإلى سياسات السوق الحرة وأرباحها الاقتصادية التي مكنت الشركات من مواجهة الأوقات العسيرة.
وعلى خلاف الدعوات إلى العودة عن العولمة والاعتماد على الموارد المحلية، بدا أن ارتفاع قيمة أسهم "أمازون" و"تيسلا" و"بروكتر أند غمبل" في البورصة مطلع مايو (أيار)، مؤشر إلى معالم عالم ما بعد كورونا: عالم أكثر عولمة واعتماداً على التكنولوجيا ترجح فيه كفة الكارتيلات. وسارعت "وول ستريت جورنل" إلى الاحتفاء بالعالم هذا مع ارتفاع أسهم شركات عمالقة الإنترنت في وقت رأت الاندبندنت أن العولمة لن تبقى على حالها بل ستتغير، وأبرز تغيير يطال، على قول هاميش ماكراي، قطاع السفر، وهو ركن العولمة. وتوقع أن ينخفض عدد الرحلات الجوية وألا يتعافى ويعود إلى سابق عهده.
خلاصة القول إذا جاز مثل هذا أن أزمة اليوم متناسلة الفصول، والجائحة كما العالم في صيرورة من العسير استشراف مآلها ووجهتها. فوحدة الاتحاد الأوروبي قد تكون مهددة بالانفراط جراء انبعاث الحدود بين الدول وانتشار الحرس الحدودي بين فرنسا وألمانيا مثلاً وضعف التضامن بين شمال الكتلة الأوروبية وجنوبها - وهذه مشكلة برزت إبان الأزمة المالية في اليونان وإسبانيا والبرتغال- والولايات المتحدة نفسها بلغ فيها الاستقطاب السياسي مبلغاً كبيراً حمل جون بينيت في الاندبندنت على وصفه بحرب أهلية بين أميركا الريفية والمدينية. ففي وقت تلتزم المدن الأميركية الحجر، ويغلب عليها الديمقراطيون، ترفع الأرياف التي يغلب عليها الجمهوريون الحجر وتفتح أبواب المدارس والأسواق. ويطعن اليوم في النموذج الاقتصادي المعولم والنيو ليبرالي، ولكن هذه الطعون قد لا تفضي إلى بروز نموذج اقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية أكثر مما يرجح كفة الربح. ففي أزمة 2008 المالية، دار الكلام على تقويض العولمة الطبقات الوسطى في الغرب ولكن العولمة لم تعدل وجهتها على الرغم من العودة إلى حمائية تجارية والحرب التجارية الصينية – الأميركية.