أغبى سؤال طرحته البشرية هو سؤال "من نكون؟" لأننا ببساطة "كنا" بإرادة غير إرادتنا، وقضي الأمر، ما يعنينا في الأرض هو سؤال "كيف نكون؟" لأنه سؤال الحياة، أي: سؤال امتحان الكينونة من حيث ما هي كيان ووعي به في آن. وقد وجدتني - بعد تفشي فيروس كورونا- أستدعي بيت العباس بن الأحنف بتساؤله النبيه: "من ذا يعيرك عينه تبكي بها/ أرأيت عيناً للبكاء تعار؟"، استدعيته لأوصف به وضع الإنسان وقد تزعزعت ثقته في وعود العولمة بكل ترسانتها التكنولوجية، وناله شك في مدى انتمائه إلى المجتمع الدولي، وفي وجاهة التعويل عليه للتخفيف من حدة هذه الجائحة، فإذا هو لم يجد من مهرب له يتأمل فيه قدره الراهن ويحتمي به من هذا القاتول الجارف سوى جسده، وبيته، وحدود وطنه.
درس العزلة
ما يلزم التذكير به في محنتنا الكورونية هو أن كل محنة يعيشها البشر إنما هي إذ تستشري بينهم، وتستهلك منهم أجسادهم ومتاعهم، تولد فيهم شهوة تبديد احتياطيهم من التخييل، فلا تراهم إلا وهم يتبارون في نسج سرديات لها محبوكة سواء بالعلم أو بالفلسفة أو بالأدب والفن أو بالشعوذة كما لو أنهم سيموتون غداً. ولأن المستقبل، على عكس الماضي، فضاء صموت، وبلا لسان، كان السؤال ملحاً: مَن مِن الناس نطمئن إليه في الإخبار عما سنكون عليه بعد هذه الجائحة؟ سأغامر بالقول إنه الفنان المبدع: فيلسوفاً كان أو كاتباً أو فناناً أو سينمائياً. لأنه، كالطفل، يتوفر على فائض من "البراءة الآدمية" من حيث ما هي حب للواقع ممزوج برهبة، وحدس لممكنات التواصل ممزوج بشك، وهو قادر بهذه البراءة على بسط سجادة الزمن والتحرك فوقها استرجاعاً لما فات واستطلاعاً لما لم يأت.
غير أنه يستحسن أن يعي الإنسان الآن، أثناء فعلي الاسترجاع والاستطلاع، أنه يعيش لحظة كافكاوية كثيفة الغرابة، حيث انتبه فيها فجأة إلى كونه دخل مرحلة تحول في أنساق معيشه ومفاهيمها، فعاد يتعلم من جديد كيفية غسل اليدين على حد ما ورد بإحدى التغريدات التويترية، وتنامى لديه أرقه، وتكثفت فيه الريبة من كل شيء، وصار أسير جلدة جسده، وجدران بيته، وحدود وطنه. وقد يبدو لوهلة أن ما أصاب الإنسان من تحول في الواقع يرمي بسهم في ما أصاب غريغور سامسا، بطل كافكا، من تحول في السرد، غير أن تحول هذا البطل الحكائي قد انصب على شكل جسده وأبقى على ذات الإنسان فيه، أما التحول الذي نشهده الآن فمنصب على زعزعة ثقة ذواتنا في جدارة حضورها في العالم من دون أن يحور شكل أجسادنا، وما ارتداء الكمامات إلا صورة لمحو هويات ذواتنا ودخولها حيز الشبحية، أعني: حيز اللامعنى. ناهيك عن أن غريغور سامبا ظل في محنته منبوذاً من العالم الخارجي (نبذه والداه ورئيسه في العمل والخادمة ومؤجرات الشقة)، أما نحن، فالعالم الخارجي هو ما نخشاه وننبذ التقاطع معه، فإذا بنا في ذلك مجتمع من الناس غير المجتمعين، وإذا بمفاهيمنا القديمة قد صارت في طرفة عين غير قادرة على تحقيق اليقين. وهذا ما يمثل محنتنا الراهنة التي يحتاج فيها المرء إلى كثير من التأمل: تأمل ترهل ذاته لإعادة اختراعها، فتكون قادرةً على عبور زمنها القادم بهناءة.
ولو رمت معكم استفادةً من قول فتحي المسكيني إن "الحشرة هي النسب الحيواني الأقدم لكل دابة على الأرض. إذا جردنا البشري من كل ادعاءات الإنسان حول نفسه، لن يتبقى سوى الدابة، الجسم/ الحيوان الذي يدب على الأرض" لجاز لنا أن نستخلص درساً من بلاغة حشرة كافكا، وهو الاعتراف بصغارة الإنسان وهو يستعلي جيرانه الحيوانات ويستعديها؛ فإذا هو يعلم بعضها عاداته إما لتسخيرها في المشقات وإما للهو بها والتأنس في ساعة الوحشة، وفي الحالين هو يستغفل فيها الحياة ويسخر منها. ولا أجد في تعثر أبحاثنا العلمية في مواجهة هذا الوباء إلا أمراً دافعاً لنا اليوم إلى ضرورة التقليل من استعلائنا البغيض، والإقبال على تعلم الدرس من فنون الحيوان في تدبير حياته ذاتياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأمل الذات
وفي أفق الدرس الحيواني، بات من الكبر الزائف أن يطمئن الإنسان إلى حاله الراهنة، ويتغافل عن حقيقة ما صار إليه؛ وهو أنه الآن أخوف الكائنات، يعيش أسراً إجبارياً مراً قلص حضوره الأرضي، من جهة ما في الأسر من انقطاع الجسد عن الخارج، وضمور امتداد مساحته في الأرض (المشي في الشارع، ولقاء الأصدقاء، والعمل، والسفر، والحب، كلها أنواع من امتداد مساحة أجسادنا). وعليه، فلا خيار له اليوم إلا أن يتعفن في خوفه ولطمياته مستجدياً "عيناً للبكاء تعار" أو أن يجدد كيفيات حضوره الحر في الدنيا بإمكاناته الشخصية، أي أن يكون ذاتاً لا تحتاج كثيراً إلى الهرولة إلى العالم وإنما هي تخلق في العالم كثيراً من الرغبة في أن يأتيها غير متكبر عليها. وحينئذ، يكون مفيداً للإنسان، هذا الذي كأن فيه قد "انطوى العالم الأكبر"، أن يتعلم من جارته دودة القز حكمتها في التحول من حالة الزحف (القيد) إلى حالة الطيران (الحرية) عبر حسن استثمارها مرحلة نوعية من حياتها هي مرحلة التشرنق التي لها شبه كبير بمرحلة الحجر المنزلي التي يعيشها الآن. ذلك أن تلك المخلوقة الصغيرة، عندما تحس ترهل جسدها وضمور علاقاتها مع عناصر محيطها، تبادر إلى صنع شرنقة لها لا لتنغلق بها على الخارج، كما يتوهم، وتخلد فيها إلى الخمول، وإنما لتجدد همتها للعيش الكريم في الخارج؛ فإذا هي تتأمل قدرها، وتستحدث لها ذاتاً أخرى حرة من دبق الأرض، خفيفة الحركة فيها، سيدة نفسها في تواصلها مع مفردات محيطها. وهي إذ تفعل ذلك كله تفعله مدفوعة بنظامها الغريزي، وربما بإرادة القوة التي فيها إن جاز لي استعمال عبارة نيتشه.
وإن من أسباب ثقل ذواتنا البشرية، وانحسار أفق مصيرها، هو ما نعيشه من وطأة الهيمنة الضارية لرأس المال على اقتصاد الشعوب، والرغبة في الاستحواذ على الآخر، وازدياد الفقر، والمخاوف البيئية، وتنامي مشاكل الهجرة، والتطرف الديني والعرقي، وظهور الأوبئة. وهي عوامل قد اجتمعت علينا الآن وعطلت تشابك حركة أحلامنا في الأرض، وعمقت فينا الفوضى الاجتماعية والسياسية، وقوضت لدينا وجاهة مفاهيم لطالما احتكمنا إليها في سلوكنا على غرار "سيادة الإنسان"، و"المجتمع الدولي". ولا أرى في هذه المحنة، على كثرة آلامها، إلا فرصةً للإنسان كي يعيد، على غرار دودة القز، اختراع ذات له جديرة بوجودها في الكون، وهل للإنسان حال يمكن أن يصير عليها أجمل من حال فراشة في حدائق الدنيا!
ما طبيعة الذات التي يتوجب على المرء إعادة اختراعها في لحظات محنته؟ سأستفيد من اللغويات وأقول إن عالم البشر، كعالم النص، يتكون من وحدات هي الذوات. وهي تحيل على معنى لها خاص، كما يمكن لها أن تدخل في علائق بذوات أخرى لغرض حياتي ما. وكل ذات منها إنما هي، كالجملة، وحدة من الذواتم منتظمة ومتفاعلة مع بعضها بعضاً وفق تناسب ما. وكل ذوتم إنما هو، كالكلمة، عنصر من عناصر الذات، وهو وحدة تظل دلالتها محدودةً ما لم تنضم إلى ذواتم أخرى في سياق معين وفي حيز معلوم، ومن هذه الذواتم الفيزيولوجي، والجنسي، والنفسي، والأسري، والقيمي، والوطني، والعرقي، واللغوي، والثقافي، والعقائدي. ولكل ذات ذواتم ثابتة وأخرى متغيرة تحددها التجربة الحياتية لكل إنسان. وقد تنتظم الذات في مكون أكبر منها فتغدو فيه ذوتماً، وقد يتحول الذوتم إلى ذات ضمن أشراط واقعية خاصة. وصورة ذلك أن الوطن (وهو ذوتم من ذواتم الذات الإنسانية) إنما هو أيضاً ذات تكونها ذواتم عديدة منها الجغرافي، والبشري، والتاريخي، والسياسي، والاقتصادي، والديني.
ذواتنا الجديدة
لا يدعونا درس دودة القز إلى "تطوير الذات" على معنى تخفيف إحساسها بكدماتها، وتقوية مناطق ضعفها، كما يسوقه بيننا الدجالون. فالذات متى أصيبت أو ضعفت تنتكس ولا تبرأ، ولا يبقى أمامها إلا أن تنسحب من بهجة العالم أو أن تنشئ فيه ذاتاً لها جديدةً من ذاتها السابقة. ولا يعني هذا الدرس أيضاً "عودةً إلى الذات" كما شاع أخيراً لدى بعض المفكرين، لأن الذات لا تضيع ويبقى صاحبها بعدها إلا على طريق المجاز، كأن نقول مثلاً ذاك الإنسان فقد ذاته بسبب تملقه أو تهافته أو خيانته، أما على طريق الحقيقة فذاتي هي كينونتي التي إذا ما ضاعت ضعت. وهي ليست حيزاً ثابتاً أخرج منه متى شئت وأعود إليه إذا رغبت، وأهمله حيناً وأنميه حيناً آخر، وإنما هي أنا حاضراً في الكون، ومتشابكاً معه؛ فأن أعيد اختراع ذاتي في لحظة مفصلية من حياتي يعني في آن واحد أن أعي حقيقتها، وأستبين السبيل إلى تحولها من الداخل لأصير آخر، أعني: ذاتاً جديدةً منتميةً إلى نوعي البشري، ومتخففةً من ارتهانها إلى سطوة الخارج، ومتحصنةً من الممكن من الشرور، وقادرةً بإمكاناتها الشخصية على العيش البهيج في الدنيا. ومن ثم تكون ذاتي هي المنجز المختلف دوماً في سيرة تحولاتها. إن ذاتي هي الممكن من ذواتي، بل هي مستقبل ذواتي طبقاً لكل لحظة فارقة من تقاطع مراغبي الحياتية مع الطارئ من ظواهر الواقع.
وإنه لا سبيل إلى إعادة اختراع الذات إلا عبر استنهاض ذواتمها جميعاً. ويتحقق ذلك بمشاركة الذات والدولة معاً، تشارك الذات مدفوعةً بقوة إرادتها الحياة الحرة السعيدة، وتشارك الدولة مدفوعةً بتحصين مناعتها الوطنية وبمسؤوليتها على حماية ذوات مواطنيها وصون حقوقها وهي تنجز تحولها. ومن أمثلة ذاك ضرورة أن نتنبه إلى أن عيب برامجنا التربوية الكبير إهمالها التركيز على المحتوى القيمي في تعليم الطفل خلال سنواته الابتدائية وشحنه بكم من المعارف العلمية كثيف، فإذا شب كان ممتلكاً علوماً عديدةً ولكنه أجوف من جهة قيم التواصل مع محيطه. وعليه يتأكد اليوم استنهاض ذوتم الأخلاق في ذات الطفل عبر تعقيم البرامج التعليمية الموجهة إليه ضد أوبئة التطرف، والشعور بالدونية، والاتكال على الغير، وعبادة الماضي، وغير هذا كثير مما يوهن ذاته ويهينها، وذلك عبر المبادرة إلى جعل تلك البرامج حاملة لمنظومة قيمية (أخلاقية، ووطنية، وبيئية،...) تكون طريق الذات إلى حسن تدبير حياتها. وما ذكرته حول استنهاض ذوتم القيم ينسحب على بقية ذواتم الذات، وما قلته حول إعادة اختراع الذات الفردية ينطبق على إعادة اختراع الذات الوطنية أو الثقافية. لنتجرأ ونعترف لمرة واحدة بأن الانتماء إلى الإنسانية إنما هو بالتلخيص انتماء إلى النوع فقط، وعدا هذا هو كذبة عولمية تخفي طيها رغبة الأقوياء في أكل لحوم الضعفاء أحياءً. إن الانتماء إلى الإنسانية ليس الآن إلا استنهاض إنسانية انتمائنا إلى ذواتنا دونما استعلاء زائف أو تصاغر مهين.