قبل أيام قليلة، أتاح منتجو الفيلم التسجيلي "أمل" للمخرج محمد صيام، عرضه بشكل محدود لحوالى 300 مشاهد عبر الإنترنت. كان عليهم فقط أن يبعثوا برسالة طلب رابط مشاهدة العمل الذي افتتح مهرجان إدفا الدولي للأفلام التسجيلية في أمستردام عام 2017، وحصل على جوائز سينمائية منها: التانيت الذهبي لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان قرطاج السينمائي بتونس، كما أُنتج بدعم من جهات ثقافية دولية عدّة، لكنه لم يُعرض عرضاً جماهيرياً في مصر من قبل. تأتي هذه الإتاحة المؤقتة كجزء من مبادرة الفنانين حول العالم لعرض أعمالهم على عدد أكبر من الجمهور، في فترة حظر الحركة المرتبط بفيروس كورونا المستجدّ.
يروي الفيلم حكاية فتاة عادية من الطبقة المتوسطة المصرية اسمها "أمل"، مهّدت الحياة لظهورها السينمائي الذي نتابعه الآن في الشرائط التي كان يسجّلها لها الأب في طفولتها، بالتزامن مع أعياد ميلادها. كان يوثّق تشكّلها منذ صيف عام 1997، حين تمكّنت الصغيرة للمرة الأولى من الجلوس من دون الاستناد إلى شيء، وكانت تضحك لصاحب الكاميرا، وتشاغله بعينين تحملان أملاً كبيراً في الحياة. يُعلّق الأب على المشاهد التي يُسجّلها، بصوتٍ يأتي من الماضي، بالتوازي تُعلّق "أمل" في الحاضر بعبارات قصيرة على سيرة حياتها الحقيقية والمُخالِفة. تبدأ بقراءة خطاب شخصي كتبتُه لتحفظ لنفسها ذكرى عن أحاسيسها، افتقادها لصديقها "مصطفى" الغائب منذ أحداث "مذبحة الألتراس في بورسعيد" تكتب: "مش هقدر أقول لنفسي إنه هيرجع تاني، فهسكت أحسن".
واحدة من مواهب عدّة سنكتشفها في "أمل"، هي قدرتها على وصف مشاعرها والتعبير عن أفكارها بعفوية وبأقل عدد ممكن من الكلمات. تسمح "أمل" لصانع الفيلم التسجيلي بمصاحبتها منذ كان عمرها لا يتجاوز 13 سنة، أن يشهد لحظات لعبها كرة القدم في الشارع، تمرّدها على كل سلطة ممكنة، سلطة الشرطة وسلطة أصدقائها الذكور الذين يضغطون عليها كي تعود مبكراً إلى البيت، كما يجب أن تفعل الفتيات، إضافةً إلى السلطة العاطفية للأم القَلِقة، عندما تعجز عن نسيان ما تعرّضت له "أمل" أيام الثورة من ضرب مُبرح على يد أفراد الجيش. تتمرّد "أمل" ببساطة ومن دون تخطيط، مع ذلك يبقى تمرّدها مؤثراً، إن لم يكن مُلهماً، هي التي يرصد محمد صيام المخرج والمونتير ستة أعوام من عمرها بعد عام 2011.
حياة خاصة
لا يدفع حضور الكاميرا "أمل" إلى الاختباء، على الرغم من أنها لم تدرس المسرح ولا السينما، ولم يكن في نيتها أن تكون جزءًا من أي عرض سوى عرض حياتها الخاصة. ولدت أمل في 7 يناير(كانون الثاني). أي في الشهر ذاته الذي يُميز "الثورة المصرية" ليس فقط السياسية، وقد بات أسهل الحلول، التشكيك في أهميتها وجدواها وأيضاً في نقائها، ولكن أيضاً الثورة على الوجود، كما وصلنا وشهدناه، ومن الشق الأخير تحديداً، تتحقّق شخصية "أمل" ويظهر تفرّدها بحيث تتحوّل من بنت عادية جداً تمرّ في ظرف إنساني استثنائي يفوق بكثير أعوام مراهقتها، إلى وعي يتقدم باستمرار محاولاً الحفاظ على استقلاله. في مجادلة مع الأم، تتبادلان الاتهامات، تقول السيدة المحجّبة لـ"أمل": "إنتي أصلاً في البداية مكنتيش مع الثورة؟" لكن "أمل" تردّ بسرعة: "أيوة مكنتش فاهمة حاجة، لكن لما نزلت شفت الناس وهي بتجري، المساجين وهي بتهرب، المحلات وهي بتتكسّر، فهمت أن البلد لازم تتغير".
لا تَعدِل الأم في هذا الحوار عن المراوغة. بعد الثورة، كان على المصريين أن يختاروا للمرة الأولى رئيساً غير الذي فُرض عليهم لنحو ثلاثين سنة ولم يكن الاختياران مُرضيين. تعرف "أمل" هذا كأن بالغريزة وتُعلّق على الأمر ببساطة شديدة: "كان علينا أن نختار إما الطاعون وإما الكوليرا". فالجسد لم يبرأ بعد. تبدو الأم منفصلة عن خبرة الابنة المؤلمة في الثورة، تتحدث بطريقة مَنْ يعرف أن الكاميرا هناك وأن لها آذاناً، بلا تلقائية، يُظهِر التناقض بين الصوتين المسموعين من جديد حدّة شخصية "أمل" وخصوصيتها. في جزء من الفيلم، وعن طريق مَشاهد صُوّرت ذات يوم لأحداث الاعتداء على المتظاهرين، نشاهد لحظات الاعتداء على "أمل". كاميرا بعيدة تلتقط البنت التي ترتدي البنطلون الجينز وقميصاً طويلاً، تحمل حقيبة ظهر، تُنكّل بها أيدي العساكر، تشدّها من شعرها، تهدّدها، يقولون لها ما لا نسمعه، وهي على الرغم من الخصومة السياسية، من الكبرياء، تُمارس إنسانيتها وبطريقة موجعة، ترجوهم أن يتوقفوا عن إيذائها.
سعي متواصل
في المشاهد التالية مباشرة، تظهر "أمل" وهي تغطّي شعرها، "من يومها وأنا الزعبوط ده بقى حتة مني". وقد يأخذ هذا "الزعبوط" أشكالاً عدّة، إما كجزء من سترة الشتاء، وفي أوقات أخرى في صورة حجاب الرأس الذي ترتديه النساء في مصر كجزء من الثقافة الإسلامية، لكنه يؤدي ضمنياً أدواراً أخرى. تقول "أمل" في لحظة أخرى من الفيلم: "ضربوني على راسي أكتر ما شدّوا شعري". الرغبة في الإذلال، التي وُجِّهت إلى البطلة وإلى زملائها الذين دخل نصفهم السجن، ثمنها السنوات التي غيّرت خلالها "أمل" جلدها بلا توقّف. ليس أنها كانت تتخلّى عن معتقداتها، لكن سعيها المتواصل أن لا تتجمّد، كما تجمّد ربما آخرون. مرة تُظهِر أنوثتها، مرة تتناقش مع خطيبها السلفي ومرة تضم طفلاً من أطفال الشوارع، وهي تحضر التظاهرات ضد محمد مرسي، وتتنبّأ مع صديقتها بأنه لن يكمل الأربع سنوات في الحكم.
في شريط فيديو أخير صوّره الأب قبل وفاته، يطلب من "أمل" الطفلة آنذاك أن تتوقف عن الشغب مؤقتاً، كي يقول لها كلاماً لن تدرك معناه الآن: "يعلم الله إذا كُنّا سنحضر عيد ميلاك القادم...". كان الأب ضابطاً في الشرطة، المهنة التي ترتبك "أمل" من موقفها إزائها، بخاصة في الربع الأول من الفيلم، أي في المرحلة الأقرب إلى أحداث الثورة. مثّلت الشرطة سلاحاً قمعياً ضد المتظاهرين، لكنّ أمل تقول: "علّمني مخافش من حاجة، كان عارف أن هتحصل ثورة، رغم أنه مات قبلها بثلاث سنين"، يقول الأب في تسجيل عيد الميلاد: "إنني لك في أي زمان وأي مكان ومهما حدث..."، وهي رسالة حب مؤثرة، ليس فينا فقط كمشاهدين لكن في حياة الابنة، وبالأخص عندما تنفصل في الربع الأخير من الفيلم عن الخط السياسي، عن الآمال البعيدة، مع تحقّق صورة ما عن الاستقرار الذي طالب به الجميع، تنسحب "أمل" باحثةً عن حياة شخصية عادية بلا نضال ولا قضايا كبرى.
يصعب علينا في الجزء الأخير من الفيلم تصديق أن على "أمل" اجتياز امتحانات الثانوية العامة، بعد كل هذه الخبرة، كما سيصعب علينا لاحقاً أن نصدق طموحها في الالتحاق بكلية الشرطة، لفكرة أن "تكون جزءًا من النظام" الذي كانت تعترض عليه من قبل. وعلى الرغم من سيطرة ثيمتَيْ الحزن والوحدة على المشاهد الختامية من الفيلم، وحلم "أمل" المتكرر بوالدها يأتي من الموت ويحتفل معها بعيد ميلادها، على الرغم من المشاهد السريعة التي تجعلنا نحسّ أن "أمل" لم تعد تريد أن تحكي عن حياتها. تحتفظ "أمل" في أذهاننا بصورتها كمتمرّدة شجاعة ترفض كل تصنيف وتخرج عن كل توقّع. حتى ذلك الذي نضعه لها كمُشاهدين. وهذا ما يفتننا تماماً بشخصيتها.