ملخص
جاء فراس محمد إلى السينما الروائية بعد سلسلة من أشرطة وثائقية وقصيرة لافتة حققها في هذا المجال، وكان أبرزها "الدائرة السحرية"، و"خردة" و"الناس اللي فوق" (جائزة التانيت الذهبي- الدورة 33 لمهرجان قرطاج). اليوم يوقع المخرج السوري أولى تجاربه الروائية الطويلة بعنوان "عتمة مؤقتة". الفيلم الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما شارك أخيراً، في المسابقة الرسمية لمهرجان عنابة في الجزائر، لكنه لم يحظ، كما درجت العادة، بعرض جماهيري له في بلد إنتاجه، بل تم تقديمه على هامش الدورة الثالثة لـ"معرض الكتاب السوري"، وعلى رغم سوء الشرط الفني في الصالة (قاعة محاضرات) التي عرض فيها الفيلم، فإن الجمهور كان حاضراً لمتابعة أحداث "عتمة مؤقتة" من دون فريق الفيلم ومخرجه، أو حتى مندوب عن جهة الإنتاج.
يروي فيلم "عتمة مؤقتة" (110 دقائق) حكاية شاب يدعى مروان (علاء زهر الدين) ينهي فترة خدمته الإلزامية بسبب إعالته لوالدته أم عزيز (أمانة والي)، وذلك بعد أن يقضي عزيز في حادثة دهس دراجة نارية هو وصديقه حمدي، وهذا الأخير هو زوج إحدى الفتاتين اللتين تعيشان مع والدتهما المقعدة (رنا جمول) على أطراف دمشق. نتعرف أكثر على كل من العائلتين، فهناك غادة (دلع نادر) طالبة الجامعة، وهناك شقيقتها عليا (آية محمود) الراقصة في مرابع السهر الليلية، التي سوف يتعرف إليها مروان بعد أن يقوم بتوصيلها على الدراجة نفسها التي كانت السبب في مقتل زوجها.
من جانب آخر تحضر أم عزيز كعاملة في مسلخ أبي فاروق (زهير عبدالكريم) وهذا الأخير يحاول التقرب من غادة وطلب يدها للزواج، ويضغط على المرأة الستينية بترحيلها من البيت الذي تستأجره منه. تفشل الأم التي توزع اللحوم على حمارها المتعب بإقناع ولدها مروان بأن يعود لكار الجزارة، فيما يقوم مؤيد عازف الطبل (أمير برازي) باستمالة غادة التي تعيش صراعاً مع شقيقتها الكبرى، وإقناعها بالعمل في مرابع السهر. في هذه الأثناء تكتشف عليا ما يدبر لأختها، وتذهب رفقة مروان لإنقاذها من الضياع المحدق بها، فهي لا تريد للفتاة أن تدخل عالم اللهو والمجون، وتعد نفسها مسؤولة عنها، وبالفعل تنجح عليا في اللحظات الأخيرة في منع شقيقتها من التورط في عالم الليل.
في هذه الأثناء تتطور سريعاً ما يشبه قصة حب بين مروان وعليا، فتطلب من مروان أن يستأجر غرفة في أحد فنادق العاصمة لقضاء ليلة حمراء معه، فيفعل، وفي تلك الليلة تخبره الأرملة الشابة أنها أرادت أن تهديه هذه الليلة لأنه يستحق السعادة، لكن ليس ما تفعله حباً أو هياماً به، بل هو نوع من رد الجميل. كلام عليا سوف يكون صادماً، فالشاب تعلق بها وأحبها. طبعاً لا نعرف متى وأين حدث ذلك، كما لا يخبرنا السيناريو لماذا ذهب مروان إلى قضاء ليلة حمراء في اليوم الذي ماتت فيه والدته؟ اعتقد المخرج أن الحوار سوف يبرر ذلك!
في تلك اللحظة يحدث قصف إسرائيلي على العاصمة يحول بين لقاء "العاشقين"، ويتذكر مروان كيف كان يعمل فنياً على منصة لاعتراض الصواريخ المعادية، فتتبدد أحلامه، ويقوم صديقه (محمد زرزور) بإنقاذ غادة من محاولة أبي فاروق لاغتصابها، وهنا يقرر مروان العودة إلى العمل في المسلخ، فهذه وصية الأم التي علمته منذ أن كان في الخامسة من عمره كيف يذبح ويسلخ الخراف والعجول بلا رحمة، فيكف الشاب عن حلمه باصطياد صواريخ العدو، ويتفرغ لتقطيع أوصال الخراف والماعز!
وتبدو بعض الشخصيات الجانبية مقحمة على الفيلم، وغير ذات تأثير على القصة الرئيسة، ومنها شخصية لين (كساندرا دياب) منافسة عليا على الزبائن في مربع السهر، وثمة شخصية مربي جرذان (علي القاسم) يسعى للتخلص منها بجلب القطط إلى أوكارها. يمكن تلمس المخيلة التلفزيونية في سوق هذه الشخصيات الثانوية، ومحاولة جعلها تبدو شخصيات مضادة للبطل دونما جدوى، مما يعكس خبرة متواضعة في المعالجة الدرامية، وعدم قدرة المخرج في السيطرة على النوع الذي يعمل لتحقيقه، فهل الفيلم اجتماعي أم عاطفي أم حربي أم بوليسي؟ هل هو عن عصابات الاتجار بالبشر، أم إنه محاولة لتقديم سينما عن الهامش والمهمشين في الحرب السورية؟ أسئلة تبدو معلقة أمام التشويش الحاصل في تقديم الشخصيات، ومحاولة تعقب سلوكها على مدار زمن الفيلم.
شخصيات وعلاقات
يتضح ذلك من سيناريو "عتمة مؤقتة" الذي كتبه فراس محمد بنفسه وبدا مفككاً، فتطور الشخصيات جاء فجائياً، والعلاقات ما بين هذه الشخصيات غير مبررة، فما الذي يدفع طالبة جامعية أن تصبح فتاة هوى بين ليلة وضحاها، وبعد لقاء خاطف مع عازف الطبل الخاص بشقيقتها، ومن دون حتى أن نعرف ما الذي دار بينهما من حوار في لقائهما الأول؟ ثم كيف وقع الحب بين عليا ومروان وهما لم يتحدثا قط في ذلك؟ ولماذا تقوم امرأة في العقد السادس من عمرها بتوزيع اللحوم على ظهر حمار في العقد الثالث من الألفية الثالثة؟ هل هي رغبة المخرج البصرية ما دفعته إلى أن نرى امرأة مسنة تجوب مع حمارها شوارع دمشق العشوائية؟ ثم إن مشهد أبي فاروق مع القطط التي يطبخ لها ويشرب نخبها وحيداً جاء من عالم الفيديو كليب، ولم يكن هذا المشهد ليؤثر في تصاعد الأحداث، إذ سنرى أبي فاروق في المشهد التالي على نقيض من هذه الرومانسية، وذلك حين يقوم باغتصاب غادة في الحارة وعلى مرأى من الجميع، وهو ما لم يمكن استيعابه منطقياً، فصاحب المسلخ لم يستدرجها إلى بيته، بل كان مشهد إنقاذها من مهندس ميكانيكي السيارات مقحماً بلا أي سبب، أو محاولة استجداء نهايات عاجلة لكل شخصية من شخصيات هذا الشريط، للوصول إلى خاتمة مرتجلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمكن تعداد كثير من نقاط الضعف التي عانى منها سيناريو "عتمة مؤقتة"، الذي كما يبدو تعامل مخرجه معه كسد ذرائع، فمن الواضح أن فراس محمد أراد مسلخاً للخراف بجانب مرقص لفتيات الهوى، وذلك كي يظهر التناقض بين هذين العالمين، لكن ذلك كان يحتاج أولاً إلى قصة جيدة، وليس إلى خطة تصوير كما في الأفلام الوثائقية، ثم إن التقشف في أماكن التصوير كان خياراً موفقاً لولا أن سوق الهال في دمشق لم تلب إمكانيات الإخراج، وبدا الحي العشوائي الذي تم تصوير أحداث الفيلم بين جنباته مواكباً لهوس المخرج بتقديم فيلم روائي بقالب تسجيلي، ولو كان حدث ذلك لأمكن تسجيله كإنجاز للمخرج وكاتب القصة معاً. حتى المونتاج المتوازي لبعض المشاهد كرقص عليا في مربع السهر مع مشاهد لمروان يجوب شوارع العاصمة ليلاً على دراجته النارية أتى بلا أثر يذكر، ومن دون التمكن من تقديم مجاز بصري يفضي إلى سينما تعبيرية ربما سعى محمد لتحقيقها من دون جدوى.
من الواضح أن الكوادر الواسعة لبعض لقطات الفيلم، وتصوير معظمها بواسطة كاميرا محمولة (باسل سراولجي)، أسهم في تعزيز الانطباع عن شخصية إخراجية تستطيع أن تدير مشاهد وممثلين داخل الكادر، لكن من دون أن تستطيع تقديم قراءة عميقة عن آلية عمل الواقع كظاهرة ترصدها السينما، وبعيداً من التورط في وقائع جزئية، مما أسهم في تقديم بنية تلفزيونية بلمحات وثائقية متقشفة إنتاجياً. الإيقاع المترهل أيضاً أسهمت فيه مشاهد تتجاور عبره شخصيات عائمة لا صلة لها بما يحدث إلا من باب ردود فعل آنية، ومن دون أن تشكل هذه الردود إلا انعكاساً لتواطؤ كاتب ومخرج الفيلم معها، وذلك بغية لي رقابها ضمن كادر سوداوي عن أحزمة الفقر حول العاصمة السورية.