المؤامرة التي تُحاك لشيطنة مكوّن واحد في شرق السودان (بني عامر والحباب)، لا سيّما بمدينة بورتسودان، بدأت تؤتي ثمارها على المستوى الاجتماعي. والمناخ الذي قد يؤكد لنا ذلك يمكن معرفته من ملاحظات كثيرين في الفضاء العام للمدينة، أو من خلال تسجيلات "واتساب"، وأحاديث عامة في الأحياء والمدارس وغيرها. هذا المناخ الذي يعكس ذلك المزاج في تقديرنا أمرٌ غريبٌ جدّاً، ونتصوّر أنه بذاته دلالة على أمر آخر يعكس حول طبيعة المدينة ذاتها ما هو أخطر.
فلو قُدِّر لأي مواطن سوداني من خارج شرق السودان، أن يعيش في أحياء بورتسودان الشعبية التي يسكنها بنو عامر والحباب، مثل "ديم النور"، و"دار النعيم"، و"القادسية"، سيجد هذا المواطن نفسه أمام نموذج من البشر تتميز طبيعتهم بكم هائل من الوداعة ومحبة السّلم والتواصل والتدين الفطري، وسيلمس بلا أدنى شكّ علاقات بينية طيبة وحميمة في تعاملهم معه.
بيد أنّ هذه الطيبة هي من طينة "الوداعة"، فالوديع هو الشخص الذي تغريك طيبته باستغلاله وحتى الاعتداء عليه، بينما تعكس وداعته وتوطّنه في هذه الوداعة ردود فعل، تتحمّل ذلك الاستغلال وحتى الاعتداء بطريقة هي إلى الصبر العزيز أقرب منها إلى الجبن، بينما الذي يجهل تلك الطبيعة سيتصوّر أنها طبيعة تعكس جبناً.
هذه الصفة، الوداعة، عكست ردود فعلها إبّان الفتنة التي حدث فيها الاقتتال الأهلي في بورتسودان ثلاث مرات العام الماضي بين النوبة وبني عامر والحباب، بطريقتين. فمن جهة ظلّت الطبيعة الوادعة التي عرفها أهل المدينة عن بني عامر والحباب طوال حياتهما عاكسة لميزاتها في التعامل البيني، ولم تتغير داخل مؤسسات المجتمع والأحياء، فـ"الطبيعة جبل كما يقول المثل السوداني"، ومن جهة ثانية حينما تعيّن على بني عامر والحباب الدفاع عن أنفسهما بمواجهة الفتنة التي استغلت وضعهما الطبقي المهمّش والمماثل وضع النوبة في الخطة الخبيثة التي أطلقها جهاز أمن نظام البشير وقوى الثورة المضادة، لا سيّما أن عناصر الجيش في بورتسودان غالبيتهم من مكوّن النوبة، وقيادة القوات البحرية كان قائدها العام اللواء عبد الخير ينتمي إلى المكون نفسه، إذ رشح أن عناصر من الجيش انحازت إلى النوبة ضد بني عامر والحباب، لضرب السّلم الأهليّ على مدى جولات ثلاث من الاقتتال المتقطع خلال ستة أشهر، وفي وسط هذا الصراع انتشرت في مدينة بورتسودان موجة لشيطنة بني عامر والحباب في التصوّرات العامة لأهل المدينة، ووجدت ذيوعاً؟!
والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن أن تتحوّل تلك الوداعة إلى نقيضها في وقت يدرك الجميع فيه اهتزازات الأوضاع الأمنية بعد الثورة؟
للإجابة عن هذا السؤال سنحاول أن نضع إطاراً لمكونات المدينة الأخرى، والطبيعة التي تعكس خصائص كل مكوّن فيها، إذ إن هناك أولاً مجموعة البجا "البداويت"، وهم السكان الأصليون لمنطقة بورتسودان، وهؤلاء لهم وجودٌ تاريخيٌّ عريقٌ في المدينة، لكن وبسبب التهميش الذي فُرِض عليهم، كما فُرِض على بني عامر والحباب اللذين تتقاطع حدود أرضهما داخل السودان مع حدود دولة إريتريا، عاشوا نمطاً إشكالياً من العزلة انعكس أولاً في طبيعة سكنهم بأحياء المدينة، إذ يسكنون في أحياء شبه مغلقة، رغم أن وجودهم التاريخي هو الأسبق بالمدينة وما حولها، وثانياً لحبهم حياة متقشفة حول نظامها الخاص، بينما يشغل مواطنو شمال السودان، وهم أقلية بالقياس إلى البجا عموماً (البداويت، وبنو عامر، والحباب)، لكنهم تاريخياً كانوا الأكثر تعليماً في كل أنحاء السودان، والطبقة الأكثر امتلاكاً لإدارة مفاصل السلطة بمدينة بورتسودان، وفي مينائها الرئيس، كما في الخرطوم وبقية أنحاء السودان، وهم بطبيعة الحال الذين شغلوا الجهاز الإداري والمؤسسات الحكومية الحديثة في مدينة بورتسودان بعد خروج المستعمر، بسبب تعليمهم المبكّر ونظام حياتهم المنظّم في وادي النيل عبر نمط الإنتاج الزراعي الذي ضمن لهم تفوّقاً على الطبيعة الرعوية لنشاط البجا (السكان الأقدمون لشرق السودان). أمّا النوبة وبقية المواطنين من كل أنحاء السودان فهم أيضاً أقلية بالمدينة، لكن وجودهم بين منسوبي الجيش وبعض قياداته العليا أكثر بكثير من بني عامر والحباب.
هكذا تبدو مدينة بورتسودان كما لو أنها لم تشهد اندماجاً بين مكوناتها السكانية، لأنّ أصحابها التاريخيين (البداويت) انعكس نمط العزلة التاريخي في حياتهم على حياة الوافدين إلى المدينة، منذ تأسيسها ميناءً حديثاً للسودان في عام 1907، وبعد أن أصبحت المدينة قومية بالتعريف.
بعد هذه الخلفية، يمكننا الحديث عن تدابير لسياسات تجريف وتدمير ظلّ ينفذها نظام البشير، طوال 30 عاماً عبر تكريس قواعد لعبة، يحددها النافذون في السلطة حسب مخططاتهم الماكرة، إذ استهدفوا بعد سقوط البشير وزوال قبضتهم ضرب النسيج المجتمعي وتفخيخ الاستقرار، لتعطيل مسار الثورة عبر خبراتهم السابقة ونفوذهم وأموالهم، بما يفسّر لنا دورهم الخبيث في صناعة (الشيطنة) التي طرأت أخيراً، وانتشرت كانطباع حول بني عامر والحباب بين سكان مدينة، ظلوا مدركين تماماً طبيعة الوداعة ومحبة السلام والتدين الفطري لتلك القبائل، يسند ذلك خلو سجل الجريمة في مضابط شرطة المدينة من مجرمين منسوبين إلى تلك القبائل تقريباً، كما يمكن المراهنة على أن أي بحوث استقصائية أو دراسات مسح اجتماعي لو أجريت على هذه القبائل بهدف الوصول إلى مؤشرات عامة ترصد طبيعتها وخصائصها، لخرجت النتائج بمعلومات واستنتاجات تؤكد ما ذهبنا إليه من أن هُوية السلم والوداعة عنصر أصلي في صفات هذه القبائل. إذن ما أسباب تلك الشيطنة؟
وهنا، سنجد أنّ العقول الخبيثة التي تدبّر الفتنة والاقتتال الأهلي بهدف استبقاء السلطة على المدينة في يدها، أو في يد المتحالفين معها، هي التي وراء تلك الشيطنة. أي أن هناك صناعة ثقيلة لإشاعات وترويج لأكاذيب من طرف عناصر ورموز نظام البشير وحلفائهم وبعض العناصر في مكوّنات المدينة ضد بني عامر والحباب، مستفيدين في ذلك أولاً من اقتتال أهلي، نتيجة لفتنة محدودة كانت بين النوبة وبني عامر في عام 1986 عقب سقوط الجنرال نميري، وثانياً من تماثل الوضع الطبقي وتجاور المكونين في أحياء شعبية فقيرة.
ونتيجة للنجاحات الباهرة التي حققتها لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال. والامتيازات والصلاحيات القانونية الكاملة التي تحظى بها، والدعم الشعبي الجارف الذي يؤيدها، لا سيما بعد التسريبات عن وصول اللجنة إلى ملفات فساد تقترب من أسرة المهدي، أدرك رموز نظام البشير وحلفاؤهم أن الدائرة تضيق عليهم والخطر يطوقهم، لهذا أثاروا ودبّروا فتنة الاقتتال الأهليّ بين بني عامر والحباب من جهة، والنوبة من جهة أخرى، لكن في مدينة أخرى من مدن شرق السودان "كسلا".
ومصداقاً للمثل الأفريقي الذي يقول "عندما تتصارع الأفيال في الغابة لا تسأل عن العشب والأشجار الصغيرة" يحاول ضابط كبير في جهاز الأمن والمخابرات بمدينة كسلا ومتنفّذ من النظام السابق في المدينة ذاتها، عبر كوادر الأمن الشعبي (ميليشيات نظام البشير) إلى جانب حلفائهم الفاسدين، أن يجعلوا من بني عامر والحباب والنوبة عشباً تحت أقدام صراعهم مع حكومة الثورة.
وفي هذا السياق تندرج تسريبات تسجيل صوتيّ على "واتساب" يحرّض صاحبه قائداً مجتمعياً من النوبة على بني عامر والحباب في مدينة كسلا. وهو تسجيل بصوت أحد العناصر المحلية في بورتسودان، أكد من يعرفونه أنه صوت المدعو كرار عسكر، يزعم في تلك التسريبات أن مجموعات من جماعة الجهاد الإسلامي الإريتري، تحرّكت إلى مدينة كسلا بالمال والسلاح لنصرة بني عامر والحباب. في تحريض واضح للنوبة عبر تلك الأكاذيب والتخرّصات، وبهدف توريطهم في مزيد من موجات الاقتتال، كما حدث في بورتسودان مع بني عامر، لإراقة مزيد من دماء الفتنة وإزهاق أرواح بريئة.
وكانت المفارقة، أن ضبطت حكومة مدينة كسلا، بعد يومين من التسريب، كمية من السلاح هُرِّبت إلى كسلا من منطقة كردفان، حيث موطن النوبة الأصلي، حسب ما جاء في تقرير مصوّر عبر نشرة الأخبار بالتلفزيون المحلي لمدينة كسلا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
راسمو سياسات الفتنة في مدينة بورتسودان من رموز نظام البشير وحلفائهم، في ترويجهم لدعايات شيطنة بني عامر والحباب استغلوا سرديات شعبوية لبعض البجا (البداويت) تضرب في وتر حساسية حبهم المقدس للأرض، في سياق قبائلي لا يُنظر إليه عامة البجا إلا وفق دلالة سيادية، تجعلهم مستنفرين في ما يتصل بتهديد سيادتهم على أرضهم. كما لو أن أرضهم هذه ليست داخل الحدود السودانية، وكما لو أنه ليس هناك حكومة مركزية سيادية يرجع إليها الفصل في القرارات السياسية والسيادية التي تفصل في الحكم بين المواطنين!
وهكذا، يروّج راسمو سياسات الفتنة في أوساط عامة (البداويت) فرية أخرى تصبّ في (شيطنة) بني عامر والحباب، تنفي عنهم جميعاً استحقاق المواطنة (نظراً إلى أرضهم المتقاطعة مع حدود دولة إريتريا) على طريقة رمي الجنين مع الماء القذر، لتكريس الكراهية بين مكونيّ البجا، بما يقوّض أي مستقبل للشراكة الضرورية بينهم كبجا، وهي شراكة لا يمكن للشرق أن ينهض سياسياً من دونها، مستغلين مشكلة اللاجئين الإريتريين من بني عامر والحباب المنتمين إلى إريتريا وغيرهم، بسبب أوضاع استعمار إريتريا واستقلالها أيضاً، وهي مشكلة تحتاج إلى معالجات جذرية من الدولة، إلا أنها تُوظَّف في المزايدات السياسية حول استحقاق الأرض من أجل حيازة مكاسب سياسية فئوية لمكونات محددة في الوظائف الكبرى للمدن الرئيسة بشرق السودان على حساب إقصاء مكون بني عامر والحباب، بما يكرّس الأوتوقراطية والعنصرية والإقصاء، وهي بطبيعة الحال ممارسات لن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى صراعات إلغاء بينية طاحنة ومتبادلة في منطقة جيوسياسية، يسيل لها لعاب لاعبين إقليميين ودوليين، نظراً إلى حيويتها الاستراتيجية.
يدرك راسمو سياسات الفتنة أن كثافة وحيوية مكوّن بني عامر والحباب في حياة مدن شرق السودان تستوعب طاقات كبيرة في سوق العمل والمؤسسات الخاصة، بما يجعلهما مرشحاً قوياً ورقما صعباً لا يمكن تجاوزه أو إقصاؤه من إدارة الشراكة الوطنية لشرق السودان، إلى جانب المكونات الأخرى في ظل الثورة التي ستنتصر للمهمشين عبر شعاراتها في الحرية والسلام والعدالة، وعبر بند التمييز الإيجابي في ميثاق إعلان قوى الحرية والتغيير.
لهذا، ومن أجل تحييد كتلة بني عامر والحباب التي تميّزت بالتسامح وحب السلام والوداعة، يسهر رموز نظام البشير وحلفاؤهم، ضمن أهداف أخرى، على شيطنتها، ويروّجون بخبث لتك الشيطنة بأساليب تمارس في مؤسسات المجتمع وفضائه العام عبر سياسات منظمة ودعاية جبارة تؤكد حتى الآن أن الطبقة السياسوية في شرق السودان هي مزيج تافه من الأوتوقراطية والقبائلية رعاه نظام البشير 30 عاماً. وحين تتحوّل سمات مكون كبير في شرق السودان عرف تاريخياً بتسامحه ووداعته وحبه السلام، تحت ضغوط الاقتتال الأهلي الواقعة عليه والخضوع المستمر إلى إكراهات الدفاع عن النفس، إلى شيطنة حقيقية، ما كانت لتستوي نعتاً لهم في جملتهم، عندئذ ستكون عواقبها وخيمة جداً، فإذا انفجر شرق السودان، لا سمح الله، ولن ينفجر إلا إذا انقطع حبل صبر بني عامر والحباب الطويل في مداراة الأذى، ليس خوفاً بل لتحمّل طُبِعا عليه، فلن تخمد حرائق هذا الشرق إلى الأبد. ونخشى أن تكون بوادر كهذه بدرت من قِبل البعض، ونرجو أن يكون ظننا في غير محله. لأن من يصبر صبراً عزيزاً طويلاً، ويتحمّل حملاً ثقيلاً، إذا خاب رجاؤه وطال صبره، ويئس من الإنصاف فإن عواقب تمرّده ستكون وخيمة.
هكذا، إذا تركت الأوضاع لإرادات راسمي الفتنة، من رموز نظام البشير وحلفاء محليين عبر مخططاتهم الشيطانية في شرق السودان، وتفاقمت الحروب والصراعات الأهلية فيه، فإن شيطنة بني عامر والحباب يمكنها أن تتحوّل إلى فائض طاقة شر كبيرة، تحت ضغوط الانتقام، بما يجعل منهما مأزقاً جديداً لشرق السودان، يضاف إلى المأزق التاريخي لعزلة البجا. مأزقٌ ربما يتحوّل معه الشرق إلى مستنقع صراع حدودي وجيوسياسي لا محالة. ولتفادي هذا المآل الجهنميّ على مجلس السيادة والحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير تدارك الأمر في شرق السودان قبل فوات الأوان. وليؤسسوا مفوضية عاجلة لأوضاع تلك المنطقة.