في خضم التحولات المالية والأزمة الاقتصادية التي سببها تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، تلوح فرص استثمارية ثمينة على المدى المتوسط تستفيد منها المؤسسات المالية الكبرى، منها صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي السعودي)، الذي كثف اقتناص الفرص مع انخفاض أسواق الأسهم بنحو كبير مدفوعاً بحالة عدم اليقين بشأن السيطرة على الفيروس.
وفي هذا الشأن، قال محللون متخصصون، إن صانعي القرارات الاستثمارية بصندوق الاستثمارات في السعودية "أدركوا أن العالم لا يعاني أزمة مالية، بل أزمة اقتصادية، لذا هي مسألة وقت قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها وتستأنف الشركات نموها بعد انهيار قيمة أسهمها بشكل غير مسبوق."
وبحسب رصد خاص لـ"اندبندنت عربية"، ارتفعت استثمارات صندوق الاستثمارات العامة السعودي في الأسواق الأميركية حتى نهاية مارس (آذار) الماضي إلى 9.78 مليار دولار موزعة على 24 شركة.
وأظهر إفصاح لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، نشر أخيراً أن صندوق الاستثمارات اشترى حصص أقلية في شركات أميركية كبرى منها "بوينغ" و"فيسبوك" و"سيتي غروب" و"والت ديزني" و"بنك أوف أميركا" مستغلاً ضعف السوق في أعقاب تفشي فيروس كورونا.
انتهاز الفرص الاستثمارية وقت الأزمات
في هذا الصدد، يؤكد الباحث الاقتصادي علي الحازمي، أن "الأزمات الاقتصادية تحمل دائماً ميلاد فرص استثمارية جاذبة، لذا فإن صناع القرارات وقادة المحافظ الاستثمارية ينتهزون الفرص التي تخلقها الأزمات والاستحواذ على الاستثمارات الجيدة، وهذا ما قام به صندوق الاستثمارات".
وأضاف "تم إنشاء الصندوق عام 1971، وتقريباً منذ هذا التاريخ مر العالم بنحو 7 إلى 8 أزمات، وربما لم يدخل الصندوق كمستثمر خلال الأزمات السابقة ولم ينتهز الفرص، إذ كان بمثابة شركة قابضة للحصص الحكومية في الشركات المحلية، لكن ما حدث من هيكلة للصندوق في عام 2016 يعتبر نقلة نوعية في تاريخه، وأصبح هناك أهداف وخطة مرسومة ليكون شريكاً في كل التحولات التي تعيشها السعودية".
ويشير إلى أن الصندوق جزء لا يتجزأ من رؤية السعودية 2030 التي تستهدف خفض الاعتماد على النفط لتصبح دولة استثمارية صناعية منتجة، فضلاً عن أن الإجراءات التي يطبقها الصندوق الآن غير مستغربة في ظل استراتيجية حصيفة تركز على تعظيم العائد والإيرادات. وتوقع أن يبدأ في جني ثمار الاستثمارات التي حصل عليها بحلول عام 2022، وقال "ربما هناك مزيد من الفرص التي يمكن أن يتنهزها الصندوق السعودي، وقد نشهد مزيداً من الاستحواذات كون الصندوق دائم البحث عن الفرص الجيدة".
ويعتبر مراقبون أن تطور الصندوق يعد نقلة نوعية تحسب للقائمين عليه، في ظل التنوع بالمحفظة الاستثمارية مما يعني تقليل المخاطر، وفي الوقت ذاته لوحظ أن التوجه الاستثماري بات منوعاً في اختيار الفرص تارة لشركات الطاقة في النرويج ثم شركة "بي بي"، ثم الرمال النفطية في كندا، وأيضاً هناك مجال التكنولوجيا حيث خطف أسهماً في كبرى الشركات مثل "فيسبوك"، وكذلك مجال الترفيه ليستحوذ على حصة في أكبر سفينة في العالم، ويعطي هذا التنوع بعداً آخر في صندوق الاستثمارات ويعطي دلالة واضحة على أن الاستحواذ على حصص في هذه الشركات ليس المحرك الوحيد له هبوط أسعارها فقط، إنما المحرك نظرة مستقبلية لإمكانية النمو في هذه الشركات.
ويكشف الحازمي أن "أغلب الحصص التي تم الاستحواذ عليها أخيراً بشركات هبطت قيمة أسهمها عن القيمة الحقيقية في 2016 ما بين 75 إلى 80 في المئة، ما يمثل فرصاً جيدة جداً للصندوق".
استراتيجية صيد
وفي هذا الشأن، قال أحمد الشهري، مستشار اقتصادي وإدارة استراتيجيات الأعمال، إن قرار التوسع في الاستثمارات الخارجية للسعودية يأتي في ظل حالة عدم اليقين العالمي وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، مضيفا "يمكن نطلق على الأمر استراتيجية صيد سعودية عبر صندوقها السيادي".
وأضاف "صانع قرارات الاستثمار أدرك أن العالم لا يعاني أزمة مالية وإنما يعاني أزمة اقتصادية بسبب معروف، وهو إغلاق الاقتصاد لمبررات صحية، ومتى ما تم اكتشاف لقاح أو تأقلم العالم مع الوباء أو زادت مناعة الناس بشكل تلقائي فإن الاقتصاد سيعود وبمعدل أسرع لا سيما الأسواق المالية بهدف تعويض الخسائر التي لحقت بالأصول المالية، كما أن الطلب المكبوت سينطلق مرة أخرى من المستهلكين، وجميعها ظروف قابلة للتحرك نحو المنطقة الإيجابية حال تغلب العالم على الأزمة".
وفي القطاعات المتوقع التوسع فيها مستقبلاً لصندوق الثروة السعودي، قال الباحث الاقتصادي إنها "ستكون ذات طابع استراتيجي ويتحسن موقفها عندما تحصل على أموال استثمارية لا سيما من صندوق سيادي، فضلاً عن أن أساسيات السوق في اختيار الاستثمار بالشركات ذات عوائد وربحية عالية". وذكر"لا أستبعد أن تقوم بعض الصناديق بنفس خطوات الصندوق السيادي السعودي لكن بمعدلات استثمار أقل".
تحرك آخر خلال الأزمة
في جانب آخر، يقيم متخصصون في قطاع الاستثمار التوجه السريع للصندوق السعودي نحو الأسواق العالمية لاقتناص الفرص كخطوة واعدة في وقت الأزمات، ويشير يحيى الحجيري، الباحث الاقتصادي، إلى أن "في الوقت الذي يقرر صندوق الثروة السيادي في النرويج (الأكبر في العالم بقيمة تريليون دولار) وللمرة الأولى على الإطلاق سحب أموال من الصندوق، بسبب أزمة كورونا وتراجع أسعار النفط، تصل قيمتها إلى 37 مليار دولار من الصندوق هذا العام، فإننا على النقيض وفي تحرك آخر نجد صندوق الاستثمارات العامة السعودي يضخ استثمارات جديدة لاقتناص الفرص المتاحة في أسواق الأسهم العالمية".
ويوضح "اقتناص الصندوق السيادي السعودي لفرصٍ استثمارية واعدة خلال أزمة كورونا بتلك القيمة يعكس إدراك مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي للعديد من الفرص خصوصاً بالسوق الأميركية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشار إلى أن قيمة الاستثمارات التي قام بها "السيادي السعودي" في قطاع الطيران والطاقة والبنوك تعادل 13.3 مليار ريال سعودي (3.56 مليار دولار)، وهي استثمارات منوعة، أظهرت قوة الصندوق في استثماراته الخارجية.
وذكر الحجيري أن "الصندوق تحرك أيضاً في أبريل (نيسان) الماضي لاقتناص فرص إضافية في أكثر من 12 شركة، وركز على السوق الأوروبية ثم انتقل للسوق الأميركية، وسط التركيز على الاستثمارات العالمية في ظل أن أسعار قيمة أصول الشركات العالمية اليوم في متناول اليد."
قطاع التكنولوجيا بالصدارة
وأظهرت بيانات هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، أن قطاع التكنولوجيا جاء في صدارة القطاعات التي يمتلك فيها صندوق الاستثمارات العامة حصصاً بقيمة إجمالية 3.279 مليار دولار بنهاية مارس الماضي.
وتركزت استثمارات الصندوق الذي يدير أصولاً بأكثر من 300 مليار دولار حول العالم، في قطاع التكنولوجيا الأميركي عبر شركات "أوبر تكنولوجيز" بقيمة 2.033 مليار دولار، ثم "فيسبوك" بقيمة 521.9 مليون دولار، و"سيسكو" بقيمة 490.9 مليون دولار، ثم "أوتوماتيك داتا بروسيسنغ" بقيمة 78.5 مليون دولار، ثم "آي بي إم" و"برودكوم" بقيمة 77.7 و76.6 مليون دولار على الترتيب.
وجاء في المرتبة الثانية قطاع النفط والغاز كأكبر القطاعات المستثمر بها من جانب الصندوق السيادي السعودي في الأسواق الأميركية بقيمة إجمالية 2.22 مليار دولار، موزعة على "بي بي" النفطية بـ827.8 مليون دولار، و"رويال داتش شل" 483.6 مليون دولار و"سنكور للطاقة" 481.1 مليون دولار، و"سي إن آر إل" 408.1 مليون دولار، و"توتال" 222.3 مليون دولار.
وحل قطاع البنوك في المرتبة الثالثة بقيمة استثمارات 1.01 مليار دولار، موزعة على "سيتي غروب" و"بنك أوف أميركا" بـ 522 مليون و487.6 مليون دولار على الترتيب.
وجاء قطاع الإعلام والترفية في المرتبة الرابعة بقيمة 912 مليون دولار، موزعة على شركتين هما "والت ديزني" بـ495.8 مليون دولار و"لايف نايشن" بـ416.1 مليون دولار.
فيما جاء قطاع صناعة الطيران في المرتبة الخامسة بقيمة 713.7 مليون دولار في شركة واحدة هي "بوينغ" العملاقة لصناعة الطائرات، بينما بلغت استثمارات الصندوق في قطاع السياحة نحو 91.9 مليون دولار موزعة على شركتي "ماريوت" بـ513.9 مليون دولار و"بوكينج" بـ78 مليون دولار.
وأظهر الرصد أن استثمارات الصندوق السيادي السعودي في قطاع النقل البحري الذي جاء في المرتبة السابعة بقيمة 456.9 مليون دولار في شركة واحدة هي "كارنيفال". ويستثمر الصندوق في قطاع النقل والسكك الحديدية في شركة "يو إن بي" بقيمة 78.8 مليون دولار، وفي قطاع الأدوية من خلال شركة "فايزر" بقيمة 78.5 مليون دولار، وفي القطاع المتعدد عبر شركة "باركشر هاثاواي" بقيمة 78.4 مليون دولار.
ويبين الرصد أن استثمارات صندوق الاستثمارات العامة في قطاع نظم الاتصالات بلغت 77.6 مليون دولار في شركة "كوالكوم"، وفي قطاع الأغذية والمشروبات بقيمة 77.6 مليون دولار من خلال شركة "ستاربكس". وكان الصندوق كشف في أبريل (نيسان) الماضي عن حصة تبلغ 8.2 في المئة في "كارنيفال كورب" التي تضررت بقوة من فيروس كورونا، مما رفع أسهم هذه الشركة المشغلة للسفن السياحية بنحو 30 في المئة.
وكان محافظ صندوق الثروة السيادي السعودي، ياسر الرميان، صرح في أبريل الماضي، أن الصندوق ينظر في "أي فرصة" ناجمة عن الدمار الاقتصادي الذي سببته الأزمة. وتوقع حينها أن يقع على "فرص عدة"، معدداً أسماء شركات عاملة في مجال الطيران والطاقة والترفيه على سبيل المثال.
وذكر أشخاص مطلعون على خطة عمل الصندوق السيادي، أن إدارة الأخير عملت خلف الكواليس، مع تسبب تفشي فيروس كورونا في تعطيل التجارة العالمية ودفع أسعار الأسهم إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات، على إعادة تعيين عدد من موظفيه بمهمة إيجاد صفقات مربحة وغير مكلفة في الوقت ذاته لتوسيع محفظته العالمية.
وتستند الاستثمارات التي كُشف عنها في البيان الربعي الذي نُشر أخيراً إلى رهان على أن الشركات العالمية الكبرى ستعود إلى الربحية والانتعاش مع العودة التدريجية لمختلف جوانب الحياة إلى طبيعتها.