في زمن كورونا، تغيرت الكلمات، ودخلت كلمات جديدة: فلان مْكَرْوِن، وأبو فلان تكَرْوَن وطاب! "وخّر عنّا لا تكرْوِنّا". لقد جعل العرب من كورونا فعلاً، واسم مفعول. وتكررت كلمات كالحجر والحظر -الجزئي منه والكلي- وعادت كلمة الدس للواجهة أيضاً، وهو ما يسمى كفوفاً في بلاد الشام، والذي يسميه البعض "عبثاً" هذه الأيام "قلوفز" من الإنجليزية التي أظنها أخذتها من اليونانية CAPSA والتي جاءت منها كلمة "قَفَص" بالعربية. والتشابه في المعنى بين القفص والقفاز واضح هنا، فالقفص يحمي الرئتين والقفاز يحمي الكفين. صار البعض مثل الغراب: أراد أن يمشي كالحمامة فضيّع مشيته! ولا أدري ما سبب تعمد استعارة كلمة أجنبية بدلاً من عربية معروفة وموجودة، وهذا لا يعني رفضي للاستعارة لأنها حتمية لغوية، فلا يوجد لغة "نقية" أي لا توجد لغة لم تستعر كلمات من لغات أخرى، ولكن الاستعارة اللغوية غالباً ما تكون للكلمات الجديدة التي لا مرادف لها في اللغة التي قامت بالاستعارة، تماماً مثلما الماسك بدل القناع، وقد يكون القناع شفافاً في هذه الحالة مثلما يستعمل هذه الأيام، وأشد الأقنعة تغطية للوجه هو قناع النفاق والخبث والدجل، ولعله الأكثر انتشاراً في العالم لكنه لا يقي من كورونا.
جاءت كلمة كمام من كمَمَ، وعبارة "كم الكمامة؟" أكثر العبارات انتشاراً في الأسواق هذه الأيام. في الكويت، ثار "العسام" على أستاذين جامعيين اشتكيا من مبالغة مالية مليونية لصفقة كمامات، وأحيل أحدهما إلى النيابة، والشكوى تعكس مدى انتشار الحديث عن الكمامات والطلب عليها عالمياً.
ومن كمم جاء الكُم أي طرف الثوب على الساعد، وهو الذي قال فيه بندر بن سرور: أحدٍ ينام وحط راسه بكمّه/ وأحدٍ تخم النوم عينه وتخطيه.
"انفذ كُمّك، الله يخليك لأمك"، كان يرددها الكبار على صحن الأكل حين نلتف حوله صغاراً، فيتدلى الكُم الطويل إن كان كم الثوب واسعاً ليشاركنا الوجبة، فيحثوننا على "النفذ" أي التشمير عن السواعد ورفع الكم عن الصحن.
كمم وكظم وكتم وكعم وعكم وغتم وقتم وغمم وغيّم وعتم وبلم وعسم وطمم، كلها جذور كلمات عربية تشترك تركيبتها الصوتية الجناسية الجزئية بنهاياتها بالميم، وبتصريفها الجذري الثلاثي، وباشتراكها بمفهوم معناها.
فالكمامة تغطي جزءاً من الوجه، والكاظم للغيظ متسامح غطى مشاعر الألم التي تكتويه، وكاظم اسم شائع نسبة للإمام موسى الكاظم وهو الإمام السابع لدى أتباع المذهب الشيعي. كما أن كاظمة منطقة في شمال الكويت وقعت بها معركة ذات السلاسل بين العرب والفرس وبها قبر غالب بن صعصعة، والد الشاعر الفرزدق.
والكتوم الذي يغطي سره ولا يظهره للناس، وكتمان السر من الخصال الحسنة، وفي مأثور القول: "اقضوا حوائجكم بالكتمان".
وقال أبو العتاهية:
من كان يزعم أن سيكتم حبّه
أو يستطيع الستر فهو كذوبُ
وغير الكتوم يقولون عنه كناية شعبياً: "بخور السوق" أي الذي ينتشر في مكان وينشر الخبر في مكان آخر، ويقال: "العِلم في بطنه حَلول"، وسمعتها "العِلم في بطنه عِشْرِج"، وهو خلطة نباتات مُليّنة للجهاز الهضمي وتسبب الإسهال وكانت تستخدم في الماضي لغسيل المعدة وتنظيفها دورياً كنوع من الطبابة الشعبية.
وكاتم الصوت سلاح الاغتيال والقتل غدراً وغيلة، وفيه قال الشاعر حمود البغيلي غزلاً وليس غدراً:
حبّك رصاص مسدسٍ كاتم الصوت
يرمي الهدف في صمت حتى يصيبه
أما العكم فهو شد بحبل للرفع أو منع حركة الناقة، واسم "معكام" منتشر بين البدو كناية عن عكمه للإبل وقدرته وقوته. عرفت معكام بن بجّاش آل صالح رحمه الله من خيرة الرجال ومن فرسان العجمان المعدودين، لكن اسم معكام يندر بين الأسماء العَلم في وقتنا الحاضر، لانتهاء الحاجة لعكم الإبل.
وجاء العكم أيضاً بمعنى الغياب وعدم الظهور، كما الكمامة التي تمنع ظهور جزء من الوجه.
وكعم أتت بمعنى منع هياج الجمال، فكعم الجمل أي وضع في فمه ما يوقف هياجه ورغاءه وزبده، وتستخدم عند البدو كناية عن الشجاعة فيقال: "فلان كعام العايلين"، أي أنه يرد الأعادي.
والغتم هو الحر الشديد الذي يكتم النفس، ويقولون باللهجة الخليجية: "قتّ وقتّه" كناية عن الحر الشديد وتوقف الريح، ولعل القتم والغتم هما كلمة واحدة تلفظ بالغين والقاف منذ مئات السنوات ولا تزال حتى يومنا هذا، حيث يتم تبادل الغين والقاف في اللهجة الخليجية والسودانية، فيقول الخليجيون "قدا" للغداء ويقول السودانيون "ديمغراطية" وهكذا.
كما أن القتم هو الغبار المرتفع، وفي لهجات البدو سمعت وصف الجو: "علينا كتام" وكْتِمَهْ، وسمعتها "ﭼِتام" بالجيم الفارسية، وكذلك تسِتام. والغبار يختلف عن "الطوز" التي تعني الملح باللغة التركية، ولشرح استعارتها من التركية مجال آخر.
ويقال فلان "مكتّم" أي أنه ساكت حزين لسماعه خبراً حزيناً. ويستخدم "الكَتْم" في أهازيج مشجعي كرة القدم بلهجة أهل الحجاز في حال فوز فريقهم وإغاظتهم لمشجعي الفريق الخصم:
إشْبَكُم كِدا انكتمتوا *** كتمة الفول المدمّس
قال ممازحاً: "كتم أنفاسنا هالكمّام كتمة الفول المدمس".
والغمام يحجب الشمس ويغطيها وأصله من غمم، وتشابهه في اللفظ والمعنى مع كمام واضح لا يحتاج تفصيلاً.
والعسام هو الغبار الشديد وترد ثورته في الشعر النبطي كناية عن الحرب، كقول حمدان العصيمي:
ليا ثار العسام وصارت الديره صهيل خيول*** وحضّرتوا سلاح الروم تلقى عندنا ضده
وحَكَم كلمة لها معان عدة، من بينها إحكام الطوق على الرقبة، وتعني شدّه وعكمه، وحين حكمت المحكمة على المتهم بالسجن، فقد كتمت حريته ومنعت خروجه، فقام الحرس بإحكام وثاقه وجره للزنزانة.
والبلام للإبل مثل اللجام للخيل، وأبلم الرجل، أي سكت من دون أن ينبس ببنت شفه، وتعني باللهجة أصبح "صُكْتم بُكْتم".
وطمم معروف معناها، فالسيل "طمم" الأرض بالطين، أي غطاها، وهي مدغمة الميمين في اللهجات العربية الحديثة "طمّ"، والطمام هو غطاء سقف البيت، وكان في الماضي من "الطمي" والغرين واللَّبِن، وفي الأمثال:
"ليتك خلّيته على طمام المرحوم"، ولهذا القول الشعبي قصة طريفة يصعب نشرها هنا كي لا أسبب الحرج للتحرير.
ويأتي "انطم" كفعل أمر في الخليج والعراق أي "أخرس"، كما في بعض بلاد الشام، وإنْكَم كما في شمالها بحلب وما جاورها، أو "إنكتم" كما في الحجاز أو "اتكِتِم" كما في مصر وهكذا.
وعودة على قصة الكمامات في الكويت وما دار حول إحدى صفقاتها من شبهات، فقد جاء تقرير لديوان المحاسبة الكويتي يؤيد رواية الأستاذين الجامعيين بوجود تلك الشبهات، فانْكَمّ المشككون، وانطم اللصوص، وانكتم الحرامية، وانكتموا "كتمة الفول المدمس"... ولو مؤقتاً.