يربط العرب والمسلمون العيد بتجدده وعودته كل عام، لكنهم سيخلّدون "عيد الكمامات" هذه السنة في ذكراهم طويلاً، كما خلّد التاريخ قدوم "شوال" بأوبئة وأمراض عبر الزمن، فللمرة الأولى يشهدون العيد تحت ظل الحظر الكلي والتباعد الاجتماعي في بلدان عدة، مترقبين شاشات البيانات الصحية، التي تنبئهم بالإصابات والوفيات.
ويرتبط عيد الفطر لدى المسلمين بدخول شوال ورؤية هلاله، لكن ذلك الدخول شهد محطات تاريخية، كان الوباء يغتال فيها البشر على امتداد المدن والقرى والحواضر، ووثّق المؤرخون لحظات لم يكن فيها إعلان الفرح شعار العيد، بل توقّف الحياة وتعثّر دورتها وحتى شعائرها الدينية، في مشاهد مأساوية وثّقتها مدونات التاريخ، تتضاءل أمامها تعاليم كورونا "التباعدية" على الرغم من قسوتها الاجتماعية، وطبعها أعياد الملايين بطابعها القهري.
"الكمامات" توحّد أعياد العرب
وأعلن مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن "صلاة العيد حين تعذّرت إقامتها في المصليات والمساجد المخصصة لها فإنها تُصلّى في البيوت من دون خطبة بعدها"، وذلك ضمن أجوبة له حول عدد من الاستفسارات والتساؤلات التي وجّهتها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في البلاد، التي رفعت السلطات الصحية فيها الحظر أيام عيد الفطر إلى 24 ساعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تكن السعودية وحدها التي تستعد لعيد فطر استثنائي سمته الكمامات والصلاة في البيوت وغياب المعايدات والاحتفالات الجماهيرية، إذ وحّد الفيروس هذه المرة العرب في أعيادهم التي اعتادوا التباين في مواقيتها، فأصدرت السلطات المصرية قراراً بضرورة ارتداء الكمامات، وأوصت بالتباعد الاجتماعي، وتجنُّب الزيارات بين العائلات في عيد الفطر، خصوصاً أن عدد المصابين بفيروس كورونا في ارتفاع مستمر.
أمّا في قطر، ففرضت الحكومة غرامات على كل من لا يرتدي كمامة، ولا يطبّق إجراءات الوقاية، وأعلن المغرب تمديد إغلاقه العام ثلاثة أسابيع إضافية من دون أن يستثني أيام العيد بأي تخفيف، بينما قال مكتب رئيس الوزراء الجزائري إن السلطات ستزيد ساعات حظر التجوّل المفروض للمساعدة في احتواء انتشار فيروس كورونا خلال عطلة عيد الفطر، وبموجب القيود الجديدة، سيسري الحظر من الواحدة ظهراً إلى السابعة صباحاً بمعظم المناطق، ومن الخامسة مساءً إلى السابعة صباحاً في بقيتها.
لا داعي للتشاؤم
لكن مع ذلك، يذهب أطباء ومتخصصون محليون وعالميون، مثل الكاتب والطبيب السعودي عبد العزيز السماري، إلى تخفيف حدة المبالغات في تصوير خطورة الجائحة أكثر مما هيّ بالفعل، إذ على الرغم من فداحة أضرارها فإنّ التقارير المختلفة من دول العالم توثّق، بحسبه، أن أكثر حالات الوفيات المعلنة لم يكن الفيروس سببها الوحيد.
ويعتقد نظيره النفسي عمر المديفر أن التوعية الإيجابية والتخفيف من القيود أحياناً قد يكونا أفضل من الاستمرار في وتيرة التخويف. لافتاً في أثناء حديثه إلى إحدى المحطات الفضائية، إلى أن الإحصاءات النفسية في السعودية "لم تظهر مؤشراتها آثاراً نفسية بالغة للفيروس حتى الآن في حياة سكان المملكة".
يأتي ذلك في وقتٍ اتجهت فيه دول أوروبية عدة، مثل ألمانيا والنرويج وحتى إيطاليا وإسبانيا التي عانت أشد موجات الفيروس، إلى تخفيفها القيود المفروضة، وبدء العودة إلى الحياة الطبيعية تدريجياً، بما في ذلك فتح المرافق السياحية وحدودها الخارجية، وهي خطوات رفعت سقف آمال شعوب لا تزال تعاني هيمنة الوباء بأن حياتها هي الأخرى ستعود إلى سابق عهدها قريباً. فضلاً عن الصين التي أعلنت رسمياً التعافي.
وكان الطبيب الفرنسي المثير الجدل ديدييه راوول، الذي اشتهر بعكسه تيار الأطباء في فرنسا والعالم منذ بدء الجائحة، اعتبر قبل أيام أن كورونا "على وشك الانتهاء"، مستبعداً "ظهور موجات ثانية للوباء" الذي أطاح أكثر من 300 ألف إنسان حول العالم، على الرغم من تأكيد منظمة الصحة العالمية سابقاً أن الفيروس المستجد "قد لا يختفي أبداً". كما أكد مجدداً أنّ الفيروس "يتراجع بشكل ملحوظ عالمياً"، متوقعاً "أن لا تُسجّل إصابات جديدة بشكل كبير"، بل انتهاء الأزمة التي خضّت العالم برمته، موضحاً في ما ترجمت عنه إحدى القنوات الصحية، أن المعطيات العلمية كافة تؤكد أن "الفيروس في طريقه إلى الانتهاء"، وإن كانت بعض الحالات ستظهر بطبيعة الحال هنا وهناك، لكننا لن نشهد بعد اليوم "موجات تفشٍّ" كالسابق، معتبراً أن "دينامية الجائحة تراجعت بشكل كبير".
أوبئة "عيد شوال"
عرف العرب أدواءهم منذ القدم، فسمّوا الطاعون "الدبل"، وذكروا العدسة والحصبة، وكذلك السل الذي عرف بـ"داء إلياس بن مضر"، لأنه أوّل من مات به، والجدري، ويقال إن ظهوره أقدم من أبرهة، وغيرها من العلل مثل السعال واليرقان، والصداع، و"الشقيقة" وغيرها كما يذكر المؤرّخ جواد علي في كتابه المفصل.
79 هـ - 698 م
ذكر محمد بن يزيد المعروف بالمبرد (المتوفى: 285 هـ - 898 م) في كتابه "التعازي والمراثي والمواعظ والوصايا"، أن شوال "شهد الطاعون الجارف الذي كان أحد أشهر خمسة طواعين في الإسلام، فهلك في ثلاثة أيام في كل يوم سبعين ألفاً".
موثقاً أنه "مات لأنس بن مالك فيه ثلاثة وثمانون ابناً، ويقال: وسبعون، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً، وهرب عبيد الله بن عمير فمات له ثلاثون ابناً، إنما هرب بهم من الطاعون، ويروي عن البراء المازني: أنه مات في الطاعون لصدقة بن عامر المازني سبعة بنين في يوم واحد، فدخل، فوجدهم قد سجوا جميعاً، فقال: اللهم، إني مسلم مسلم".
87 هـ - 706 م
ويذكر المبرد "طاعون القينات" الذي بدأ في شوال سنة سبع وثمانين، فمات فيه الجواري، ويذكر المؤرخون أنه إنما سمّي بذلك، لأنه بدأ بالنساء مدة قبل الرجال.
449 هـ - 1057 م
ويذكر صاحب "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي المعروف بـ"سبط بن الجوزي" (1185 - 1256 م) أنّ "في جمادى الآخرة من سنة أربعمئة وتسع وأربعين ورد كتاب من بخارى من وراء النهر أنه وقع عندهم وباء لم يعهد مثله ولا سمع به، حتى إنه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثماني عشرة آلاف جنازة، وحصر من مات منه فكانوا ألفاً وستمئة وخمسين ألفاً إلى تاريخ الكتاب، ومن بقي من الناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقاً خالية، وأبواباً مغلقة، وتعدى الوباء إلى أذربيجان، ثم إلى الأهواز والبصرة وواسط، وتلك الأعمال، حتى كانت تحفر زبية فيلقى فيها عشرون وثلاثون من الناس، والسبب قلة القوت والجوع".
ولارتباطه بشوال يستطرد المؤرخ أنه "ولا يعلم من مات في أرض المشرق، بل قيل: إن سمرقند من غرة شوال وإلى سلخ ذي القعدة أحصى من خرج من أبوابها من الجنائز، فكانوا مئتي ألف وستة وثلاثين ألفاً".
565 هـ - 1170 م
وفي شوال كذلك يسجل سبط بن الجوزي، "كانت بالشام زلازل هائلة، بحيث وقع معظم دمشق وشُرافات الجامع، وتشقق رؤوس المنائر، وكانت تهتز مثل النخل في يوم ريح عاصف، وكانت بحلب أعظم بحيث وقع نصف القلعة والبلد، فهلك من أهلها ثمانون ألفاً تحت الهدم، وتهدّمت أسوار جميع القلاع، وخرج أهلها إلى البراري، ووقعت قلعة حصن الأكراد، بحيث لم يبقَ للسور أثر، وكذا حماة وحمص".
748 هـ - 1348 م
ويذكر يوسف بن تغري بردي (المتوفى: 874 هـ - 1470 م) مؤلف "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" أنه "لما انقضى رمضان حضر السلطان من سرياقوس، وحدّث في الناس بشوال نفث الدم، فكان الإنسان يحسّ فى نفسه بحرارة ويجد غثيانا فيبصق دماً ويموت عقيبه، ويتبعه أهل داره واحداً بعد واحد حتى يفنوا جميعاً بعد ليلة أو ليلتين، فلم يبق أحدٌ إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء، واستعدّ الناس جميعاً وأكثروا من الصدقات، وتحاللوا وأقبلوا على العبادة، ولم يحتج أحدٌ فى هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطباء لسرعة الموت، فما انتصف شوال إلا والطرقات والأسواق امتلأت بالأموات، فانتدب جماعة لمواراتهم، وانقطع جماعة للصلاة عليهم، وخرج الأمر عن الحد، ووقع العجز عن العدد، وهلك أكثر أجناد الحلقة، وخلت الطباق بالقلعة من المماليك السلطانية لموتهم".
ويورد أنه "ما أهل ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة، لا يوجد بشوارعها مار، بحيث إنه يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يرى من يزاحمه، لاشتغال الناس بالموتى، وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكّرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح، فلا تجد بيتاً إلا وفيه صيحة، ولا تمر بشارع إلا وترى فيه عدة أموات".
782 هـ - 1380 م
ويوثّق زين الدين عبد الباسط بن أبي الصفاء غرس الدين (المتوفى: 920 هـ - 1514 م) في كتابه نيل الأمل في ذيل الدول تفشي الوباء بالإسكندرية سنة سبعمئة واثنين وثمانين هجرية، قال: "وفيه فشا الوباء بثغر الإسكندرية، وتمادى إلى أثناء ذي الحجة، ومات به كثير من الناس".
841 هـ - 1438 م
ويرصد ظهور الوباء في العراق سنة ثمانمئة وإحدى وأربعين، وفيه "شنع الوباء ببلاد العراق، خصوصاً بعانة، بحيث لم يبق بها إنسان، وخلت عن آخرها، واستولى أمير الملا غادر بن نعير على موجودهم بأسره".
ويستوقفه "شيوع الموتان في الرحبة، حتى عجزوا عن موارات الموتى، وألقوا منهم العدد الكبير في نهر الفرات، وشنع أيضاً الموت في تلك النواحي في ديار العربان وأذواق التركمان، حتى خلت وصارت دوابهم مهملة بغير رعاة".
كما شاع الموت من الوباء بغزة، وفيها أُحصي من مات فكانوا زيادة على الاثنى عشر ألفاً، وكذلك وردت الأخبار بعموم الطاعون ببلاد الفرنج أيضاً، وبخلو عدة مدن وقرى ببلاد المشرق لموت أهلها، وحكيت في ذلك نوادر يطول شرح ذكرها.
ومطلع شوال، حسب صاحب "نيل الأمل"، تزايد الموتى بالقاهرة، "ففي يوم العيد تزايد عدد الموتى على المئة إنسان، وأما بمصر وغيرها من نواحي البلد فكثير أيضاً، وكان أكثره بنواحي الصليبة وجامع ابن طولون، واستهلّ هذا الشهر وقد حل الكثير من الفقر والأنكاد ووقوف الحال والكساد ما لا يعبر عنه".
843 هـ - 1440 م
ويرصد في سنة ثمانمئة وثلاثة وأربعين في رمضان ما وقع بالطائف وعموم بلاد الحجاز من وباءٍ كبيرٍ، فهلك به كثيرٌ من الناس، لا سيما من عرب ثقيف بحيث صارت أنعامهم هملاً يأخذها من ظفر بها، وابتدأ الوباء إلى بجيلة على مرحلة من مكة المشرفة، كما أن في شوال ثار الريح البارد، ما أثار الغبار الكبير، وأظلم الجو في آخر النهار، وفيه انحلت الأسعار في الغلال عما كانت بكثير.
841 هـ - 1438 م
وترصد الموسوعة التاريخية للدرر السُّنية كيف وقع الطاعون في الغنم والدواب، سنة ثمانمئة وواحد وأربعين، "وُجد في النيل سمك كثير طاف مات من الطاعون، وأمّا الطاعون فإنه ابتدأ بالقاهرة من أول رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يُصلّى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمئة ميت، سوى بقية المصليات وعدتها بضعة عشر مصلى، ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يرفع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمئة، وسببه أن الناس أعدوا توابيت للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلهم إلى إطلاقهم من الديوان".
897 هـ - 1492 م
ويتناول المؤرخ عبد الرحمن بن محمد العليمي (المتوفى: 928 هـ - 1522 م) في كتابه "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" دخول الوباء بالطاعون مبتدئاً بالقدس الشريف في عشري جمادى الآخرة، واستمرّ إلى آخر رجب، فبلغ عدد الأموات في كل يوم إلى ثلاثين وأربعين، وفي يوم الجمعة الحادي العشر من رجب نحو الخمسين، وهي أول جمعة ظهر فيها كثرة الأموات، واشتد الأمر في شعبان فبلغ العدد في كل يوم فوق المئة، وقيل إنه بلغ في اليوم إلى المئة وثلاثين، وبلغ العدد بمدينة سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام ما دون الخمسين".
ويوثق استمرار الوباء بالقدس في قوته إلى سلخ شعبان، "وأفنى خلقاً من الأطفال والشباب، وأفنى طائفة الهنود عن آخرهم، وكذلك الحبش، ومات جماعة من الأخيار الصالحين، وتناقص الوباء من أول رمضان".
ولم يرتفع الوباء مع دخول العيد، لكنه "استمرّ حتى أواخر شوال بعد إقامته بالقدس نحو أربعة أشهر وعشرة أيام وبلغ عدد الأموات بالقاهرة المحروسة في كل يوم أكثر من عشرين ألفاً، وبدمشق في كل يوم ثلاثة آلاف، وبحلب في كل يوم ألف وخمسمئة، وبغزة في كل يوم نحو أربعمئة، وبالرملة في كل يوم نحو المئة وعشرة، ولم يمكث في بلدة من البلاد أكثر من بيت المقدس، فسبحان من يتصرف في عباده بما يشاء".
رصد الأوبئة
ويذكر جواد علي، في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" مدى رصد العرب للأوبئة الفتاكة التي تنزل بالناس، وتعاملهم معها، "وقد كانت الأوبئة تفتك بالناس فتكاً، فكان الأغنياء والموسرون يفرّون من الأماكن المزدحمة إلى أماكن بعيدة، ويلجؤون إلى الصحاري ابتعاداً عن المصابين بها".
ويُعيد العرب الأوبئة إلى أسباب عديدة، فيوثق أنهم "كانوا يرجعون أسبابها وأسباب الأمراض عموماً إلى غضب الآلهة على الناس، وإلى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، وإلى أنواع من الهوام والحشرات. ومن أشهر أنواع هذه الأوبئة الطاعون والجدري والهيضة، والطاعون المرض العام والوباء، وقد أشير إليه في كتب الحديث".
وعن انتشار الطاعون يؤكد عليّ أنه كان منتشراً ومعروفاً في الحجاز، وفي سائر أنحاء جزيرة العرب آنئذ، وقد جعل بعض العلماء الطاعون نوعاً من أنواع الوباء، وفرق بينهما بعض علماء اللغة، وجعلوا الوباء المرض العام عامة، مهما كان، مثل انتشار الحمى والجدري والطاعون والنزلات والحكة والأورام. وقد ذكرت الأوبئة في كتب الحديث.
وكانت العرب تسمّي الطاعون "الدبل"، ونسب الجاهليون حدوث الطاعون إلى "وخز الجن"، فهو يقع لأن الجن تطعن الشخص، وتخزه فيصاب بالطاعون.
ويربط عليّ مصدر الأوبئة بالحروب، فيبين أنه "قد كانت الحروب من المصادر التي غذّت العربية الجنوبية بمادة دسمة من الأوبئة، وكانت تأتي على عدد كبير من الناس، فتتركهم جثثاً تتعفن على ظاهر الأرض، كما كانت تأتي على مواطن السكن ومواضع المياه، وتأتي على كل ما يملكه الناس، وتزيد في مشكلة الفقر مشكلة، وتبعد الناس عن النظافة، فتهيئ بذلك للأوبئة أمكنة جيدة، لتلعب بها كيف تشاء، ودليل ذلك ما نجده في كتابات المسند من إشارات إلى أمراض وأوبئة تعمّ المناطق المنكوبة بالحروب، حيث تكتسح من الأحياء، ما لم يتمكّن السيف من اكتساحه منهم".
وقد كان الجاهليون، حسب المؤرخ جواد علي، "يعرفون عدوى بعض الأمراض، فكانوا يتجنبونها، ولا يقتربون من المريض المصاب بها، ويطلقون عليها العدوى 2، فكانوا إذا أصيبوا بأوبئة، فرّوا إلى أماكن بعيدة سليمة تهرباً منها، وحجروا على المريض، لئلا يقرب منهم، فينتقل المرض إليهم. وذلك لما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأمراض من أنها تعدي بطبعها، مثل الجذام".
التعامل مع الأوبئة
وينقل صاحب التعازي والمراثي عن أبي الحسن أن "الذي بلغنا من خبر الطاعون أن الناس لا يجزعون فيه على موتاهم كجزعهم في غير الطاعون، وذلك لتأسي الناس بعضهم بعضاً، ولمّا يدخلهم من الخوف، فكل إنسان يخاف على نفسه فيسلو عن الولد والأهل والقرابة".
وقدّم مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي في كتابه "ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون" جواباً في جمع أدعية وأذكار تستعمل للطاعون، وهل ذلك يفيد، وهل الطب له مدخل فيه وينفع؟ وقال: "وقد أحببت أن أذكر شيئاً من ذلك مع زيادة فوائد، وجمع فرائد، طلباً للثواب، ونفعاً للأصحاب".
ونقل عن الحافظ جلال السيوطي فيمن مات في الطاعون: "وأكثر أناس في الطاعون من أشياء لا تغنيهم، وأمور لا تعنيهم، من ذلك استعمال مأكولات وقوابض، ومخففات وحوامض، وتعليق فصوص، لها في كتب الطب نصوص، وهذا باب قد أعيا الأطباء، واعترف بالعجز عن مداواته الألباء".
ويرى السيوطي أن من الناس "من رتبوا أدعية لم يرد بها حديث ولا أثر، وابتدعوا أذكاراً من عند أنفسهم ونسوا أين المفر، وآخرون تحوّلوا إلى البحر وشاطئ النهر، وما شعروا أن مجاوزة البحر من أكبر الأسباب المعينة للطاعون طباً، والمضرة عند فساد الهواء جسما ولباً، إنما يصلح سكن البحر لمن يشكو الغم، أو سوء هضم".
وقال السيوطي: "ولم أعوّل على ذكر شيء مما ذكره الأطباء في ما يستعمل أيام الطاعون، لأنه شيء لا فائدة فيه، وهم إنما بنوا ما ذكروه على ما قرروه من أن الطاعون ناشئ عن فساد الهواء، وقد تبين فساد ما قالوه بمجيء الأحاديث النبوية بخلافه، فالأولى طرح ذلك، والتوكل على الله سبحانه وتعالى".
ونسب الكرمي إلى الأطباء أن سبب الوباء "فساد جوهر الهواء"، ناقلاً عن ابن سينا أن الوباء "فساد جوهر الهواء" الذي هو مادة الروح ومدده، ولذلك لا يمكن حياة شيء من الحيوان من دون استنشاقه، وقريب من ذلك قول بعضهم: "الوباء ينشأ عن فساد يعرض لجوهر الهواء بأسباب خبيثة سماوية أو أرضية، مثل الشهب والرجوم في آخر الصيف، والماء الآسن، والجيف الكثيرة".
وذكر الكرمي أن أهل الشرع يرون أن كلام الأطباء هذا "باطل مردود، لأن الطاعون قد يقع في أعدل الفصول، وفي أفسح البلاد، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان من الهواء لعم جميع الناس، وسائر الحيوان، وجميع البدن! وليس كذلك كما هو مشاهد، فإنا نجد كثيراً من الناس والحيوان يصيبه الطاعون، وبجانبه من جنسه، ومن يشابه مزاجه، ولا يصيبه، وقد يأخذ أهل البيت من بلد بأجمعهم، ولا يدخل بيتاً مجاورهم أصلاً، أو يدخل بيتاً، ولا يصيب منه إلا البعض".