ملخص
من بين الأسئلة التي طرحتها الصحف الإسرائيلية والدولية، كان "من يتحمل مسؤولية إقدام المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو وغالانت"، لتجيب في صورة اتجاهين رئيسين، الأول هو رئيس الوزراء الإسرائيلي ذاته بسياسته الحربية الواسعة منذ أكثر من عام في قطاع غزة، في مقابل، اتهام للمحكمة بـ"التحيز ضد إسرائيل ومعاداة السامية".
بقدر الانقسام داخل المعسكر الغربي حول مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كان التباين لافتاً في التعاطي الإعلامي الإسرائيلي والدولي للخطوة ذاتها وتداعياتها على القيادة الإسرائيلية والدولة وحتى على مستوى الأسباب التي قادت إلى ذلك.
وأول من أمس الخميس، قالت المحكمة الجنائية الدولية إنها أصدرت أوامر اعتقال في حق نتنياهو وغالانت والقيادي في حركة "حماس" إبراهيم المصري (محمد الضيف) بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وذكرت المحكمة في قرارها أن هناك أسباباً كافية للاعتقاد أن نتنياهو وغالانت مسؤولان جنائياً عن المجاعة في غزة واضطهاد الفلسطينيين، مشيرة إلى أن قبول إسرائيل باختصاصها غير ضروري، وهو ما رفضته تل أبيب.
على نتنياهو أن يلوم نفسه وألا يتباكى
من بين الأسئلة التي طرحتها الصحف الإسرائيلية والدولية، كان "من يتحمل مسؤولية إقدام المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو وغالانت"، لتجيب في صورة اتجاهين رئيسين، الأول هو رئيس الوزراء الإسرائيلي ذاته بسياسته الحربية الواسعة منذ أكثر من عام في قطاع غزة، في مقابل، اتهام للمحكمة بـ"التحيز ضد إسرائيل ومعاداة السامية".
ففي قراءتها للقرار لامت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية نتنياهو نفسه وحمَّلته مسؤولية "جلب مذكرة اعتقال" للمرة الأولى في حق القيادة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة، مطالبة إياه بـ"عدم التباكي بدعوى معاداة السامية".
ووفق ما كتبه الصحافي الإسرائيلي يوسي فيرتر، في تحليله بالصحيفة فإنه "لا يجوز لرئيس الوزراء نتنياهو أن يلوم إلا نفسه على مذكرة الاعتقال في حقه هو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، والتوقف عن لوم معاداة السامية والتذرع بها لتجنب مسؤولية أفعاله"، مشيرة في السياق ذاته إلى ما انتهجته حكومته قبل حدوث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 من إجراءات أضعفت من حصانة إسرائيل القانونية، وشن حملة لأعوام ضد النظام القضائي، وتصرفت من دون اعتبار للقانون الدولي في غزة، كما سمحت للمستوطنين بتوسيع عملياتهم.
ويعود فيرتر إلى الوراء قليلاً بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ليقول إنه إذا استمع نتنياهو لنصيحة المدعية العامة الإسرائيلية غالي بهاراف ميارا وفتح تحقيقاً عما حدث "كان من الممكن أن يهيئ إسرائيل للتعامل مع تهديد المحكمة أو حتى إزالته، ولكن نتنياهو بعناده وتكبره المعهودين رفض النصيحة"، معتبراً أنه "بدلاً من اتخاذ إجراءات من شأنها تحسين صورة القضاء الإسرائيلي، سخر أدواته المتاحة لانتقاد المدعية وتشويه سمعتها".
وبعد وصفه ما حدث بأنه "من أحقر وأخطر الظواهر في تاريخ البلاد"، انتقد فيرتر سلوك حكومة بلاده على المستوى الخارجي، والتعامل مع نصائح الحلفاء في ما يتعلق بالحرب في غزة، تاركة وزراء ومسؤولين متطرفين فيها أمثال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، يطلقون التصريحات التي صعبت من موقف تل أبيب القانوني.
وتحت عنوان "تجويع، إبادة، قتل، ملاحقة"، كتبت الصحيفة ذاتها في افتتاحية لها قائلة إن "مذكرتي الاعتقال اللتين أصدرتهما ’الجنائية الدولية‘ تضعان رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين في حضيض أخلاقي غير مسبوق، كدولة يتهم زعماؤها بجرائم خطرة ضد الإنسانية، وبجرائم ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة"، موضحة أن الحكومة الإسرائيلية "فشلت في معركتها الدبلوماسية والقضائية لمنع مذكرتي الاعتقال، التي بدأت بمجرد أن طلب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار أوامر الاعتقال"، معتبرة أن "جهاز القضاء الإسرائيلي لم يفعل شيئاً لاستيضاح الشبهات الجسيمة، والحكومة امتنعت عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية كان من الممكن أن تحقق في ادعاءات المدعي العام لـ’الجنائية الدولية‘".
واستعرضت "هآرتس" التهم الموجهة إلى نتنياهو وغالانت، والمتمثلة في المسؤولية عن "تجويع ملايين الفلسطينيين في غزة، الذين تحولوا إلى نازحين بعد طردهم من منازلهم المدمرة، وحرمانهم من المساعدات الإنسانية والكهرباء والبنزين والغذاء والمياه والدواء ومستلزمات التخدير"، إضافة إلى "الهجمات المتعمدة" على المدنيين، وقتل الأطفال الذين "ماتوا من الجوع والجفاف"، وغير ذلك من "الأعمال اللاإنسانية"، مشيرة إلى أن نتنياهو استمر في العمل في غزة باستخدام الأساليب الموصوفة نفسها في مذكرات الاعتقال، التي لم تفض إلا إلى "تعميق قبضتها على القطاع وتعميق التطهير العرقي لسكانه".
ووفق افتتاحية "هآرتس" فقد كان الأمل معقوداً على أن يثير إعلان المحكمة الجنائية الدولية تساؤلات في إسرائيل حول مدى أخلاقية الحرب الدائرة في غزة، لكن "الحكومة والرأي العام، وبدعم من معظم وسائل الإعلام، يرفضان الاستماع".
وفي افتتاحية صحيفة "لوموند" الفرنسية أشارت إلى أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية شرحوا قرارهم بإصدار أوامر الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت، بأنهم يعتبرون أن الرجلين "عن عمد وعن علم" حرما السكان المدنيين في غزة من العناصر الأساسية لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والمرافق الطبية والوقود والكهرباء. معتبرة أن إجماع معظم ردود الفعل الإسرائيلية الداخلية على معارضة القرار "يعكس مدى تعود إسرائيل الإفلات من العقاب".
هل من مخرج للمأزق الإسرائيلي؟
وبعيد التساؤل عن المسؤولية، خيم عديد من الأسئلة على التغطيات الدولية حول تعاطي إسرائيل مع مذكرات الاعتقال وكذلك مستقبل نتنياهو وغالانت ما بعد مذكرة "الجنائية الدولية"، لا سيما أمام مأزق عدم تمكن الرجلين من السفر بحرية في ظل التزام دول عدة بتنفيذ أوامر الاعتقال.
وكتب إيشان ثارور في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية يقول إن "دعم كثير من حلفاء إسرائيل قرار ’الجنائية الدولية‘ يفاقم من مأزق نتنياهو"، مشيراً إلى أنه وإن كان موضع ترحيب في واشنطن، فعليه أن يفكر (نتنياهو) بجدية في حال سفره إلى الولايات المتحدة في احتمال توقف طائرته اضطرارياً في إحدى الدول الملتزمة قرار المحكمة فيفترض أن يُعتقل هناك.
من جانبها، ووفق صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية فإن إصدار مذكرتي اعتقال في حق نتنياهو وغالانت يمهد الطريق لمحاكمة مسؤولين إسرائيليين آخرين بسبب الحرب في غزة، مشيرة إلى توقع بعض المحللين أن تقلل عديد من الحكومات اتصالاتها مع المسؤولين الإسرائيليين بعد مذكرة الاعتقال التي قد تعزز مقاطعة الأكاديميين والشركات التجارية.
ونقلت "وول ستريت جورنال" عن دبلوماسي إسرائيلي سابق قوله "إن الأمر مختلف هذه المرة، فهو لا يتعلق باحتجاج في جامعة أو أعمال شغب في أمستردام بل بقرار للمحكمة الجنائية الدولية".
وبخلاف موقف نتنياهو حال سفره، أو أعضاء حكومته، تبقى إشكالات أخرى قد تطاول إسرائيل ونظامها القضائي على وقع مذكرات الاعتقال، إذ بحسب غيلي كوهين، مراسل الشؤون السياسية في قناة "كان 11"، "قد توجد لائحة اتهام خطرة ضد النظام القضائي الإسرائيلي الذي دعم نتنياهو وغالانت والقيادة الإسرائيلية، ورافقهما قانونياً طوال المعركة في المحكمة الجنائية الدولية"، مشيراً إلى أن "المحكمة الجنائية رفضت الطعن والادعاءات الإسرائيلية التي تضمنت عدم وجود ولاية قضائية للمحكمة في فلسطين أو مناطق السلطة الفلسطينية، والادعاء الثاني اﻷساس كان عدم تمكين المحاكم الإسرائيلية من التحقيق كما يجب في ما حدث".
في المقابل، وكما هو معتاد طوال الحرب في غزة، من ناحية الدعم الأميركي المطلق للحكومة الإسرائيلية وترقب ساكن البيت الأبيض الجديد، الرئيس المنتخب دونالد ترمب، توجه عدد من التقارير الإسرائيلية والغربية لمطالبة الأخير بالتدخل ودفعه نحو "الانتقام من المحكمة الجنائية"، سواء بفرض عقوبات عليها وأعضائها أو دفع الدول الحليفة إلى عدم الانصياع لقرارها.
ففي افتتاحية لها طالبت صحيفة "نيويورك بوست" الأميركية إدارة البيت الأبيض الجديدة بعدم "الاعتراف بحكم المحكمة ضد نتنياهو وغالانت أبداً"، معتبرة أن الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة "زائفة وعكس الحقيقة تماماً". متهمة المحكمة الجنائية الدولية بأنها جزء من "معاداة السامية المؤسسية"، ويهمها على وجه التحديد قلب الوقائع، وأن الخطوة الأخيرة هي ببساطة "جزء آخر من الحملة الدولية التي يقودها كبار المسؤولين الكارهين لليهود في جميع أنحاء العالم لنزع الشرعية عن إسرائيل".
وبعد انتقادها إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، بما اعتبرته "تمكينه هذه الدعاية من أن تنمو عبر الخنوع لليساريين في الحزب الديمقراطي"، قالت "نيويورك بوست" إن "المحكمة الجنائية الدولية متحيزة مؤسسياً ضد إسرائيل، وهذا يؤكد ضرورة ثبات موقف واشنطن بعدم الاعتراف بالمحكمة". مشددة على أن "الوحيدين الذين يقتلون ويضطهدون ويرتكبون أعمالاً غير إنسانية في غزة هم أفراد حركة ’حماس‘"، وأنهم هم من يستخدمون "سكان غزة دروعاً بشرية"، على حد وصفها.
اختبار "على المحك"
لكن وأمام الانقسام الغربي في شأن مذكرة الاعتقال، وكذلك الانقسام ذاته في التغطية الإعلامية لتبعات القرار وتداعياتها على قادة إسرائيل، يبرز سؤال آخر حول مدى تطبيق مذكرة الاعتقال على أرض الواقع، وهو ما اعتبرته صحف غربية "اختباراً على المحك".
ولا تمتلك المحكمة الجنائية الدولية قوة شرطة خاصة بها لتنفيذ أوامر الاعتقال، وتعتمد في ذلك على الدول الأعضاء فيها، ومن بينها جميع دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان والبرازيل وأستراليا وكندا، والأراضي الفلسطينية والأردن من منطقة الشرق الأوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي قراءته لمذكرات الاعتقال كتب أوين جونز في صحيفة "الغارديان" البريطانية يقول إنه في وقت يعد فيه إصدار مذكرات توقيف من "الجنائية الدولية" "خطوة ضرورية للحفاظ على النظام القانوني الدولي، نظراً إلى حجم الجرائم والأدلة الدامغة التي جمعها الصحافيون الفلسطينيون الذين قتلوا أثناء تغطيتهم الأحداث"، إلا أن أهم ما يجب النظر إليه أن تضع تلك الخطوة "حداً للفظائع التي ترتكبها إسرائيل، وتؤدي إلى مساءلة حقيقية لجميع المذنبين"، وأنها تعني أن "المساءلة تعني أن هذه الأهوال لن تتكرر أبداً".
وأوضح جونز أنه وعلى رغم أن تنفيذ الاعتقالات في حق نتنياهو وغالانت "قد يبدو بعيد المنال"، إذ يجب أن يسافر المتهمون إلى دولة موقعة على نظام روما الأساس المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن أن نتنياهو يتمتع بمستوى من الحصانة في الدول الأجنبية لكونه رئيس حكومة، فإنها خطوة تظهر أن ادعاءات المتهمين بالبراءة يجب أن "تدفن تحت الأنقاض إلى جانب عدد لا يحصى من الأسر الفلسطينية التي ذبحت".
وبعيد توضيحه أن المتهمين "كانوا صريحين في شأن خططهم لارتكاب هذه الجرائم منذ البداية"، كما أن القادة ووسائل الإعلام الغربية التي "ساعدت وشجعت على ارتكاب هذه الفظائع" يدركون ذلك، يذكر جونز، أن الآن هو الوقت لنسب الفضل إلى الشعب الفلسطيني الذي عانى طويلاً، وينقل حديثاً للباحث في مجال حقوق الإنسان ألونسو غورميندي، قائلاً إن ما حصل هو "خاتمة عملية طويلة بدأتها القيادة الفلسطينية في أوائل العقد الأول من القرن الـ21"، وإن إصدار المذكرات قد يمثل تغيراً كبيراً، إذ سيختبر "المعايير المزدوجة والالتزام المشروط بالقانون الدولي من قبل الغرب" على أيدي الجنوب العالمي (وهو مصطلح تقصد فيه عادة الدول النامية).