آخر رحلة قمت بها كانت من شرم الشيخ إلى لندن عبر إسطنبول، واستخدمت خطوط بيغاسوس التركيّة Pegasus، وذلك في العام 2019 الذي قد ينظر إليه البعض نظرة حنين باعتباره العام الذهبي للسفر (قبل كورونا).
وكانت هذه بالنسبة إليّ بالتأكيد الرحلة التي قاسيت بها أكبر عدد مرّات تفتيش في حياتي، بسبب حادث مأساوي وقع قبل خمسة أعوام.
ففي العام 2015، وبعد وقتٍ قليل من إقلاعها من مطار ذاك المنتجع المصري، تحطّمت طائرة ركّاب ميتروجيت Metrojet كانت في طريقها إلى سانت بطرسبيرغ، وفارق الحياة 224 راكباً كانوا على متنها. ويُشير الاعتقاد إلى أنّ قنبلة وضعت في الطائرة بمطار شرم الشيخ، وقد حظرت بريطانيا، نتيجة الأمر، الرحلات المباشرة من ذلك المطار وإليه في الأعوام التي تلت.
وكما سبق وكتبت في ديسمبر (كانون الأوّل) الماضي، بدأت تدابير التفتيش في شرم الشيخ على الطريق عند المفرق المؤدّي إلى المطار، حيث راحت الكلاب المُعاوِنة للشرطة عند الحاجز تتشمّم حقائبي.
وداخل مبنى المطار جرى تدوين تفاصيل جواز سفري بدقّة في سجلٍّ مرّتين، وخضع جهاز الكومبيوتر المحمول لعمليّة مسحٍ شاقّة مرّات عديدة بحثاً عن آثار تعرضه لأي مواد متفجّرة، كما خضعت أنا بنفسي، وفي نقطتين مشرفتين على بعضهما بعضاً، إلى عمليّتي تفتيش يدوية غطت كامل الجسد.
سيكون مهمّاً اليوم، في زمن المباعدة الاجتماعيّة، أن نرى كيف سيُغيّر مطار شرم الشيخ مقاربته للأمن وتدابير التدقيق.
لكن اسمحوا لي هنا أن أركّز على ما حصل بعد ذلك، عندما حطّت طائرتنا في مطار صبيحة كوكجن Sabiha Gokcen (شبيه مطار "غاتويك"، والذي خلفه مطار إسطنبول الجديد البرّاق، المعادل لمطار هيثرو). فما حصل هناك في "صبيحة" يمثّل النقيض التام لحال المباعدة الاجتماعيّة. إذ كانت حطّت في المطار بوقت واحد تقريباً طائرات عديدة، واحتشد ألف شخص منّا نحن المسافرين في مساحة صغيرة مخصّصة لتدابير التفتيش – فغدونا إذّاك، نحن القادمين من شرم الشيخ، أشبه بجرذان محبوسين.
وتعدُّ تلك الجولة الثانيّة من التفتيش، وفق خريطة الطريق المعتمدة من قِبل "الاتحاد الدولي للنقل الجوّي" (إياتا)، غير ضروريّة. والاتّحاد من جهته يدعو إلى أن تقوم دول أكثر في العالم بالاعتراف المتبادل بتدابير التفتيش التي تتّبعها.
فإن سافر المرء من إدنبره (في أسكتلندا) إلى لندن، ومن الأخيرة إلى شيكاغو فإنّه سيعتبر "نظيفاً" من مطار هيثرو، ولن يكون بحاجة لتكبّد المزيد من إهانات تدابير التفتيش مرّة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينطبق الأمر نفسه في الولايات المتّحدة، إذ عندما يخضع المرء مرّة للكشف والتفتيش من قبل الجهاز الوطني لسلامة النقل، فإنّه من الممكن تلافي التفتيش في نقاط الترانزيت اللاحقة. وهذا يعني إن وثقت الدول بمعايير التدقيق المتّبعة في كلّ منها فإنّ التخلّي عن خطوة التدقيق الوسطيّة يصبح منطقيّاً، ويؤدّي الأمر إلى توفير الوقت والجهد، وإلى تقليص نقاط الازدحام في المطارات.
والفكرة بالنسبة إلى المسافرين الواصلين إلى تركيا من مصر، والذين يواصلون السفر على متن رحلة أخرى ويخطّطون للبقاء "داخل المطار"، أن تتمّ معاملتهم كما لو أنّهم خضعوا للتفتيش في تركيا. والأمر نفسه يمكن أن ينطبق بالنسبة إلى المسافرين من تركيا إلى القاهرة، ممن يواصلون سفرهم على متن رحلات لاحقة، كما يجري لمسافرين كثر بين بلدين اثنين. وذلك سيؤدّي إلى تقليص النفقات وتوفير المتاعب وتخفيف مخاطر كوفيد 19، حتّى في زمن تبدو الدول أكثر تفرّقاً من أيّ وقت مضى.
وللاتحاد الدولي للنقل الجوي IATA المزيد من التوصيات لزمن ما بعد فيروس كورونا. ومن هذه التوصيات "أن يُقصر الدخول إلى مبنى المطار على العاملين بالمطار وموظّفي شركات الطيران والمسافرين". وتُعتبر هذه التوصية منطقيّة وفق منظورَيّ جهاز الأمن البيولوجي وجهاز السلامة الجويّة، الأكثر تقليديّة من الأوّل.
لكنّ الأمر في طبيعة الحال لن يناسب حشود "المنتظرين والمرحّبين" (وما يعادلهم من "باكين ومنتحبين" عند المغادرة)، كما لن يتماشى ذلك مع حسابات المطاعم والمقاهي في المطارات التي تعتمد في عملها على هذه الفئة المرافقة للمسافرين.
إلّا أنّه وبالنسبة إلى المسافرين فإنّ المطارات الأقل ازدحاماً تمثّل مسألة إيجابيّة أكيدة. وتتوقّع "إياتا" تطبيق مستويات عدّة من تدابير الحماية، ومنها "وجوب جعل الدخول إلى الطائرات أكثر كفاءة بقدر الإمكان، مع إعادة تصميم نقاط البوّابات، وتطبيق أولويّات الصعود التي تحدّ من الازدحام، وتقليص حجم الأمتعة المحمولة باليد". وتلك كلّها شروط وأوليّات تبدو جيّدة بالنسبة إلينا، مع استثناء محتمل بالنسبة إلى أولئك الذين يتجنّبون تدابير تسجيل الحقائب وتسليمها.
أمّا في الجو، فإنّ الشاغل الرئيس اليوم بالنسبة إلى شركات الطيران فيتمثّل في أن تتمكّن من بيع جميع الأماكن المتوفّرة في الطائرة، بدلاً من الإبقاء على مقاعد فارغة بين المقاعد. ويُشير هذا الأمر إلى "استعاضة المباعدة الاجتماعيّة (إبقاء المقاعد الوسطيّة فارغة) بفرض ارتداء كمامات الوجه على جميع من هم في الطائرة خلال الرحلة، لتقليص خصائص التقارب في المقصورة. "سينبغي على الجميع الجلوس متوجّهين إلى الأمام، وتدفّق الهواء سيكون من السقف إلى الأرض، والمقاعد ستؤمّن فاصلًا بين الحركة إلى الأمام والخلف، وستنطبق على أجهزة تنقية الهواء معايير أجهزة التنقية في المستشفيات والمسارح". وتلقّت قاعدة "أخذ الإذن قبل الذهاب إلى الحمّام"، التي تُطبّقها شركة "راين اير" Ryanair على الركّاب، موافقة IATA. كما دعا الاتحاد الدولي للنقل الجوّي إلى "تقليص تجمّع المسافرين في المقصورة، مثلاً عن طريق حظر أرتال الانتظار أمام أبواب الحمّامات".
وبالنسبة إلى تدابير الوصول تأتي بعض فقرات خريطة الطريق التي أطلقتها إياتا وكأنّها من لائحة أمنيات. إذ تدعو واحدة من تلك الفقرات إلى "تسريع عمليّتي فرز الحقائب وتسليمها، وذلك لإتاحة تطبيق المباعدة الاجتماعيّة عبر تقليص مظاهر التجمّع والاصطفاف". الأمر سيجعل المسافر مستقبلاً نحو البلاد المشمسة يتنعّم بذاك التدبير، حيث ستكون متاعه قابعة بالانتظار وهو يتقدّم بهدوء نحو قاعة استلام الحقائب. وأنا في الواقع لا أرى في أحد من العاملين بالخدمات الأرضيّة ملامح تراخٍ متعمّدة، لكنّي في الوقت عينه لا أرى أيّ فرصة حقيقيّة لتطوير الخدمات وتحسينها من دون استثمارات شاملة في البشر والتجهيزات. غير أنّي في النهاية آمل في حدوث مفاجأة سارة.
© The Independent