كيف كانت توني موريسون لتروي - لو بقيت حية - ذاكرة ما بعد العبودية في زمن الكورونا وهي - أقصد العبودية - لم تنته بعد؟ لاسيما مع الخداع الذي تمارسه الولايات المتحدة تجاه مواطنيها السود بالغالب، وبقية الأقليات، وهي لم تعتذر بعد عن إبادة السكان الأصليين الذين أطلق عليهم عبثاً الهنود الحمر! الخداع هو أن تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر معاكساً، من دون أن يدرك من تخدعه شيئاً، وقبل أن تنكشف الخدعة. بل من دون أن يأبه لرد فعل المخدوع بعد نجاح خدعته. وهذه صفة أساسية من صفات المخادع، سواء مورست الخدعة واستمرت على السذج أو العاجزين - أياً كان مصدر عجزهم – أو المهمشين الذين ليس لهم من صاحب يحميهم أو يدافع عنهم. ماذا كانت لتقول أو تكتب توني موريسن في رواياتها السوداء عن يوميات "العبيد" في السجون الأميركية التي تديرها شركات خاصة كاستثمار مربح لعمالة مجانية ذات مردود وفير في سوق البورصة في وول ستريت؟
كان آخر الأسواق التي فتحت أمام هؤلاء الرأسماليين القدامى والجدد - بعد خصخصة هيئات إدارة السجون في غالبية الولايات - هو تشغيل نزلاء السجون في صنع مستلزمات الوقاية من فيروس كورونا كالكمامات وقوارير التعقيم وألبسة العاملين في القطاع الطبي... لاسيما في مصانع النسيج التي أقيمت على تخوم السجون التي نشأت في مزارع القطن التي كان يعمل فيها السود في زمن العبودية الصريحة. وأيضاً، كانت فرصة سانحة لتشغيلهم في دفن "ضحايا" الفيروس التاجي (كورونا) وحفر آلاف المقابر، لا سيما "في جزيرة هارت آيلاند" التابعة لولاية نيويورك. فقد خلق تفاقم أعداد الوفيات سوقاً جديدة لتشغيل النزلاء بدفن الموتى الذين كانوا يتكدسون بالآلاف في أروقة المستشفيات ومراحيضها والشاحنات المجلدة، ولا يسمح لأهاليهم بتوديعهم الوداع الأخير. وإليهم توكل الأعمال التي لا يرغب أحد في القيام بها، ولكن هم مرغمون. فقط لكونهم سجناء وسجينات يخضعون لشروط العقود التي تبرم بين هذه الشركات ومجالس الولايات. نزلاء سجون غالبيتهم من السود الذين تم تحرير أسلافهم بتعديل دستوري صريح البند 13 العام 1864 إبان الحرب الأهلية ودخل حيز التنفيذ نظرياً بعد موافقة 27 ولاية عام 1866.
والهشاشة التي يتعرض لها السود عبر التمييز العنصري الذي أعقب تحررهم من نير العبودية لم تمكنهم من العيش كأحرار بوصفهم مواطنين أميركيين يملكون نظرياً حقوقاً متساوية مع الأميركيين البيض. من غير أن نحتسب التمييز العنصري الذي يمارس أيضاً تجاه الأقليات الأخرى من الأميركيين في تضخم ل"الأنا البيضاء المتغطرسة" التي تثير الاشمئزاز، على الرغم من كل القوانين - وأنف الدستور- التي شرعت وتشرع للمساواة المواطنية بين عموم الأميركيين.
ذاكرة العبودية المفتوحة
ليس لأن ذاكرة العبودية ستظل تلاحق الأميركيين السود، برأي "موريسون"، بما يعيق تكوين هويتهم الجديدة كأحرار. إذ لا تزال صنوف العذاب ماثلة في أذهانهم وواقعهم، ويتم توارثها عبر الذاكرة الجمعية لجيل وراء جيل، ولم يتم نسيانها. وهذا كان أكثر التحديات التي رأتها موريسون في "ما بعد العبودية" كذاكرة ظلت تسكن الوعي واللاوعي الجمعيين للسود الأميركيين كمكون أصيل للهوية المكتسبة بعد التعديل الـ13 للدستور، ساهم في تهميشهم ولا يزال. وكانت الأحكام الطويلة تطاولهم عند أصغر مخالفة - بخمس سنوات على الأقل - لتورطهم في شجار أو تعاطيهم للماريجوانا أو تجاوز حدود السرعة المسموح بها في تشجيع مسبق من قبل الشركات الخاصة بإدارة السجون لإطالة أمد أحكام السجن، سعياً لتحقيق الربحية من تشغيل السجناء لإنتاج الخوذ والعتاد والمنتوجات العسكرية على أنواعها. ووفر كورونا فرصة جديدة ساهمت في نشر الفيروس بين النزلاء الذين لم يسعفهم الفيروس في تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي في السجون المكتظة، ووصل الأمر أيضاً لتشغيلهم في حملة الملياردير الأميركي للانتخابات الأميركية ميخائيل بلومبيرغ، المرشح الرئاسي السابق عن الحزب الديمقراطي لعام 2020 وعمدة نيويورك الأسبق لفترة 12 عاماً. وفي "مراكز اتصالات هاتفية" تابعة للحملة تم تخصيص الكثير من النزلاء للجلوس ساعات طوالاً أمام الهواتف والتواصل مع الناخبين الأميركيين وتشجيعهم على انتخابه لقاء 16 سنتاً تقريباً في الساعة. وحين تم كشف هذه الفضيحة صرح المرشح الرئاسي أنه لم يكن يعلم- بحسب ما أوردت " ذا إنترسيبت". يحدث هذا ولا يزال في 20 ولاية أميركية على الأقل. قيل إن جهل الأميركيين بواقع السجون- بحسب مدير مدونة- سببه أن وسائل الإعلام الأميركية مملوكة من هؤلاء، أو يملكون أسهماً كبيرة فيها تتيح لهم السيطرة عليها.
ارباح طائلة
قبل كورونا كانت الخصخصة التي اعتمدتها مجالس الولايات لإدارة مصلحة السجون والمؤسسات الإصلاحية "العقابية" تدر أرباحاً جيدة على خزينة الولاية، وحين أدرك هؤلاء المبالغ الطائلة التي تحصل عليها الشركات من تشغيل النزلاء، وفي ظل رقابة ضعيفة من مجلس الولاية، تفتحت شهية بعض مجالس الولايات على إدارة هذه السجون بنفسها، لما تحققه هذه السياسة من أرباح طائلة تشكل ما نسبته 10 في المئة من اقتصاديات الصناعات العسكرية والعمل في مزارع القطن- التي كانت أحد الأنشطة الإنتاجية التي يعمل فيها العبيد لصالح ملاكهم في زمن العبودية.
توني موريسون التي غادرتنا منذ وقت قريب لم يتسن لها أن تشهد "ما قد تراه" عبثية مقولتها عن ذاكرة ما بعد العبودية، فيما العبودية العارية ما زالت تجتر ذاتها في استعباد نزلاء ونزيلات السجون كعمالة مجانية مربحة في أكبر خرق للدستور الأميركي الذي ألغى العبودية كمنظومة اقتصادية اجتماعية، لكنه لم يتمكن من لجم ثقافة سائدة تحط من شأن الأميركيين السود وتمعن في استغلالهم، على الرغم من إلغاء العبودية، بوصفهم عبيداً وبمنزلة أدنى سمحت بممارسة التمييز العنصري حيالهم وهيأت، عن عمد أو غير عمد أو وعي، تربة خصبة سمحت بإعادة إنتاج العبودية كجزء من اقتصاديات الإنتاج وتحويل نزلاء السجون، وغالبيتهم من السود المهمشين بالعنصرية والفقر وعدم توفير فرص متكافئة لهم على الرغم من بعض الاستثناءات النخبوية، إلى مجرد عبيد، بكل ما تحمله "العبودية" من معنى.
الوجدان الجمعي
لم يكفِ ما أنتجته توني موريسون وغيرها من أدب روائي، أقله بحسب ظنها، في إيقاظ ذاكرة العبودية تمهيداً لنسيانها في الوجدان الجمعي للأميركيين السود، لا سيما النساء، لأن العبودية استمرت في الواقع وفي الثقافة السائدة. وعلى الرغم من روايتها "المحبوبة" التي تجسد فيها آلام العبيد لا سيما النساء اللواتي يدفعن - برأيها – أثماناً مضاعفة في العبودية لكونهن نساء، ودفعت "سيثي" الشخصية الرئيسية إلى خيار قتل "طفلتها" بعد تعرضها لاغتصاب الرجل "لأبيض" الذي يمتلكها، كي لا تختبر ابنتها ما عاشته هي "كأمة" في تجسيد مطلق للحب الأمومي.
تعددت الأشكال والتسميات، لكن العبودية بوصفها تحطيماً وتنكيلاً جسدياً ومعنوياً يكسر الكرامة الإنسانية، تتخذ أشكالاً أخرى من الاستعباد لا تقف عند حدود "الربحية الاقتصادية كمنظومة" بل تتعداها إلى صنوف أخرى غير مباشرة لكنها تستهدف التنكيل الجسدي والمعنوي، كاستعباد النساء بحسب وصف الفيلسوف الإنجليزي "جون ستيوارت ميل" لما تنتجه العادات والثقافة الاجتماعية السائدة من اضطهاد يسمح باستغلالهن والتنكيل بهن "معنوياً وجسدياً وجنسياً واقتصادياً واجتماعياً" ليتركن ضعفيات يسهل استغلالهن، لا سيما عبر مؤسسة الزواج التي جرى تقديسها بما يسمح بهذا الاستغلال الذي يختلف عن مضمون "العبودية" شكلاً، وإن جرى تلطيفه من قبل الكهنة ورجال الدين بمختلف عقائدهم، وبالترويج لمفاهيم عن الحب والزواج زينت بمبالغات كانت ستاراً "للخداع" وترويضاً لإرادة النساء والمخيلة الأنثوية بمنتجات ثقافية في الأدب والفن والإعلام على يد مثقفين كبار. وحتى عند مثقفات وكاتبات أعدن إنتاج وترويج هذه المفاهيم الذكورية في منتجاتهن الثقافية والفكرية والأدبية، إن في الشكل البنيوي للنصوص والمنتجات، أم باللغة والمحتوى المتوارث للمفاهيم والممارسات الرومانسية "المضللة"، سواء كان ذلك في "حب الحبيب أو الأب أو الأم أو الوطن...".
وهذه المنتجات أعاقت، على مر التاريخ ، كسر سلسلة الاستعباد التي تحيط بالنساء وساهمت في استغلالهن - ولا تزال- على الرغم من كل التقدم الذي أحرزته الحركات النسوية في شتى الميادين، وتمكن ملايين النساء في العالم من خوض غمار الاستقلال الاقتصادي ومراكز صنع القرار، و"إعلان حقوق الإنسان" والاتفاقيات التي نتجت منها وأهمها "اتفاقية مناهضة التمييز ضد النساء"، فإن البشرية لا تزال تسكت عن مظالم وانتهاكات لا تقل شأناً بأضرارها عن "نظام العبودية" كإرث متوارث.
جعبة البشرية
في جعبة البشرية الكثير الكثير من المظالم والجرائم ضد الإنسانية التي بوسعها أن تتأملها كي نراجع أنفسنا... أفراداً وجماعات بوصفنا مخلوقات اجتماعية تفرض الفطرة علينا أن نتحد ونتضامن، فيما نحن قابعون في الحجر المنزلي بمواجهة فيروس تاجي غير مرئي، يتربع على عرش الوجود ساخراً منا ومهدداً البشرية - ربما- بالزوال. غير عنصري، ولا يميز بين فقير وغني، بين زعيم سياسي أو رئيس وإنسان عادي، بين أسود وأبيض، بين فلسطيني ومستوطن إسرائيلي، بين ديمقراطي وحاكم مستبد، إلى آخر "البين بين". وقرر – ربما – أن يحاسب الجميع وعلى الطريقة اللبنانية "كلن يعني كلن".
نحتاج للكثير من الحب ومقدار معقول من "التواضع" وكمية أقل من "الخداع" لنتمكن من هزم هذا "الفيروس المخادع" المتحول والمراوغ كأي سياسي فاسد أو مثقف(ة) يختبئ وراء زيف الكلمات أو فجاجتها لننتقل إلى عالم جديد يشفينا من خطايانا، عوض إرسال السود أو المسنين أو الآلاف المؤلفة من البشر إلى الموت.
إن كان للمثقفين من دور، في هذه الأيام العصيبة، ليقوموا به، أقله طرح أسئلة مستقبل البشرية الغامض الذي لا يزال يئن تحت ركام المستعبدين والمستعبدات، على الرغم من أنف موريسون وأوستن وكامو وغيرهم.