تفاوتت علاقة البشر والطيور بين حرب وسلام. فهناك الطيور المغرّدة التي يهوى الناس زقزقتها ويحاولون حبسها في أقفاص داخل بيوتهم، أو يتمتعون بوجودها في الطبيعة فيكتبون فيها شعراً ويمتدحون ألوانها وطيرانها وحريتها. وهناك الطيور المدجّنة أو البرية الصالحة للأكل بعد صيدها، ثم الطيور الكاسرة التي يحاولون الابتعاد عنها أو طردها من محيطهم. لكن حين يتعلّق الأمر بالحفاظ على الغلال المزروعة تنطلق الحرب بين البشر والطير، أما سلاح هذه الحرب فقد كان منذ البدء "الفزّاعة"، كما تُسمى في بلاد الشام أو "المخيال" في دول الخليج، أو "خيال مآتا" في اللهجة المصرية وهي كلمة فرعونية الأصل، أو "خراعة الخضرة" في بعض لهجات العراق.
أصل الفزّاعة
يقول الخبراء في الحضارة الفرعونية إن الإنسان لم يكتشف جديداً من بعد الحضارة الفرعونية إلا منذ بدايات القرن الثامن عشر. والفزّاعة في الأصل فرعونية، وقد ذكرت في النصوص الهيروغليفية، وهناك برديات شرحت كيف تم استخدامها من أجل إخافة رفوف طيور السلوى والسمانى من أجل اصطيادها، حيث تُنصب شبكة من خيوط رقيقة ثم تتم إخافة الأسراب لتعلق في الشبكة فتكون مؤونة من اللحم للمزارعين. ومن هذه الطريقة بدأ استخدام الفزّاعة في الحقول لإخافة الطيور ومنعها من أكل محاصيل الحبوب وغيرها من المزروعات.
وانتقلت الفزّاعة إلى الإغريق من الفراعنة، وكان هؤلاء قد نقلوا عن المصريين القدماء الكثير من علومهم وتقنياتهم. لكن الفزّاعة الإغريقية كانت عبارة عن خشب منحوت على شكل شخصية أسطورية تدعى "بريابوس"، وكان قبيح الشكل ويدهنونه بالأحمر ويضعون في يده الهراوة لمزيد من التخويف.
المزارعون اليابانيون قاموا بدورهم بحماية حقول الأرز. فكانوا ينصبون أعمدة من القصب أو الخيزران ويرفعون فوقها الأقمشة والقش ويضعون الأسماك والحيوانات الميتة كي تصدر روائح نتنة تُبعد الطيور. وكانوا يسمون فزاعتهم "كاكاشي"، أي ذات الرائحة النتنة. ومع مرور الزمن راحوا يصنعون الفزّاعة على شكل إنسان، وهي عبارة عن خشبة محشوة بالقش وعلى رأسها قبعة، وبقيت تحمل الاسم القديم نفسه على الرغم من أنها فقدت رائحتها الكريهة.
في العصور الوسطى الأوروبية والأميركية
مزارعو العصور الوسطى في أوروبا لم يفطنوا للفزّاعة المصنوعة يدوياً، فما كان عليهم سوى استئجار الصبية الصغار لتخويف الطيور، وكان هؤلاء يسمون "مخوّفي الطيور"، (SCARCROW)، وهذا ما أصبح عليه اسم الفزّاعة الخشبية الأوروبية في ما بعد. وكان هؤلاء الصبية يحملون كيساً مليئاً بالحجارة ويدورون في الحقول لرمي الطيور بها. ثم حل الطاعون عام 1348، فانخفض عدد مخوّفي الطيور من الصبية بشكل كبير، فكان لا بد من اختراع ما يشبه هؤلاء الصبية أي أكياس محشوّة بالقش ومرسومة عليها وجوه تثير الخوف في نفس الطائر.
سكان أميركا الأصليون، هم أيضاً كانت فزاعتهم من لحم ودم. فيستأجر المزارع رجلاً بالغاً يجلس على منصة عالية في الحقل، ثم يروح يصرخ ويلوّح بالقماش كلما رأى الغربان مقبلة نحو حقول القمح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع الأوروبيون القادمون للاستيطان في أميركا الشمالية منوال سابقيهم من السكان الأصليين. فكانوا يداومون طيلة النهار في الحقول من أجل إخافة الطير، وكانت أدوار الحراسة تتناوب على جميع أفراد العائلة، ولم تكن مشكلتهم الطيور فقط، بل الثعالب التي كانت تحفر التراب لانتشال الأسماك التي كان يضعها المزارعون لتغذية التربة.
إلا أن بعض المستوطنين الجدد جلبوا معهم فكرة فزّاعاتهم من أوروبا. فصنع المهاجرون الألمان فزّاعة على شكل رجل سمّوه "بوتسامون"، أو "بوغيمان"، وكان عبارة عن خشبتين متصالبتين، ورأسه مقشّة، ويلبسونه ثياباً رثّة أكمامها طويلة تتطاير مع الهواء لتخيف الطيور، ويلفون رقبته بمنديل طويل يلاعبه الهواء أيضاً. ومن غرابة المشهد كان هؤلاء المهاجرون الألمان يضعون فزاعتين متقاربتين وكأنهما تتحادثان لجعل المشهد أكثر واقعية، بل وقد صنعوا للبوغيمان فزّاعة أنثى هي زوجته سميت "بوتسفراو" (بالألمانية) أو "بوغيوايف" (بالإنجليزية). وجعلا لهما فزّاعة صغيرة تقف بينهما وهي ابنهما. بالطبع قد تكون كل هذه الابتكارات على سبيل التسلية في سهول أميركا الواسعة والمنعزلة.
الفزّاعة والمبيدات والحرب الصينية
لم تكفِ الفزّاعات الصينيين لحماية محاصيلهم، فأعلنوها حرباً على طيور الدوري عام 1958 إبان الثورة الثقافية "الماوية". استندت الحرب ببساطة إلى أن طير الدوري الواحد يأكل سنوياً ما معدّله 4 أرطال من القمح والرز، وفي الوقت نفسه يزداد تعداد الشعب الصيني باطراد وبالتالي حاجته إلى كل ما يسدّ رمقه. إذاً لا لمشاركة الدوري والجرذان والفئران في طعامهم.
شارك كل الصينيين في هذه الحرب من العمال والفلاحين والتلاميذ، وكلّ منهم قام بدور خاص به. فنزلوا جميعاً إلى الشوارع وانطلقوا يطرقون الطناجر ويلوّحون بالرايات الحمراء، لإخافة الطيور وإخراجها من أعشاشها. وكانت حصيلة تلك الحرب الضارية ما يقارب العشرة ملايين من الطيور، من دون تعداد الحيوانات القارضة الصغيرة.
لكن هذه الحرب سرعان ما انتهت حينما اكتشف علماء صينيون بعد تشريح الطيور والقوارض، أن ثلثي ما في أمعائها هو من الحشرات التي تضرّ بالمزروعات والثلث الباقي فقط هو من طعام البشر. وهذا ما دفّع الصين أثماناً غالية واضطرها لاستخدام المبيدات الكيماوية لحماية مزروعاتها في الفترة اللاحقة.
في بلادنا وفي معظم دول العالم العربي ودول العالم الثالث، لا تزال الفزّاعة قيد الاستخدام ولم تُحلّ على التقاعد على الرغم من التطوّر التقني والميكانيكي وازدهار استخدام المبيدات. فالفزّاعة تحوّلت إلى رمز تراثي أو لنقل من عادات وتقاليد المزارعين وكزينة في الحقول، وهي وسيلة غير مكلفة لا تزال تسهم في رسم الحدود بين الطيور والمحاصيل حتى اليوم. وفي بلاد الشام حين يبذر الفلاحون أرضهم، يرشون مقابل كلّ مدّ من الحبوب، نصفاً آخر إضافياً للطيور، يسمى "سهم الدواري"، وهذا من إحدى أخلاقيات احترام الطبيعة وعناصرها في هذه البلاد.