"دخيلك بردانة يا أختي، غطيني"... هذا آخر ما قالته منال عاصي لشقيقتها قبل أن تلتحق بقافلة ضحايا العنف المنزلي في لبنان. ومن هذه الوثيقة "الشفهية"، انطلقت الكاتبة الدرامية كلوديا مارشيليان لصوغ مسلسلها "بردانة أنا".
ومن القصة ذاتها، استوحت الكاتبة سيناريو الجريمة وأدواتها، لتُقدّم عملاً واقعياً يخرج من صميم الحياة اللبنانية المتخمة بحكايات نساءٍ قُتلن على أيدي أزواجهن. لكنّ المسلسل الذي حاول أن يُقلّد الواقع، لم يتمكّن من نقله بحرفيةٍ على الشاشة، بل ظلّ عالقاً عند قشور فكرة التعنيف من دون مقاربة جديّة للقضية. وبدلاً من الغوص في ثنائية (الضحية والقاتل)، تنحرف الأحداث عن مسارها "المتوقّع" لتُصوّر قصة حبٍّ بين شقيقة الضحية ورجل الأمن.
يبدأ المسلسل بقصّة حنين (كارين رزق الله) المقتولة على يد زوجٍ مجرم (بديع أبو شقرا)، هو أيضاً ضحيّة عنف أسري. يخرج القاتل الى الحرية بعد شهرين فقط من جريمته، ما يُشير الى استهتار القضاء وإجحافه إزاء قضايا العنف الأسري. وهذه إشارة مهمة الى تساهل القوانين مع الرجل المُعنّف الذي غالباً ما يتخّذ من كلمة "الشرف" ذريعةً يُبرّر بها جريمته الفاضحة. وليست معاناة حنين وأهلها سوى عيّنة عن معاناة النساء وأهاليهن الخاضعين لسلطات قضائية تتساهل مع قضايا التعنيف والمرأة.
أراد المسلسل أن يفتح الباب على قضية حقيقية ومعقدة وراهنة، لكنّ مجريات الأحداث قادت العمل نحو مسارٍ منفصل عن الفكرة الجوهرية، بحيث احتلّت قصة حب دانيا (كارين رزق الله) والضابط زياد (وسام حنّا) المساحة الأكبر من المسلسل. ومثلما تظهر حنين (المقتولة) كطيفٍ بعيد في الحلقة الأخيرة التي تنتهي بزواج دانيا من زياد، تبقى قضية التعنيف طيفاً في مسلسلٍ عاطفي لم يخرج عن درب السهل والسائد في الدراما اللبنانية.
البعد الاجتماعي
في الجزء الثاني من "بردانة أنا" (عُرض في رمضان على قناة "أم تي في")، تضيع قضية التعنيف في زحمة قضايا أخرى يمرّ عليها المسلسل أفقياً، من زواج القاصرات الى الخيانة الزوجية والإدمان والعقد النفسية... ثمّ نكتشف أنّ الزوج القاتل كان مغرماً بشقيقة زوجته التوأم (وهي نسخة طبق الأصل عنها)، ليغدو الصراع بين الأخت والزوج المجرم بمثابة صراعٍ عاطفي، لا أكثر.
ولم يلعب الإخراج دوراً في خلق مناخ جديد يُلائم القضية، بحيث افتقر العمل إلى عناصر تقنية كان يمكن أن تُرسم من خلالها صورةً أوضح للمجتمع الذي خرجت منه الجريمة. فلم يُصوّر المخرج الجديد في المهنة وغير المتخصص فيها (نديم مهنا) تفاصيل المكان وزواريبه، على غرار ما تعتمده السينما التسجيلية في تصوير القصص الواقعية، ولم يهتم برسم البعد السوسيولوجي للمكان وشخصياته، علما أن واقعية الحدث الرئيس يفترض بحثاً أكبر في هذا الجانب. ففي مشهد الجنازة مثلا، يصعب التكهّن بأنّ الضحية مُسلمة، كما هو مفترض في المسلسل، لأنّ مراسم التشييع والعبارات المكتوبة على اليافطات لا تعكس إطلاقا خصوصية المكان الذي تنتمي اليه الضحية.
وفي سياقٍ آخر، تظهر حنين، الزوجة المغدورة، كإمرأة محجبة من دون أي مبرّر درامي لحجابها. أمها، شقيقتها، حماتها، جاراتها، نساء الحيّ الذي تقطنه... جميعهنّ لسن محجبات، لماذا ترتديه إذا؟. هل هو دلالة على ضعف الضحية وخضوعها، انطلاقاً من صورةٍ نمطية يُلصقها بعضهم بالفتاة المحجبة؟ أم أنّه ذريعة كانت تستخدمها الضحية لإخفاء آثار التعذيب كما جاء على لسان أمها؟ وهل يُمكن المنديل أن يُخفي أصلا الكدمات التي تبرز أصلا على الوجه؟ وكم كان مسيئاً للمسلسل عرض صورة للضحية بعد قتلها، غير واقعية، تركز على وجهها جمالياً وكأنها غير معنفة، وقد وضعتها الاخت التوأم على الشرفة وكأنما لتستعرض الممثلة كارين نفسها .
ولأنّ المحجبة نادرة الظهور في الدراما اللبنانية، فإن التوقف عند حجاب حنين مُستحبّ من الناحية النقدية، وإن كانت أبعاده غير واضحة في العمل.
مشاهد التعنيف
أما اهتمام المخرج فانصبّ على تصوير مشاهد التعنيف (لقطات قريبة، تجميد مفاجئ للحركة، تأثيرات صوتية). وقد استطاعت هذه المشاهد أن تنقل الى حد ما قسوة العنف الذي يمكن أن تصادفه النساء خلف جدران منازلهن. ولكن، في الجزء الأكبر من المَشَاهد، استخدم المخرج كادرات ولقطات لا تحمل أي لعبة فنية، مثل اللقطات القريبة جداُ في غير مكانها (اليدين أثناء مصافحة عادية)، أو اللقطة العامة (الطويلة جداً) أثناء حديث عابر بين شخصيتين.
ولم تقتصر المشاهد العنيفة في المسلسل على ضرب باسم لزوجته القتيلة، وإنما أيضاً في استعادة طفولة باسم المعذبة مع أبٍ مدمنٍ يضرب أمه ليل نهار. وفي هذا الاسترجاع الزمني، محاولة لتأكيد فكرة توالد العنف وخطورته في خلق جيل أكثر عنفاً وخطراً على المجتمع. وعلى أهمية هذه الملاحظة، اعتبرت بعض النسويات أنّ العمل يُقدّم تبريرا للمجرم من خلال تقديمه كضحية لمُعنّف آخر.
وأمام هذا الجدل الذي أثاره "بردانة أنا"، يبقى المسلسل من الأعمال التي حظيت بنسب مشاهدة جيدة، وقد يكون خطوة تمهيدية على درب الدراما اللبنانية المرتكزة أساسا على الواقع.