أحسستُ بالتردّد عندما تلقيتُ أول دعوة إلى الخروج من المنزل. فبعد نحو أسبوع من إعلان رئيس الوزراء بوريس جونسون عن التخفيف الأولي لإجراءات الإغلاق، سألني أحد الأصدقاء عمّا إذا كنت أرغب في اللقاء معه، مستفسراً منّي بحرص من خلال سؤاله: "هل لديكِ أي مانع في القيام بالتنزّه؟"
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد وضع يوم الأحد في العاشر من مايو (أيار) الجاري، خريطة طريق للحكومة للتخفيف ممّا سمّاه "قيوداً على الحرية لم نشهد مثلها من قبل خلال فترات السلام أو الحروب". وبات يُسمح الآن للناس في إنجلترا، في إطار المرحلة الأولى من تخفيف التدابير، بقضاء وقتٍ في الهواء الطلق مع شخص آخر خارج المنزل، إذا حافظا على الإرشادات المتعلّقة بإبقاء مسافة مترين من التباعد الاجتماعي. وتمّ في المقابل استبدال شعار الحكومة "ابقوا في المنزل" برسالة: "ابقوا في حال تأهّب".
وقد رأينا خلال موجة الحرّ التي طغت في عطلة نهاية الأسبوع الطويلة أواخر مايو، أشخاصاً يتدفّقون من جميع أنحاء البلاد إلى الشواطئ، فيما غصّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور اللقاءات ما بين الأصدقاء في ظلّ الحرص على مسافة التباعد في ما بينهم. لكن ما زالت هناك فئة من المجتمع يتردّد أفرادها في الاستفادة من حريّاتهم الجديدة. وبعد مرور شهرين على الإغلاق، فوجئتُ عندما أصبح الوقت مؤاتياً لرؤية أصدقائي، بأنني أنا أيضاً أحد هؤلاء الأشخاص.
إيما ستيفنز* من مقاطعة ساري، البالغة من العمر 31 سنة، تشعر بالشيء نفسه. فقد قالت لي: "بعدما عملتُ على ترسيخ فكرة تجنّب مقابلة أيّ شخص في ذهني على مدى أسابيع عدّة، أجد من الصعوبة الآن تغييرها، إذ يساورني بعض القلق حيال ما إذا كان سيستمر أصدقائي في التزام مسافةٍ آمنة خلال لقائنا، لأنهم أقلّ تردّداً منّي حيال رؤية بعضنا بعضاً".
وقد تبيّن من نتائج استطلاع أجرته شركة "إيبسوس موري" أخيراً أن هناك عدداً كبيراً من البريطانيّين ما زالوا متردّدين حيال معاودة الحياة الطبيعية بعد الإغلاق، إذ يواصل نحو 33 في المئة من المشاركين في الاستطلاع التشكيك في فكرة لقاء الأصدقاء والعائلة خارج منازلهم.
ويصف البروفيسور السير ديفيد شبيغلهالتر، الاختصاصي في الإحصاء في جامعة كامبريدج، إحجام الناس عن العودة إلى طبيعتهم، بأنه دليلٌ على أن رسالة الحكومة البريطانية بوجوب البقاء في المنزل كانت "ناجحة للغاية". ورأى في حديث أجراه معه برنامج "اليوم" Today الذي تبثّه إذاعة القناة الرابعة (في هيئة الإذاعة البريطانية) Radio 4 اليوم، أن تنظيم حملة عامّة لإقناع الناس بالخروج، قد يكون ضرورياً بمجرّد رفع الإغلاق كلّياً.
قد لا يكون الأمر مفاجئاً تماماً. فالدكتورة روز أغدامي، الاختصاصية المعتمدة في علم النفس والمرونة النفسية، تعتقد أن السبب في تردّدنا يكمن إلى حدّ كبير في عملية تكوين عادة ما. وتوضح أن الإنسان يستغرق ما بين 21 و 30 يوماً في معدّل وسطي، في تشكيل عادة جديدة، وأنه بعد شهرين من الإغلاق، فإن فكرة أننا نكون أكثر أماناً في المنزل أصبحت راسخة بشكل بارز في حياتنا، ما يجعل من الصعب التكيّف مع غير ذلك من الناحية الذهنية. وتقول لاندبندنت إنه "إذا استمعنا إلى الرسالة نفسها بشكل ثابت على مدى فترة من الزمن، فمن المرجّح أن نبدأ على الأقل في تصديقها، وهي إستراتيجية معروفة". وتضيف: "يتعيّن علينا أن نفكّك تدريجيّاً ما اكتسبناه من هذه العادات الجديدة، وأن نبدأ في إعادة إرساء عاداتنا القديمة".
لكن القلق الذي يدفع ببعض الناس إلى الإحجام عن العودة إلى الحياة الاجتماعية ليس بلا أساس على الإطلاق. وفي ظلّ عدم وجود لقاح بعد للفيروس، ومع علامات الاستفهام التي تُرسم حول الأجسام المضادة والمناعة، فإن أفضل طريقة لعدم الإصابة بعدوى "كوفيد - 19" تكون في تجنّب الأفراد الآخرين قدر المستطاع. وفيما يتم تذكيرنا يوميّاً بمعدّلات الإصابة، ومع تجاوز عدد الوفيات في المملكة المتّحدة بشكل مذهل عتبة الـ 40 ألف حالة (ساعة إعداد المقال) - ما يجعل بريطانيا إحدى أكثر البلدان تضرّراً بالأزمة - فإن فيروس "كورونا" يستوطن على نحو واسع في وعينا.
الدكتورة هاميرا رياز الطبيبة المعتمدة في علم النفس السريري، توضح أن "الإغلاق أصبح مرادفاً للسلامة" وأن استجابتنا لتخفيف الإغلاق ستعتمد إلى حدّ كبير على نهجنا الفردي في شأن خوض المخاطرة. وتقول إن "الأشخاص الأكثر استعداداً للمخاطرة بيننا، سيرحّبون بالحرّيات التي تمّ إقرارها أخيراً، في حين أن أولئك الذين هم أشدّ عزوفاً عن ركوب المجازفة، سيشعرون بقلقٍ حيال مسألة الانتقال إلى "الوضع الطبيعي الجديد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرسائل المتضاربة التي يتلقّاها الناس (من الحكومة) لا تشكّل عاملاً مساعداً هي الأخرى. فقد أحيطت إستراتيجية الاتصالات التي يتّبعها رئيس الوزراء البريطاني باتهامات تتعلّق بالغموض، بحيث أشارت تقارير عدّة إلى عدم وضوح تفاصيل شعار "ابقوا في حال تأهب". ويضاف ذلك إلى حقيقة أن الحكومات الإقليمية لم تحذُ حذو إنجلترا في تخفيف إجراءات العزل، بحيث أبقت كلٌّ من إسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية على تدابير الإغلاق الأكثر صرامة. وفيما تصرّ الوزيرة الأولى في إسكتلندا نيكولا ستورجون على توجيه رسائل "ابقوا في المنزل"، وخوض منازعات في شأن فاعلية ارتداء أقنعة الوجه، من غير المستغرب أن يرغب البعض في البقاء أكثر يقظة.
وتقول إيما ستيفنز إن "طريقة تعامل الحكومة مع الفيروس جعلتني أكافح من أجل الوثوق بالنصيحة المقدّمة، والشعور بأن اللقاء مع الناس هو آمن". هذه المرأة كانت تفضّل أن يبقى الإغلاق مدة ثلاثة أسابيع أخرى حتى ينخفض معدّل انتقال العدوى. وتصف شعورها قائلةً إن "ما أقلقني هو أن التأخّر في الإغلاق وفي تحصين المملكة المتّحدة، كانا أقلّ صرامةً ممّا حصل في بلدان الأخرى. ومن ثمّ يأتي رفع الإغلاق الآن في وقتٍ يتزايد فيه عدد حالات الوفاة بشكلٍ مروّع... ليجعلني كلّ ذلك في حال توتر".
لورين كوشمان امرأةٌ من نوتنغهام تبلغ من العمر 30 سنة، لا تثق من جهتها كثيراً بالرسائل. وتقول "إذا انخفض المؤشر R (وهو معدّل التكاثر الأساسي للفيروس)، فسأشعر براحة أكبر. لكن لا يزال هناك حديث عن خطر حدوث موجة ثانية للوباء. إن الإعلان الكبير في ذاك الأسبوع كان محيّراً للغاية، إذ قيل: "هناك خطر لكن لا يوجد خطر، إن المؤشّر يتراجع لكنه لا ينخفض"، فما الذي يحدث؟".
بالنسبة إلى أشخاص آخرين، فإن ترتيبات الالتقاء بالأصدقاء أو بأفراد العائلة والحفاظ على مسافة مترين، تجعل من المبادرة تجربة مرهقة أكثر منها ممتعة. فكاتي جاكسون البالغة من العمر 39 سنة وهي من جنوب يوركشير، التي بدأت ترى والدتها وصديقين آخرين بشكل فردي، للتنزّه في وضع تباعد اجتماعي، ترى أن من الصعب الشعور بالراحة. وتقول: "لا أتوانى عن مواصلة التفكير في مسافة المترين. فإذا وصلت إلى طريق أضيق، عليك أن تتذكري وجوب أن يسير الفرد بعد الآخر، وهذا يؤثر حقاً في التجربة". وترى أن إضافة ما تقدّم إلى المشاعر التي يخلّفها عدم الاقتراب من العائلة، كلّ ذلك يجعلها تجد صعوبة كبيرة في التكيّف. وتقول في وصفها: "أنا مقرّبة جداً من أمّي، فرؤيتها وعدم التمكّن من معانقتها هو أمر صعب للغاية يدفعك إلى البكاء".
وتتوقّع الدكتورة أغدامي الخبيرة في المرونة النفسية أن يصبح الاختلاط بالناس المبني على التباعد الاجتماعي أشبه بمهمة. وتقول: "إنه ليس لقاء اجتماعيّاً مريحاً كما تعوّدناه - علينا أن نرتدي الأقنعة ونحمل معقّم اليدين ونحافظ على مسافة تباعد - وهذا يتعارض مع توقّعاتنا الطبيعية لما هو مريح. سمعتُ كثيراً من الأفراد يقولون إنهم يشعرون بإرهاق بعدما باتوا يلتقون الآن بالناس".
أما بالنسبة إلى الآخرين فهناك بطبيعة الحال المزيد على المحك. فقد نُصح الأفراد المصنّفون في المجموعة الأشدّ تعرّضاً للخطر، بمواصلة الاحتماء حتى الثلاثين من يونيو (حزيران) المقبل. لكن فئة الأشخاص ذوي المخاطر المعتدلة - الذين يعانون من مرض السكّري والربو، والذين يتناولون أدوية محدّدة وآخرون غيرهم - فلم يقدم إليهم أي نصيحة واضحة من الحكومة. وبالنسبة إلى هؤلاء، يمكن أن يكون الاختلاط الاجتماعي تجربة مثيرة للأعصاب.
ناتالي ابنة الأربع والثلاثين سنة من غرب لندن المصابة بالربو، تقول لـ "للاندبندنت": "لم أشعر في الحقيقة أبداً بالضعف في المجتمع من قبل. إن داء الربو لديّ مضبوط بشكل جيّد، لكني أشعر به كلّ يوم، وفي كلّ شتاء أصاب بالعدوى في الصدر، لذا إني أعرف تماماً ما هو الشعور بصعوبة التنفس". البقاء في حال من الحجز كان له تأثير سلبي في الصحّة الذهنية لناتالي أكثر من معظم الناس، لكنها لا تخطّط للقاء أيّ شخص من أجل القيام بنشاطٍ في ظلّ تباعد اجتماعي حتى الآن. وتقول: "أودّ بطبيعة الحال أن التقي بأصدقائي، لكنني لا أثق في ما إذا كان أيّ شخص يتّبع هو أيضاً البروتوكولات بصرامة كما أقوم أنا بذلك. إن من شأن الإهمال أن يودي بحياتك".
النساء الحوامل أيضاً هنّ ضمن مجموعة ذوي المخاطر المعتدلة، على الرغم من أنه تم تحديدهن ضمن هذه الفئة "كإجراء وقائي" بحسب هيئة "خدمات الصحة الوطنية" NHS. ناتالي كوريريل من مانشستر الكبرى، هي في الثامنة والعشرين من العمر، وفي الأسبوع الحادي والثلاثين من حملها، تعتقد أن "التباعد الاجتماعي لا يستحق المخاطرة إلى حين تضع الأم مولودها". أخبرتني أنها قابلت والدتها خلال نزهة في الهواء الطلق، لكنها لا تزال "تتوخّى أقصى درجات الحيطة".
وتقول: "لا أريد المخاطرة كي لا أضطر إلى مواجهة ولادة مبكرة أو حمل الفيروس خلال فترة ولادتي للطفل. وبالإضافة إلى ذلك، إذا جاءت نتائج اختبار شريكي إيجابية، فلن يُسمح له بوجوده إلى جانبي أثناء ولادة طفلنا الأول، وبالتالي سأضطر إلى أن أعيش تلك اللحظات بمفردي". وتعتزم ناتالي مواصلة تجنّب ارتياد المتاجر ومخالطة الناس إلى أن يتّجه معدل انتشار العدوى نحو الانخفاض بشكل كبير.
وفي مقابل التحفّظات التي يبديها بعض الأشخاص، يشير مارك وولهاوس، أستاذ الأمراض المعدية في جامعة إدنبرة إلى أن "انتقال العدوى في الهواء الطلق هو نادر للغاية". ويحرص على الإشارة إلى أن التغيير في قواعد الاختلاط الاجتماعي ليس بمثابة نتيجة لتغيير في الحقائق، بل هو استجابة لمزيد من الأدلّة العلمية التي تؤكّد ما كان يعتقد به العلماء. ويقول إن "الخروج إلى الهواء الطلق آمنٌ الآن لأنه كان دائماً آمناً. لكن التوصّل إلى قرارٍ نهائي استغرق بعض الوقت للتأكّد من وجود دليلٍ قاطع على ذلك. بالطبع، لا يمكن لأحد أن يجزم بأن "الخطر معدوم" لكن مقابلة شخص ما على بعد مسافة اجتماعية في الهواء الطلق، ليست برأيي أمراً يدعو إلى القلق".
وإذا ما أخذنا في الاعتبار التقارير عن أهمية فوائد الصحّة النفسية التي تنتج من اختلاط الأفراد بالأصدقاء والعائلة، والتحذيرات التي يطلقها ناشطو الحملات في شأن نشوء "تسونامي" من مشكلات الصحّة العقلية بعد الإغلاق، يبدو من الواضح أن إعادة بناء المجموعات الداعمة للمجتمعات لدينا تمثّل ضرورة ملحّة وحيوية. ففي نهاية الأمر، البشر هم حيوانات اجتماعية. لذا، ما الذي يمكن أن يفعله الناس للتخفيف من حدّة مخاوفهم ومعاودة اللقاء بالأصدقاء على بعد مسافة آمنة؟
وتعتبر الدكتورة هاميرا أنه "إذا شعر أحدهم بأنه يجب أن يستمر في الحدّ من تفاعله الاجتماعي، فإن ذلك يبقى ضمن صلاحياته. لكن إذا لجأ إلى مثل تلك القرارات بحجّة انشغاله في أمر ما على نحو مضخّم ولا أساس له، بحيث يكون مرتبطاً بعامل الخوف، فيتعيّن عليه طلب المساعدة. الخوف يولّد الخوف، حتى أنه يمكن أن يصبح بسهولة حلقة مفرغة فيما لو ترسّخت جذوره".
وترى الدكتورة أغدامي أن إحدى الطرق التي يمكن اللجوء إليها للبدء في التغلب على هذا الخوف، تتمثّل في عملية تُعرف بـ "الدفع"، قائلة: "على الفرد أن يخرج من "دائرة الراحة" بدفع نفسه إلى القيام بشيء غير مريح نسبياً". وتقترح البدء بالخروج والمشي حول مكان السكن لمقابلة أحد الأشخاص مع الحفاظ على مسافة آمنة. وتضيف: "من الأفضل اختيار شخص تعرفه جيّداً حتى لا تشعر بعبء ضغط اجتماعي إضافي، ومن ثمّ تقوم لاحقاً بتغيير ذلك تدريجياً". وتتابع قائلة: "قد تخرج في نزهة أطول في المرة المقبلة ثم تقوم بمزيد من التقدم كأن تجلس على مقعد مع صديق في المرّة التالية". وتشير إلى أن اتّخاذ خطوات صغيرة والعمل على بناء الثقة بروية، هما أفضل من اللجوء إلى القيام بكثير من الأمور في برهة قصيرة. وإذا كنت تشعر بالقلق، فإن التنفّس من منطقة المعدة يُعدّ تقنية رائعة".
وفي ظل مواصلة الحكومة تخفيف إجراءات الإغلاق في جميع أنحاء إنجلترا، وإعلان رئيس الوزراء بوريس جونسون عن افتتاح جميع المتاجر غير الأساسية بدءاً من الخامس عشر من يونيو (حزيران)، إضافة إلى تواتر الأحاديث عن عودة لقاءات العائلات، يبدو أن البلاد في طريقها تدريجياً نحو العودة إلى مسار الحياة الطبيعية. إن الشعور بالراحة الكافية للبدء في دعوة أشخاص من خارج أسرنا إلى إطار الروتين الخاص بنا، حتى مع الإبقاء على المسافة المحدّدة بمترين، يمكن أن يساعد في تمهيد الطريق لحياتنا نحو استعادة نمطها الماضي، حتى لو تمثّل ذلك باعتماد سياسة الـ "خطوة خطوة" مع الحفاظ على مسافة آمنة.
(* تم تغيير الأسماء حفاظاً على الخصوصية)
© The Independent