لا يزال الربيع العربي يُرخي، بتداعياته المباشرة وغير المباشرة، على الرواية العربية. ولعلّ رواية "غضب وكنداكات" ( دار نوفل) للروائي السوداني أمير تاج السر من أواخر الروايات التي تعكس هذا الإرخاء. ففي العالم المرجعي الذي تُحيل إليه الرواية، ولعلّه السودان، تندلع تظاهرات تطالب بالثورة على النظام، فتتصدّى لها الأجهزة الأمنية، ويكون صراع بين السلطة والشعب، تسقط فيه ضحايا كثيرة، وتترتّب عليه نتائج معيّنة. وهو ما يُشكّل موضوع الرواية.
في "غضب وكنداكات"، يقوم أمير تاج السر بتفكيك آليات عمل الأجهزة الأمنية في مواجهة الحركات الشعبية المطالبة بالتغيير. وهو يفعل ذلك من خلال متابعة ممارسات "المقرالنموذجي للتوبة"، في حي البركة الشعبي، الذي تدور فيه الأحداث. فيرصد آلية تجنيد المخبرين، وأساليب العمل، وأدوات التنفيذ، وميادينه، والنتائج المترتّبة على ذلك. ويضعنا إزاء معادلة صعبة، تُمثّل السلطة القامعة أحد طرفيها، ويمثّل الشعب المقموع طرفها الآخر. وتكون الرواية هذا الصراع بين الطرفين الذي تستخدم في السلطة جميع الأسلحة، ويستخدم فيه الشعب السلاح الوحيد المتاح له وهو صوته العالي.
تبدأ الرواية بقيام جهاز الأمن الوطني بتجنيد خضر جابر، حارس بوّابة الوصول في المطار، الذي اعتاد أن يُسمّي نفسه "خج" مختصراً اسمه إلى الحرفين الأوّلين منه، للعمل في خدمته، رغم أنفه، وهو الذي يعيش في وسط اجتماعي يحتقر الأمنيين، ولا يتورّع عن رميهم بالحجارة والبصق في وجوههم، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ورفضاً للمهام القذرة التي يقومون بها. لذلك، يتموضع "خج" بين رفضه الضمني المهمّة الجديدة وعجزه عن إعلان ذلك. ويترجم هذا الموقف الملتبس في تمنّعه عن القيام بتنفيذ المهام الصغيرة التي يُكلّف القيام بها، وفي تلطّيه وراء زملائه حين يُضطرّ إلى المشاركة في التنفيذ. على أنّ عمليّة تجنيده تعكس الأساليب القذرة التي تعتمدها الأجهزة الأمنية في تجنيد عملائها، ما يتمظهر في القبض على المجنّد المختار، واعتقاله، وتركيب ملف له، والتحقيق معه، والابتزاز، والتهديد والوعيد، حتى يرضخ لمشيئة الجهاز، ويتحوّل إلى أداة طيّعة بيده. وحين تنتهي صلاحيّته، يُلقى به تحت الأرض ليلقى مصيره المحتوم.
حاجز الخوف
تنتهي بتظاهرة حاشدة أمام قيادة الجيش يحمل فيها المتظاهرون صور الشهداء الذين سقطوا في المواجهات مع الجهاز الأمني، في إشارة روائية واضحة إلى كسر حواجز الخوف من الأجهزة الأمنية واقتراب الثورة من تحقيق أهدافها. وحين تقوم الكنداكة زكية أخت خضر برفع صورته شهيداً، نافيةً عنه تهمة الخيانة التي ألبسه إيّاها الجهاز الأمني الذي استغلّه حتى إذا ما انتهت صلاحيّته قام بالتخلّص منه، نرى أنّ أحداً من المتظاهرين لا يلتفت إليها، بل "كانوا ينظرون إلى صورة "خج" بامتعاض، ويواصلون الهتاف" (ص 155)، في إشارة روائية واضحة إلى أنّه، في الثورات، لا مجال لأنصاف الحلول، ولا مكان للغموض والمواقف الملتبسة. وهكذا، يدفع خضر الذي لم يأتِ بأيّ عملٍ ضدّ الثورة ثمن الصمت على تجنيده القسري، ويبقى في المنطقة الملتبسة، فالمتظاهرون يُعرضون عن صورته ولا يعتبرونه شهيداً، والجهاز الذي استغلّه يقوم بالتخلّص منه
بين البداية والنهاية، ثمّة سلسلة من الأحداث التي ينخرط فيها فريقان اثنان؛ الأوّل هو فريق السلطة وأدواتها، ويحمل أفراده أسماء أمنية مستعارة، وينتحلون وظائف تحجب وظائفهم الحقيقية، ويأتون بالأعمال القذرة، ولا يتورّعون عن ارتكاب شتّى الموبقات. وفي عداد هذا الفريق: خلاّق الكولونيل الذي ينتحل صفة صاحب مطعم، الكولونيل ضرغام رئيس المقرّ الأمني، نوح الأمني العجوز، القعقاع الذي ينتحل صفة رجل أعمال، نادية ترزي بائعة الهوى التي تنتحل صفة سيّدة أعمال، شيخ الأحباب الأحدب القصير الذي يكسر أعين الضحايا بالاغتصاب، اللعّاق، غربة، عواض، وآخرون. الفريق الثاني هو فريق الشعب الذي يخرج على السلطة احتجاجاً على القمع والظلم وتردّي الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ويطالب بتغيير النظام، وأفراد هذا الفريق يكشفون عن هويّاتهم وأسمائهم ووجوههم بوضوح، ولا يمتلكون سوى قبضاتهم يلوّحون بها، وأصواتهم يرفعونها عالياً. ويموتون دون مطالبهم المحقة. وفي عداد هذا الفريق: الجدّ مهلّل البحّار التسعيني، فَرَح الفتى الذي ينتصر لخضر حين يتمّ اعتقاله، هبة كسّار الناشطة السياسية، زكية أخت خضر وابنتها العمياء مسرّة، عارم الممثّل المسرحي، ريحان الطاهي المتدرّب في قصر الرئاسة، العجوز التي تؤوي خضر خلال مطاردته، والكنداكات اللواتي يتقدّمن التظاهرات غير آبهات بالموت المتربّص بالمتظاهرين، وآخرون. وبين الفريقين، يتموضع خضر جابر "خج"، الشخصية المحورية، الذي يدفع ثمن هذه البينيّة في نهاية الرواية، يرفض ضمناً انتماءه إلى السلطة، ويخسر علناً هويّته الشعبية.
الوقائع المتعلّقة بهذه الشخصية تردم الفجوة بين حارس بوّابة الوصول في المطار والمجنّد قسراً للتعاون مع الجهاز الأمني، وتقطع المسافة بين الاسم الأصلي والاسم المستعار؛ فبطل الرواية لم يبقَ خضر جابر، الرجل المسالم، حارس بوّابة الوصول، ولم يستطع أن يكون "خج"، المخبر الذي يخون أهله وأبناء جلدته. وفي هذه الوقائع، يتمّ القبض على خضر غداة عشاء ضمّه إلى رجل الأعمال القعقاع وسيّدتها نادية ترزي في مطعم خلاّق، ويُعتقل يومين اثنين في المقرّ الأمني للتوبة، ويجري التحقيق معه بِتُهَم ملفّقة تنسب إليه مساعدة الجدّ التسعيني مهلّل في تنظيم التظاهرات، ومساعدة الناشطة الشيوعية هبة كسّار التي ربطته بها علاقة صداقة، منذ سنتين ونيف، ولا يتمّ الإفراج عنه إلا بعد تعهّده بالتعاون. غير أنّ هذا التعهّد يُثقل على خضر، ويجعله يُحِسّ بالدّنَس، ويُزمِع الإفضاء به إلى الجدّ لعلّه يتدبّر له مخرجاً، الأمر الذي لا يتحقّق. وحين يُحاول التراجع لدى رئيس المقرّ، يفيده أنّ التراجع ممنوع، ويُهدّده بالقتل، وتتعرّض أخته للتحرّش الجنسي وإقفال الكشك الذي تعتاش منه. ومع هذا، يتخلّف عن تنفيذ المهام الموكلة إليه، ويطوي النفس على الإحساس بعبءٍ ثقيل لا يعرف كيف يتخفّف منه، حتى إذا ما وقعت بين يديه صُدْفَةً صورة صديقته القديمة هبة كسّار التي تسكّع معها وزارا المرافق السياحية، يخفق قلبه من جديد، وتستيقظ فيه مشاعر قديمة نحوها، ويتمنّى لو يستطيع العثورعليها، والبوح لها بما يثقل عليه. غير أنّ الرياح تجري بما لا تشتهي سفينته.
العودة إلى الماضي
في غمرة انهمامه بما كُلّف به، وبحثه عن مخرج منه، يُفصَل خضر من عمله في المطار، فلا يجد أمامه سوى الامتثال لتعليمات الجهاز، وتكون الطامّة الكبرى حين يُكلّف باصطياد الكنداكة هبة كسّار تحت طائلة التهديد، فينضمّ إلى التظاهرات، ويشاهدها، ويبكي، ويتكلّم معها مُستعيدَيْن علاقتهما الماضية، حتى إذا ما قرّر، ذات تظاهرة، أن يبوح لها بالحقيقة، يسبقه إليها شيخ الأحباب المتنكّر في صورة متظاهر، ويخبرها أن خضر مكلّف باغتيالها، ويخرج من جيب الأخير المسدّس دليلاً على ما يقول، فتقوم هبة بصفعه، ويُفتضَح أمره، ويُولّي الأدبار. وفي اليوم التالي، يجري اقتياده إلى المقرّ الأمني، ويشكره الكولونيل ساخراً على إنجازه المهمّة، ويُريه أحد المجنّدين صور مراسم دفن هبة واتّهامه بقتلها، ثم يهبط به مجنّدان طابقَيْن اثنَيْن تحت الأرض لينضمّ إلى الأرواح الهشّة، ويلقى مصيره المحتوم.
وهكذا، يُعرّي أمير تاج السرّ ممارسات الأجهزة الأمنية، وآليّاتها في تجنيد المخبرين، وأساليب العمل التي تنتهجها، والأدوات التي تستخدمها، من جهة. ويُضيء الآليّات التي يعتمدها الشعب للدفاع عن نفسه والمطالبة بحقوقه، من جهة ثانية. ولعلّ انتهاء الرواية بتظاهرة أمام قيادة الجيش، ترفع صور الشهداء وتحتفي بهم، يُجسّد انحياز الروائي إلى الشعب في مواجهة السلطة، ويَعكس إيمانه بحتمية انتصاره عليها.
يضع أمير تاج السر روايته في عشرين وحدة سردية متعاقبة، يُسند مهمّة رويها إلى الراوي العليم. وهي وحدات يطغى فيها السرد، ويكاد يغيب الحوار. وبذلك، يتناسب الخطاب الروائي مع العالم المرجعي للرواية الذي يتحكّم فيه الأمن بمفاصل الحياة، وتُستخدَم فيه الأوامر والنواهي بدلاً من الحوار، من جهة، ويتناسب الخطاب مع الحكاية، من جهة ثانية. وفي الحالتين، نحن إزاء بنية روائية تقليدية، يغلب عليها المسار الخطّي، وتغيب عنها التقنيات الأخرى ممّا تستخدمه الرواية الحديثة. وهي وحدات تتفاوت في عدد الصفحات بين وحدة وأخرى، ويتراوح طول الواحدة منها بين نصف صفحة، كما في الوحدة العشرين، في الحدّ الأدنى، واثنتي عشرة صفحة ونصف الصفحة، كما في الوحدة الثانية، في الحدّ الأقصى. ورغم هذا التفاوت، يأتي تغليب الخطّية على مسار العلاقة بين الوحدات المختلفة ليقدّم نصاًّ روائياًّ متماسكاً. بيد أنّ التماسك قد يختلّ ضمن الوحدة الواحدة لا سيّما حين ترد فيها وقائع روائية غير دالّة، ولا تأثير لها في السياق الروائي العام، ما يجعل ورودها وعدمه سيّان. ومن هذه الوقائع: واقعتا العشاء اللتان ضمّتا خضر والقعقاع ونادية في مطعم خلاّق، وواقعة موت القعقاع المتخيّلة في المطار. وعلى الرّغم من هذه الهنات الهيّنات، يُمكن القول إنّ رواية "غضب وكنداكات" حديثة من حيث رصدها اللحظة التاريخية الحرجة التي تعيشها بلادنا العربية، وهي تستحقّ القراءة بالتأكيد لما تنطوي عليه من متعة وفائدة.