ثمة مفارقة واضحة بالنسبة إلى أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع في الأيام القليلة الماضية، تتمثّل في أن تظاهراتهم ضد وحشية الشرطة تُقابَل بمزيد من وحشية الشرطة.
ففي الولايات المتحدة كلها، تقدّم الاحتجاجات التي أطلق شرارتها قتل الشرطة لجورج فلويد، إضافةً إلى سنوات من التراخي إزاء موت السود على أيدي قوات إنفاذ القانون، حوادث كثيرة من الواضح أنها تعزّز التبرير الأساسي الذي استندت إليه الاضطرابات الأخيرة.
فلنسمّ بعضاً من تلك الحوادث. في أتلانتا، انتشر بسرعة شريط فيديو يصوّر ضابطي شرطة يستخدمان مسدسي صعق لإخراج طالبين جامعيين أسودين من سيارة كانا يقودانها إلى المنزل بعدما شاركا في احتجاج. وفي فيلادلفيا، استخدمت الشرطة العصي لضرب محتجين سود وأيديهم مرفوعة إلى أعلى. وفي دنفر، أطلقت الشرطة كتلة من حبيبات الفلفل على وجه رجل قبيل مغادرتها موقع أحد الاحتجاجات. وفي لويفيل بولاية كنتاكي مساء الأحد الماضي، قتلت الشرطة بالرصاص رجلاً أسود آخر، يملك مؤسسة محلية واسمه ديفيد ماكاتي، في حادثة وصفتها قوات إنفاذ القانون بـ"ردّ على إطلاق للنار" من جانب مجموعة من المحتجين.
وفي الحادثة الأكثر دلالة ربما على عنف الشرطة منذ بدء الاحتجاجات، صوّرت كاميرا ضابط شرطة في سياتل يركع على رقبة سارق مشتبه فيه، وهي الحركة ذاتها التي أدّت إلى وفاة السيد فلويد.
ودفع ردّ الشرطة الأميركية على الاحتجاجات "منظمة العفو الدولية" المعنية بحقوق الإنسان، إلى إصدار بيان اتّهم قوات إنفاذ القانون بتعريض حياة الأشخاص للخطر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد ذكرت راشيل وارد، المديرة الوطنية للبحوث في فرع "منظمة العفو الدولية" بالولايات المتحدة، أنّ "الشرطة في البلاد كلها لا تلبّي التزاماتها وفق القانون الدولي باحترام الحق بالاحتجاج السلمي وتسهيله، ما فاقم الوضع المتوتّر وهدّد حيوات المحتجين".
وأضافت "وفي مدينة تلو أخرى، نشهد أعمالاً يمكن اعتبارها غير ضرورية أو استخداماً مفرطاً للقوة. وندعو إلى وقف فوري للجوء إلى قوة من هذا النوع، وأن تضمن قوات إنفاذ القانون الحق بالتظاهر وحمايته".
بصورة عامة، عانت نيويورك نهباً أقل مِمّا حدث في نقاط ساخنة أخرى، لكنها شهدت عدداً من حالات عنف الشرطة ضد محتجين بدوا سلميين.
وذكر شخص يتطوّع كمسعف في الاحتجاجات لـ"الاندبندنت" أن الشرطة استهدفته خلال تظاهرة في حي بروكلين، على الرغم من ارتدائه شارات واضحة تدلّ على أنه مسعف.
وأضاف المتطوع الذي رغب في عدم الكشف عن هويته، "كنتُ أعالج أشخاصاً يبتعدون عن الشرطة. ونحيّتُ أحدهم جانباً وبدأنا بالركض في حين طاردتنا عناصرها، وجرى تثبيتي على الأرض". وبعدها، انتزع ضابط علبة حليب كان المتطوع يحملها لمعالجة محتجين مِمَّن قد يتعرضون للغاز المسيل للدموع.
وتابع، "قلتُ، أنا متطوع. أنا هنا لمجرد إسعاف الناس. وردّ عليّ، "هل تعتقد بأنك ستعالج الناس بهذا الحليب؟". وحاول فتح العلبة وسكب محتواها على وجهي، وقال لي إنه سيغرقني به".
وفي تظاهرة في جزء آخر من حي بروكلين مساء الجمعة الماضي، ذكر أحد المحتجين أن الشرطة لم تبدِ استعداداً للإصغاء. وقد عبّرت ديا سوير، وهي فتاة تبلغ 22 سنة وتقيم في "الحي" عن اعتقادها بأن "الأمور قد ساءت، إذ لا يلقى كلامنا آذاناً صاغية".
وكذلك أشارت إلى منطقة كانت الصدامات لا تزال تدور فيها بين الشرطة والمحتجين، مضيفةً أن "المشكلة تتمثّل في القوة المفرطة المطبّقة على السود والملونين. نحتاج إلى شرطة تهتمّ لأمرنا، وليس إلى هذا".
وأفاد صحافيون أيضاً بتعرّضهم لعنف الشرطة خلال الاحتجاجات، على الرغم من حملهم شارات وأوراق اعتماد واضحة تُعَرِّف عنهم. وأشارت مؤسسة "متابعة حرية الصحافة"، وهي منظمة تسجل الانتهاكات لحرية الصحافة في الولايات المتحدة، إلى أنها أحصت في الأيام الثلاثة الماضية العدد ذاته للانتهاكات الذي دوّنته على مدار العام الماضي كله.
ومن بين أكثر من مئة انتهاك، ورد اعتقال 19 صحافياً بين 28 و31 مايو (أيار). وفي الوقت ذاته، نقلت المنظمة عن 36 صحافياً تعرّضهم لإطلاق مقذوفات كالرصاص المطاطي من قبل الشرطة، وقد حصل نصف هذه الحوادث في مينيسوتا حيث قُتِل السيد فلويد. وسجّلت أيضاً 76 اعتداء على صحافيين، نفّذت الشرطة 80 في المئة منها.
في مسار مُشابه، فقدت ليندا تيرادو، صحافية عمرها 37 سنة من ناشفيل، إحدى عينيها بعد إصابتها بمقذوف تعتقد بأنه رصاصة مطاطية أطلقتها الشرطة خلال احتجاجات في مدينة مينيابولس يوم الجمعة الماضي.
ويشير كثيرون من منتقدي ردّ الشرطة على الاحتجاجات إلى عسكرة قوات الشرطة في البلاد كلها خلال العقود القليلة الماضية، وجاء معظم ذلك الأمر نتيجة نقل البنتاغون معدّات عسكرية فائضة إليها، إذ نقلت وزارة الدفاع بين عامَيْ 1997 و2014 ما قيمته 4.3 مليار دولار تقريباً من المعدّات العسكرية إلى الوكالات المحلية لإنفاذ القانون، بما في ذلك ما قيمته أكثر من مليار دولار من المعدات العسكرية التكتيكية، أي المركبات التي كان مقرراً نشرها في العراق أو أفغانستان.
وفي بيانها المُشار إليه آنفاً، أشارت السيدة وارد من "منظمة العفو الدولية" إلى "أن استخدام معدّات ثقيلة لمكافحة الشغب وأسلحة وتجهيزات عسكرية لمواكبة تظاهرات سلمية عموماً، قد يستفزّ المتظاهرين الذين يمارسون حقهم في التجمع السلمي".
وأضافت "من شأن هذه التكتيكات أن تؤدي في الواقع إلى تصعيد العنف. فتزويد الضباط بمعدّات تناسب أكثر ساحات القتال قد توحي إليهم بأنّ المواجهة والنزاع لا مفر منهما".
وبّدت نتيجة التحوّل مرئية في شوارع الولايات المتحدة أثناء الأسبوع الماضي، إذ ظهر عناصر الوكالات المحلية لإنفاذ القانون المسؤولة عن الردّ على التظاهرات، كجنود احتلال أكثر منهم شرطيين.
في ذلك الصدد، ذكر باتريك سكينر، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية ("سي آي إيه") أصبح شرطياً في أحد الأحياء، ثم تحريّاً في سافانا بولاية جورجيا، أن عسكرة الشرطة المحلية تسبّبت بـ"أحزان ومشكلات لا تنتهي".
وفي ردّ على الاحتجاجات الأخيرة، كتب على "تويتر" تغريدة ورد فيها، "من المؤشرات إلى أن عسكرة الشرطة المحلية أصبحت حالة سرطانية وطنياً، أن الناس يخلطون بشكل مفهوم بين ضباط الشرطة وقوات الحرس الوطني".
وأضاف، "نحن لسنا محاربين لأننا يجب ألّا نكون في حرب مع جيراننا. ولسنا كلاب رعي لأن جيراننا ليسوا خرافاً. ولسنا إسبارطيين أو منتقمين. نحن جيران محظوظون في موقع مساعدة الجيران الآخرين. هذا كل ما في الأمر. هذا هو السر في الأمر برمّته".
وبالعودة إلى المسعف المتطوع الذي يواجه اتّهامات بعد اعتقاله، يُشار إلى إنه يرى أن كثيراً من الصدامات التي جرت خلال الاحتجاجات، جاءت نتيجة أعمال صَلِفَة قامت بها الشرطة لاحتواء التظاهرات.
وأضاف، "لو لم تحضر الشرطة وتتفاقم الأمور، لما حصل شيء، إذ إنّ الصدام وقع لأن الشرطة حاضرة. وبصفتي مسعفاً، أرى أنه بات من الأصعب سحب الناس إلى مكان آمن. وليل الجمعة الماضي، كنتُ أنقل شخصاً نصف واعٍ إلى مكان آمن. ولم تسمح لي الشرطة حتى بتنحيته جانباً. كان من الصعب جداً عليّ نقل ذلك الشخص بينما ينهالون عليّ ضرباً بالعصي".
وتتّخذ السلطات في بعض المناطق إجراءات رداً على وحشية الشرطة خلال الاحتجاجات. فقد طُرِد ضابطا شرطة بسبب الحادثة في أتلانتا، وكذلك قائد الشرطة في لويفيل بسبب إطلاق النار.
© The Independent