لطالما كانت أفريقيا هي الوجهة المفضلة بالنسبة إلى الصين، باعتبار أنهما يجسِّدان علاقات دول الجنوب مع الجنوب، وأن أفريقيا تعرّضت للاستعمار مثل الصين، وتلاقت هذه الرؤى والأفكار عند التعاون الوثيق بين الصين ودول القارة، واحتياج الصين إلى أفريقيا لتلبية حاجتها من الموارد الطبيعية، خصوصاً النّفط، وحاجة بلدان القارة إلى التنمية، بدلاً عن الغرب الذي يضع كثيراً من القوانين المقيدة والشروط للتعاون معها، مثل تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وغيرها.
ودشَّنت الصين من أجل ذلك كل قوتها الناعمة، حتى التفَّت على أفريقيا من دون أن تغيّر من واقع القارة شيئاً كثيراً، بينما قُوبلت مشروعاتها باستحسان أحياناً، واستهجان أحياناً كثيرة، وتسبّب وباء كورونا في إظهار وجه صينيّ آخر في التعامل مع الأفارقة الموجودين على أرضها غير ذاك الذي عهدته القارة السمراء، فما الأسباب وراء ذلك؟
الصين صوب أفريقيا
تتبع الصين استراتيجية عدَّها الأفارقة مميزة ناحية دولهم، لاختلافها الجوهري عن استراتيجية الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، وتُستمد من نقطتين أساسيتين، الأولى هي تأثير الصين الواضح في عملية التنمية بأفريقيا، والثانية هي تأثير الصين في العلاقات بين الدول الأفريقية والغرب، خصوصاً الدول المانحة، ويكمن ذلك في عدم تدخل بكين في الأنظمة السياسية بأفريقيا، ما يطمئن نُظم الحكم الأفريقية بأن الصين تحترم سيادة بلدانها، ويُوضع ذلك في مقابل العلاقات السياسية بين الغرب وأفريقيا، التي تشترط التحوّل الديمقراطي وإشاعة القيم الليبرالية في البلدان الأفريقية، بتأكيدها أن الصين في تعاونها مع أفريقيا تتغاضى عن الجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان وممارسات النُظم الديكتاتورية، ولا تأخذ مكاناً في جدول أعمالها باللقاءات الدولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبرز محاولات الصين لتمييز نفسها عن الدول الغربية، بأنها تحترم التنوّع في المجالات السياسية والاقتصادية بجميع أنحاء القارة من دون التمييز بين نظامٍ ديمقراطي أو ديكتاتوري، وعملت من خلال استراتيجيتها لتحقيق بُغيتها، وهي التركيز على استخراج وتصدير النفط الأفريقي خارج النفوذ الأميركي، وتأمين مصالحها الاقتصادية، وتقديم المساعدات، واعتمدت الصين بعد تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على آلية "المنفعة المتبادلة"، ونجحت في تحسين وتطوير العلاقات التعاونية القائمة مع أفريقيا، بغضّ النظر عن الاختلاف في نظمها ومستوياتها الاقتصادية.
انبهار بالصين
توجد عمليات شد وجذب مفاهيمي، إذ عملت بعض الصحف ومراكز البحوث الأميركية على شيطنة الصين، وتصوير طبيعة العلاقة بينها وأفريقيا على أنّها "نوع من الاستعمار الحديث لأفريقيا"، بينما انبهر الأفارقة بملامح التنمية التي حققتها الصين على الطرق والجسور، لكن لا يدري الشعب الأفريقي ما المقابل الذي دفعته قارتهم من موارد ومواد خام وقروض نظير ذلك، إذ استثمرت الصين كل ذلك باعتباره أدوات ضغط وتنافس مع القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة على المصالح الاقتصادية، تحديداً النفط بأفريقيا، ومن ناحية أخرى للضغط على الولايات المتحدة بمدّ نفوذها إلى مواقع استراتيجية، فالصين لا تهدّد مصادر الطاقة الأفريقية وحدها، إنّما تهدّد أيضاً مواقع أخرى مهمة، ولتفنيد ترويج الشركات الغربية خسائر الاستثمار بأفريقيا، أعفت الصين بعض البضائع الأفريقية من الرسوم الجمركية، كما تقدّم إلى الآن معونات وقروضاً بنسبة فائدة متدنية وتسهيلات في الدفع.
الداخل الصيني
في زيارتي الصين مايو (أيار) 2016، لفت نظري احتفاءٌ واضحٌ بالمظاهر الأفريقية في معظم الجامعات ومراكز البحوث والفكر، إذ تقف جنباً إلى جنب مع التراث والتحف الصينية. شاهدت تماثيل سوداء ومجسّمات لحيوانات من أخشاب المهوقني والأبنوس والعاج، هذا غير الانتشار الواسع للجاليات الأفريقية، لا سيما في الجامعات التي تعتدّ بالتنوّع ومعظمها عبر مِنح تهدف إلى نشر اللغة الصينية بين الطلاب الوافدين من كل الجنسيات، إضافة إلى برامج التبادل الأكاديمي، واستقبال مبتعثي معاهد كونفوشيوس الثقافية المنتشرة حول العالم، وفي زحام الشوارع مهرجان ألوان وخليط من الجنسيات يذوب في الاستعجال والحركة المنظّمة، يتلاشى معه الإحساس غير الملموس بالتنافر.
ووفقاً لهذا التصور من ضمن أمورٍ أخرى كان من المستغرب بروز عنصرية مفاجئة لدى الشعب الصيني ضد الأفارقة، في حين أنَها لم تحدث أوان "الثورة الثقافية" و"القفزة إلى الأمام"، وهي التجربة الباهظة التكاليف اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً التي قام بها ماوتسي تونغ، وكانت الصين وقتئذ منغلقة على ذاتها، والآن بحكم انفتاحها على العالم وتحوّلها إلى "صين مُعولمة" بشكل كبير فيزداد الاستغراب حين يتسع المجال لبروز العنصرية، لأنّ كل شيء من البشر إلى الآليات والطبيعة كلها في خدمة التنمية الصينية، خصوصاً مع تطبيق المبدأ البراغماتي لزعيم الانفتاح الصيني دينغ شياو بينغ "لا يهم لون القط إن كان أسود أو أبيض، فطالما يصطاد فئراناً فهو قط جيّد".
تنفيس شعبي
وتسبّب فيروس كورونا في إظهار هذا الوجه العنصري الذي لم يكن معهوداً من قبل تجاه الأفارقة، وأسهم في ذلك بوصفه أزمة يتداخل فيها الهلع مع محاولة إيجاد وسيلة للتعبير عن رفض السياسات الداخلية التي تحكمها قبضة الحزب الشيوعي الصيني، إضافة إلى ردّة الفعل العكسية تجاه ما يواجهه الصينيون أنفسهم من عنصرية في الغرب، بسبب أنَّ بؤرة انتشار كورونا كانت من ووهان بالصين.
وعلى الرغم من أن الصين الرسمية لم تظهر أيّاً من مظاهر العنصرية تجاه الأفارقة، فإنَّها كدولة أحادية الحزب لا يتصرّف شعبها، خصوصاً الموجود داخل الصين، بمعزلٍ عن قيادته، فقد تركت الحكومة هذا السلوك يسير بطريقة طبيعية، ربما للتنفيس، وتفاقم من دون انتفاض رسميّ من الدولة، ومن دون تقريعٍ أو إدانة أو سحب التعليقات المسيئة للأفارقة من وسائل التواصل الاجتماعي، ومن دون خشية هؤلاء إثارة حساسية الأمن السيبراني الذي يعاقب على ما هو دون ذلك.
ولأن كلّ شيء محسوب بدقة، فإنّ تمرير هذا السلوك يصبّ في تطمين المدّ الشعبي الذي ظلّ يشعر بانزواء دوره لصالح الدولة الأمنية، منذ الثورة الصينية 1946 ومظاهرات ساحة تيانانمن (الميدان السماوي) 1989 التي أفضت إلى مجزرة، وهذا الالتزام يفرضه خوف الحكومة الصينية في ظل هذه الظروف التي كانت على وشك الانفلات، ما قد يعيد الصين إلى ما شهدته في الماضي الذي من المتوقع أن يجتاح البلد مرة أخرى، ويهدد نظام الحكم، ويرجع الصين إلى حقبة الضعف. والخوف من أنّ التغيير السياسي في الصين، إذا حدث، سوف يكون مختلفاً عن سابقه، وسوف يدمّر مبدأ "صين واحدة" الذي لا يزال الحزب الشيوعي الحاكم متمسكاً به في جانبه السياسي.
تجاوز الأيديولوجية الثورية
وأسهم التغيير الواسع في تجاوز الصين أيديولوجية المساواة الثورية التي سادت في عهد ماوتسي تونغ، في ما يتعلق بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية، فقد تغيّرت هذه النظرة التي تجرِّم التمييز الاجتماعي والاقتصادي، وهذا الانتقال من الأيديولوجية الثورية لماوتسي تونغ و"هوية صينية واحدة وثقافة صينية واحدة" مرَّ بمراحل عدة، وبدأت ببراغماتية دينغ شياو بينغ والانفتاح على الغرب، ثم ليبرالية جيانغ زيمين، ثم الانتقال إلى واقعية هو جينتاو ومن بعده شي جين بينغ، وتحوّل معه كثيرٌ من السلوك الصيني الذي كان مخبأ خلف القيم وفلسفة كونفوشيوس المهيمنة على الصين.
وهذا ما فسّرته لي منذ أربعة أعوام شيزون زانغ، الأستاذة في كلية الاقتصاد الدولي بجامعة الشؤون الخارجية في بكين، بأنَّ "الثقافة الصينية ظلَّت معصومة قروناً طويلة، وعندما أتى التغيير انزوت بعض القيم الكونفوشيوسية التي نقدّسها، لكن في المقابل لم تغيّر من عقيدة الحزب الشيوعي الحاكم الذي ظل يعمل على نشر (تعاليم كونفوشيوس) والإبقاء على صورة الأمة الصينية الواحدة".
اعتراف خجول
وردَّ المسؤولون الأفارقة، خصوصاً نيجيريا، بغضب على التمييز العنصري الذي مارسه الصينيون على مواطنيها في مدينة غوانزو، بينما كان في مقدورهم فعل أكثر من ذلك، فما يمسّ الصين بشكل مباشر هو مشروعاتها الاستثمارية بأفريقيا، وما يمسّ الدول الأفريقية هو ديونها التي تطوقها بها الصين، وكتب موسى فكي، رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، على (تويتر) "لقد دعا مكتبي السفير الصينيّ لدى الاتحاد الأفريقي ليو يوشي ليُعرب له عن قلقنا الكبير لمزاعم سوء معاملة أفارقة في كانتون"، داعياً الحكومة الصينية إلى اتخاذ تدابير فورية بما يتماشى مع علاقات الاتحاد الأفريقي مع بكين.
لكن لم يحصل الاتحاد الأفريقي على شيء سوى "اعتراف خجول"، وأنها بصدد تحسين معاملتهم، وترفض "العنصرية التي تنطوي على التمييز"، وذلك بعد ضغوط دولية كثيفة استهجنت الأحداث وإنكارها من جانب الحكومة الصينية.
إطفاء الغضب الأفريقي
وتتلخَّص هذه الموجة العنصرية في أحداث عابرة مثل غيرها، قد تتمكّن الصين بوسائلها الخاصة وقوتها الناعمة من إطفاء الغضب الأفريقي، من أجل استمرار مصالحها ومشروعها المستقبلي (حزام وطريق الحرير)، ولولا ذلك لاختفى التفكير الإبداعي بشأن دور الصين في السياسة الخارجية المتعلقة بأفريقيا، وانتهت كل الأدبيات العاطفية المرتبطة بتاريخ العلاقة منذ اجتماع 29 دولة في عام 1955 من قارتي آسيا وأفريقيا في مؤتمر باندونغ بإندونيسيا، لبحث سُبل التضامن والتعاون بينها على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي الذي ضمنته الصين في دستورها.
وعملت الصين خلال عقود حتى جعلت أفريقيا صينية التوجه والهوى منذ تسعينيات القرن الماضي، بينما ركزت براغماتية بكين على العلاقة الاقتصادية حتى لو اضطرها الأمر إلى تقديم كثير من التنازلات، وتغيّرت التصورات الصينية من ناحية أفريقيا، وتوسّعت مفهومات مصالحها الوطنية، بأسرع مما تصوّر الأفارقة، بينما ظلّت القارة كما هي منجم ثروات ممزوجة بالفساد وتكلّس التنمية.