منذ نشأة البصرة، مع بداية الفتوحات الإسلامية، تكثر فيها الأراضي السباخ التي تكسوها الأملاح. وقيل قديماً إن معنى البصرة هو الأرض ذات الحجارة الرخوة البيضاء (الملحية). وتسبب الملح الوفير للبصريين بمعاناةٍ إنسانية، وخسائر تفوق بكثير أهميته الاقتصادية.
ولمئات السنين يشغل الملح حيزاً من الحياة الاقتصادية في البصرة. وخلال العصر العباسي، ظهرت في البصرة فئة من آلاف العبيد يُطلق عليهم (الغلمان الشورجيين)، كان عملهم الوحيد تجميع الملح من السباخ من أجل جعلها صالحة للزراعة، ثم نقل الأملاح من مواقع تكديسها إلى أماكن بيعها، وكانت هذه الفئة قوة دافعة لثورة الزنج التي زعزعت أركان الدولة العباسية على مدى 14 عاماً.
وذكر قنصل روسيا القيصرية في البصرة، ألكسندر أداموف، في كتابه "ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها"، الصادر عام 1912، أن "الملح يبقى الثروة الطبيعية الرئيسة في جنوب العراق. فالأراضي السباخ تنتشر في كل مكان". وأضاف "الدولة العثمانية تحتكر الملح منذ عام 1862، لكنها تواجه عقبات كثيرة، لأن مكامن الملح تقع في مناطق تقطنها قبائل عربية تستغل المكامن لمصلحتها الخاصة من دون أن تحسب حساباً لأي احتكار. لذلك، لا تستغل إدارة الدين العام في ولاية البصرة إلا ثمانية مكامن، ويُباع الملح المستخرج منها بسعرٍ أدنى من السعر السائد لمنافسة الملح الذي يبيعه المهربون".
تصدير إلى الهند واليابان
قبل تحسين قطاع الموارد المائية في العراق، خلال القرن العشرين، كثيراً ما كانت تفيض مساحات شاسعة من أراضي البصرة بمياه البحر. وما إن تجفّ حتى تظهر كميات كبيرة من الأملاح. وعن ذلك قال المؤرخ حامد البازي، في كتابه "البصرة في الفترة المظلمة"، "بعد رجوع ماء البحر تصبح الأرض ملحية إلى درجة أن الملح كان يبلغ ارتفاعه عن الأرض أحياناً 30 سنتيمتراً، وكان الناس يجمعونه لاستعمالهم المنزلي، كما كان يصدّر إلى الخارج". ويروي أن "الفيضانات المتكررة بمياه البحر سهّلت تجارة الملح مع بعض الأقطار العربية، وكانت الهند تستورد الملح النظيف من البصرة".
وفي كتاب "النظام الاقتصادي في العراق"، الصادر عام 1938، أشار سعيد حمادة إلى أنه "من المحتمل أن يصبح للملح شأن في المستقبل بين الصادرات العراقية، وهذا يتوقف بالأكثر على ترقية وسائل النقل، بحيث يمكن إيصاله من دون تكلفة كبيرة من الساحات الواسعة التي يوجد فيها إلى أماكن تصديره"، موضحاً "العراق صدّر في سنة 1934 من ملاحة الفاو في البصرة إرسالية تجريبية قدرها 1500 طن إلى اليابان".
أمّا حاضراً، فالبصرة لا تصدّر ملحها إلى اليابان أو الهند، بل هي تستورد الملح من دولٍ قريبة وبعيدة. فالإنتاج المحلي الذي توفّره المعامل الأهلية لا يكفي للاستهلاك المحلّي، والتعليب الجيد للملح المستورد يُغري المستهلكين. وخلال عام 2014 تصدَّر العراق الدول المستوردة ملح الطعام من تركيا بواقع أكثر من 28 ألف طن.
وفي عام 2015، قرر مجلس محافظة البصرة حظر استيراد الملح لحماية المنتج المحلي. وللسبب نفسه، منعت لجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس الوزراء، في منتصف العام الماضي 2019، استيراد الملح، إلا أنّ الملح المستورد ما زال يتسرّب إلى الأسواق العراقية.
مصنع حكومي للملح
في البصرة، يوجد كثير من المعامل الأهلية الصغيرة لإنتاج ملح الطعام، وبعضها يُجهز بالملح الخام من مصنع حكومي يقع في قضاء الفاو الساحلي، الذي أنشأته في 1979 شركتان يابانية وإيطالية. وبعد إنجازه بأشهرٍ اندلعت حرب الخليج الأولى (1980 - 1988)، وحوّلته إلى ركام. وبعد عشرة أعوام، بُني مصنع بديل في الموقع نفسه. لكن، عند إسقاط نظام الحكم السابق عام 2003 تعرّض للنهب والتخريب. وخلال عام 2013 استؤنفت أعمال إعادة تأهيله وتشغيله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول مدير المصنع حيدر جبار، لـ"اندبندنت عربية"، "المصنع يعمل حاليّاً بنصف طاقته التصميمية البالغة 500 ألف طن سنوياً من الأملاح الخام والصناعية"، موضحاً "مع وجود مياه البحر، فإن الملح ثروة لا تنضب، والمعطيات الاقتصادية تبشِّر بمستقبل واعد، ولدينا خطة لتطوير المصنع، لكن تنقصنا الأموال لتنفيذها".
ووفق قائمقام الفاو وليد الشريفي، "كانت في القضاء معامل أهلية لإنتاج الملح، لكن الحرب دمّرتها وأغلقتها"، معتبراً أن "في إمكان الفاو سد حاجة العراق بالكامل من الأملاح الغذائية والصناعية، إذا لاقى هذا القطاع اهتماماً ودعماً حكوميّاً".
مصدر بلاء ومعاناة
الأهمية الاقتصادية للملح في البصرة لا تقارن بالخسائر المادية الجسيمة والمعاناة الإنسانية التي يسببها. فموجات المدّ الملحي التي تتغلغل في شط العرب خلال مواسم الجفاف، أدّت إلى انهيار القطاع الزراعي في البصرة أكثر من مرة خلال العقدين الماضيين. حتى إن مجلس المحافظة قرر بعد منتصف عام 2015 اعتبار البصرة منكوبة، بسبب فائض الملح الذي ينغّص حياة السكان. وما زال خطر المياه المالحة يهدد النشاطات الزراعية والثروة الحيوانية.
ولعل البصرة هي المدينة الوحيدة المُشرفة على الخليج التي لم تُشيد فيها حتى الآن منشآت ساحلية لتحلية مياه البحر. ويقتصر عمل المحطات الموجودة فيها على تصفية المياه وضخّها من دون تحليتها. ولهذا، يستخدم الناس في معظم مناطق المحافظة مياهاً مالحة، واعتادوا منذ أعوام شراء مياه للشرب.
وفي غضون أسابيع قليلة من عام 2018 استقبلت المستشفيات العامة أكثر من مئة ألف حالة تسمم ومغص معوي حاد من جراء ملوحة المياه وتلوّثها، وكرد فعل شعبي اندلعت احتجاجات، تخللتها مصادمات أسفرت عن سقوط ضحايا وإحراق مؤسسات حكومية.
ولمأساة الملح في البصرة وجه آخر، يمكن معاينة ملامحه عند النظر إلى القرويين وهم يواظبون بشقاءٍ خلال فصل الصيف على جمع الملح من السباخ والمستنقعات بأساليب بدائية، ثم غسله وتجفيفه، وبعد ذلك بيعه بأسعارٍ زهيدة، بالكاد تؤمِّن لهم قوتهم اليومي. وبعض معامل الملح الغذائي المحلية تعتمد في إنتاجها على ما يرد إليها منهم من ملح خام.