أزاح علماء آثار الستار عن أقدم مسرح في لندن، ويعود إلى العصر الإليزابيثي (1558م-1603م)، إذ بُني في منتصف القرن السادس عشر. ويعرف المكان باسم "ريد ليون". ويجسد "حلقة مفقودة" رئيسة في تاريخ الدراما الإنجليزية.
خلال العصور الوسطى، وفي كثير من الأوقات في عصر تيودور في واقع الأمر، سيطر على العروض موضوعات الكتاب المقدس، وقُدمت عادة في باحات النُّــزل والجامعات وقاعات أخرى. وفي المقابل، شهد زمن شكسبير أداء عدد من المسرحيات العلمانية الصرفة وغالباً في مسارح بنيت لذلك الغرض. ويساعد الاكتشاف الجديد في قطاع "وايت تشابل" بشرق لندن على سد الفجوة بين التقاليد التي سادت في هاتين المرحلتين.
ويتكوّن "ريد ليون" من حانة سمحت في 1567 بإنشاء بناء على ممتلكاتها بغرض استخدامه كأول مسرح في لندن. على أية حال، يحتمل أن عدداً من المسرحيات التي أُديت على خشبته جاءت من موضوعات إنجيلية، ولم يكن لها طبيعة علمانية بحتة.
من المؤكد أن أول عرض قُدم على مسرح "ريد ليون" جسّد دراما مذهلة (فُقدت منذ أمد طويل) تحمل عنوان "قصة شمشون" التي تمثّل سرداً مملوءاً بالحركة لمآثر البطل التوراتي الخارق الذي ضحى بحياته في مواجهة الوثنية.
ويزيد في أهمية الاكتشاف أن "ريد ليون" مهّد الطريق للمسارح التي تلته بعد فترة وجيزة، وشهدت أداء مسرحيات علمانية لشكسبير ومارلو وغيرهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في لندن خلال عصر تيودور، أثارت مشروعات المسارح جدلاً كبيراً على الصعيدين الثقافي والسياسي. في واقع الأمر، لم يكن تشييدها ممكناً إلا خارج المنطقة الخاضعة للولاية القضائية لمدينة لندن. ويعود ذلك جزئياً إلى أن متطرفي البيوريتانت بين البروتستانت غالباً ما أداروا المدينة، وقد اعتبروا المسارح "إهانة للإله"، و"عقبة في وجه الإنجيل" ومدرسة "لكل أصناف الشرور والآثام". كذلك نُظر إلى رواد المسرح على أنهم "أسوأ نوع" من "الناس الأشرار والمضطربين" الذين تركوا العمل بغية "إضاعة وقتهم".
ويضاف إلى ذلك، أن مشاعر انتابتهم ويتردد صداها في يومنا هذا، إذ اعتقدوا أيضاً أن الفعاليات المسرحية المزدحمة تحمل خطر الإصابة بعدوى الطاعون.
وقد بات معروفاً أن غالبية المسرحيات التي قُدمت في "ريد ليون" أو جميعها، صارت مفقودة. ويُبرَّر ذلك جزئياً بأن مسرحيات عدّة في عصر تيودور لم تُنشر كمطبوعات أبداً. في الحقيقة، من شبه المؤكد أن الدراما التي افتتحت بها "ريد ليون"، قصة شمشون (لكاتب مسرحي غير معروف)، لم تطبع مطلقاً، ربما لأن جمعية الطباعة الاحتكارية في لندن (وهي جمعية حرفية معروفة باسم "شركة الورّاقين") رفضت طباعتها، ربما بناء على الإفراط في التجسيد البصري لموضوع ديني.
حقيقةً، تمتعت تلك الجمعية بسلطات قانونية رقابية غير عادية، وصلت إلى حدّ تمكنها من الاستيلاء على المنشورات غير المناسبة، وتقديم كتّابها البائسين إلى المحاكم الكنسية.
في سياق متصل، أشار مدير الحفريات، ستيفن وايت من شركة "أركيولوجي ساوث إيست" للتنقيب المتعاقدة مع "وحدة الآثار" في "كلية لندن الجامعية"، إلى "تمتع مسرح (ريد ليون) بتاريخ متنوع ومثير للاهتمام على وجه الخصوص".
وقد بدأ الموقع مسيرته حوالي 1500م كمزرعة. ثم، بحلول عام 1530م تقريباً، تحول على الأرجح إلى حانة غير رسمية. وفي منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، تواصلت شخصية رئيسة في تاريخ المسرح في عصر تيودور، رجل يدعى جون برين (الذي سيرتبط أحد مشروعاته اللاحقة بشكسبير في نهاية المطاف) مع صاحب المزرعة. واقترح برين بناء أول مسرح في لندن على أرض ملاصقة بشكل مباشر للمزرعة والحانة.
وبذا، أُبرمت صفقة مفيدة للطرفين. ونُصب البناء الخشبي غير المسقوف في 1567، لكن الأمر لم يخل من ضغينة. إذ رُفعت دعوى قضائية مريرة بين برين والنجارين الذين بنوا الصرح. يشار إلى أن أبعاد الخشبة التي كشفت عنها الحفريات الأثرية تطابق تماماً ما هو موضح في الوثيقة القانونية من عصر تيودور.
بعيداً عن الخشبة، يظهر ما يبدو أنه قاعة متعددة المستويات، مع عدد من العملات المعدنية وأواني الشرب. وتتمثل القطع الأثرية الوحيدة التي اكتشفها العلماء ولها صلة بالمسرح، في عدد كبير من صناديق النقود الخزفية الخضراء المزججة، التي من شبه المؤكد، أنها اسُتعملت لجمع رسوم الدخول التي دفعها زبائن المسرح. كما أن الأجزاء التي تعود لتلك الصناديق المزججة الخضراء تتطابق مع مقاييس معتمدة في المسارح التي بنيت لاحقاً في عصر تيودور.
وقد استخدم أصحاب المسرح الصناديق لجمع النقود، ثم حطموها للحصول على الأموال. ساعد نظام "صناديق النقود القابلة للتحطيم" البسيط هذا في منع الموظفين من سرقة العملات المعدنية.
في المقابل، بعد مرور أقل من عقد على بناء "ريد ليون"، تعاون برين مع صهره لبناء مسرح آخر. وجاء أكبر بكثير هذه المرة، وعلى بعد ميل من "ريد ليون" تجاه الغرب، في منطقة "شورديتش".
في تلك المرحلة، يبدو أن "ريد ليون" توقف عن وظيفته كمسرح، على الرغم من مواصلة برين المزارع وصاحب الحانة استخدام مبنى المسرح، لكن كميدان لقتال الكلاب.
وفي الحقيقة، اكتشف علماء الآثار رفات عشرات الكلاب، لا يزال بعضها يحمل الإصابات التي أدت إلى موتها، وتشمل جروحاً لم تلتئم ناجمة عن عضات خطيرة في جماجمها وأرجلها.
علاوة على ذلك، يكشف تحليل عظام الفك عند الكلاب أن بعض أسنانها الأشد فتكاً قد بُرد، ربما بغية إطالة المعارك عن طريق ضمان أن تأتي وفاة الكلاب المقاتلة نتيجة إصابات متعددة، بدلاً من عضة قاتلة سريعة واحدة.
وكذلك كشفت الحفريات، التي أجرتها شركة "أركيولوجي ساوث إيست"، عن الطعام الذي قُدم إلى الكلاب. وتشير الدلائل إلى أن المزارع حصل على أرجل أحصنة مسلوقة، ربما من مصانع الغراء في لندن في عصر تيودور، ثم أعطاها لكلاب الصيد الجائعة قبل المعارك أو بعدها.
وباستثناء الحرب الأهلية وفترة احتلال كرومويل لأيرلندا (1649-1653) (عندما أُحبطت تلك الأنشطة العدوانية)، استمر قتال الكلاب وربما أنشطة أخرى مماثلة في المسرح السابق حتى عام 1700 تقريباً.
وكذلك موَّل جون برين مؤسس "ريد ليون" الذي ربما عمل في الأصل بقالاً، بناء هذا المسرح الإنجليزي الأول. وبعد تسع سنوات، قدم معظم التمويل المبدئي لخليفته (المسرح في شورتديتش). لكن، انتهى به الأمر محروماً من حصته في هذا المشروع الذي درّ أرباحاً وفيرة على صهره وشريكه التجاري، جيمس بيرباغ. ثم صار برين مفلساً. ومات في نهاية المطاف خاوي الجيوب. وتشتمل قصته على كل عناصر الدراما الإنجيلية أو الشكسبيرية.
يشار إلى أن الحفريات جرت العام الفائت، إلا أن تحليلاً ما تحصّلت عليه من مواد وبيانات لم يقدّم إلا في الشهر الماضي ما يكفي من الأدلة لإثبات وبثقة كبيرة، أن البقايا تعود بالفعل إلى مسرح لندن الأول الذي اعتُبر مفقوداً لفترة طويلة.
وسيستمر تحليل عشرات الآلاف من الشظايا الفخارية وعظام الحيوانات وغيرها من الأشياء التي عُثر عليها في هذا الموقع التاريخي المهم، خلال وقت لاحق السنة الحالية، وكذلك في 2021.
© The Independent