لم تؤثر تحديات التباعد الاجتماعي الناتجة عن انتشار وباء كورونا في الصحة النفسية للأفراد الذين خضعوا للعزل الصحي سواء في المستشفيات أو في المحاجر الصحية أو في المنازل، وفي الاقتصاد وأنشطة الحياة العامة فقط، بل امتدت لتحيل الحياة اليومية لذوي الاحتياجات الخاصة إلى حالة مستمرة من التحدي على وقع العزلة التي فرضها انتشار الفيروس للوقاية من العدوى.
عاش ذوو الاحتياجات الخاصة أصعب أيام حياتهم في هذه الفترة، ففي الوقت الذي حذر الأطباء فيه من لمس الأسطح العامة كأزرار المصاعد ومقابض الأبواب، والابتعاد عن الأشخاص مسافة كافية لتجنب الإصابة بفيروس كورونا وجدت نور الصديق وهي طالبة جامعية كفيفة وغيرها من المكفوفين صعوبة تقترب من الاستحالة في الالتزام بهذا التحذير فهي كسائر المكفوفين تفاصيل يومياتهم في الحياة تعتمد على اللمس الذي "يرون" من خلاله العالم من حولهم.
ضغوط مختلفة
تقول نور في حديثها إلى "اندبندنت عربية" مع "بداية الحجر واجهتني ضغوطات عديدة كان أكبرها مكوثي في المنزل طوال ساعات اليوم وهو ما أوصلني للدخول في حالة اكتئاب خلال الشهر الأول للحجر، فلم أتمكن من الخروج ولو مرة واحدة حيث اعتمد على يدي مباشرة لاستكشاف مكان مفاتيح لوحة المصعد أو مقابض السلالم فلا وسيطٌ معيناً لي في هذه الحالة كالعصا القصيرة أو القفاز البلاستيكي لأنني أعتمد على اللمس. وبما أن التحذيرات كانت قائمة على خطر هذا التلامس الذي يعرضنا كمكفوفين لزيادة نسبة إصابتنا بالفيروس تجنبت كغيري من فئتي هذه المحاذير، لكنها لم تمنعني من ممارسة حياتي الطبيعية فأنا اجتماعية بالفطرة وهو ما سهل علي الاندماج في المحادثات الجماعية الافتراضية والتحقت بدورات عديدة إضافة الى متابعة دراستي من بعد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دعم أسرة نور لم يفارقها يوماً بخاصة في فترات التباعد الاجتماعي والعزل الصحي، حيث لم يبخلوا بالعطاء والاهتمام ومساندتها في تنمية قدراتها الأكاديمية وتنمية مهاراتها الاجتماعية فوالدتها كانت مرافقة لها حين اضطرارها للخروج، إذ يحتاج المكفوفون للمساعدة طوال فترة وجودهم خارج المنزل، سواء لعبور الشوارع، أو شراء المستلزمات من المحلات التجارية، وهو ما كانوا يحصلون عليه باستجابة سريعة من المجتمع قبل الجائحة، لكن بعد انتشار الفيروس أصبح التجاوب معهم في الحصول على المساعدة أمراً صعباً، فالكثيرون باتوا لا يهتمون بسرعة الاستجابة لهم مفضلين ترك مسافة آمنة للتباعد الاجتماعي على الاقتراب منهم والتلامس المباشر معهم.
التكيف مع كورونا
لم تكن نور الملهمة الوحيدة لذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تواجدت بالقرب منها نور الهدى الكرنوص التي خاضت بفضل إرادتها وقوة عزيمتها رحلة أيام عزلة كورونا، فقهرت بها الإعاقة الحركية بعزيمتها الفولاذية التي أنارت عقلها ومهاراتها وجعلتها واحدة من النماذج الاستثنائية.
وتؤكد نور الهدى لـ"اندبندنت عربية" "أن ذي الاحتياجات الخاصة ليس من فقد حاسة من الحواس أو من فقد قدرته الحركية، لكنه الشخص القادر على التكيف والتعايش مع المجتمع وما يستجد من ظروف، فذوو الاحتياجات الخاصة يواجهون عوائق أمامهم، لكن من المهم أن تكون لديهم الآليات السليمة والوسائل اللازمة لكيفية تجاوز هذه الصعاب حتى يتعايشوا بنجاح مع المجتمع وما يتعرض له من أزمات طارئة".
وتوضح نور الهدى التي تعمل إدارية في أحد المستشفيات الحكومية في مدينة الدمام في المنطقة الشرقية في السعودية "مكثت في المنزل طيلة 3 أشهر لم أغادره يوماً بسبب وضعي الصحي وقلة مناعتي وأصبح عملي من بعد، وهذا الروتين عزلني عن محيط العمل، إذ كنت أفتقد حياتي الطبيعية ولقاءات العمل ولكن بعد فترة أيقنت خطر الوضع وكرست جل اهتمامي في القراءة حتى عادت الحياة إلى طبيعتها وعدت إلى عملي بحذر والتزام بالإجراءات الاحترازية".
قلق واكتئاب
للأسرة والمجتمع والمنظمات الأهلية والحكومية أدوار مهمة تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة تتمثل في المساندة والتشجيع وتوفير الإمكانيات والدعم. يوضح خالد العبيد مدير المسؤولية الاجتماعية بفرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في المنطقة الشرقية آثار عزلة كورونا في المعاقين "بسبب وباء كورنا تأثر الكثير من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة تأثراً كبيراً بعد انتشار هذا الوباء وبالذات في الجانب النفسي وأصبح البعض منهم يعانون من القلق أو الاكتئاب، والضيق، ونعلم أن العزل الذاتي والحجر الصحي محبطان لمعظم الناس ولكن زاد أثرة السلبي في هذه الفئة وبالأخص المكفوفين".
ويضيف العبيد "إن هذه الفئة بحاجة إلى وسائل اللوحات الإرشادية وتطبيق طريقة "برايل" على جميع المنتجات والمصاعد وغيرها من الأماكن العامة، كما يجب أيضاً دعم التطبيقات الذكية وموقع الشراء الإلكترونية بطريقة برايل ليسهل عليهم قضاء مستلزماتهم اليومية وليكون خياراً متاحاً لهم كسائر أفراد مجتمعهم".
التباعد الاجتماعي
نبّه الدكتور حسن الشهري استشاري الطب النفسي الشرعي من "أن في مثل هذه الظروف عند مواجهة جائحة عالمية غزت العالم كما نشهده اليوم وعلى مستوى الكرة الأرضية، من الطبيعي جداً أن نرى تفاعلات مختلفة ومتفاوتة تجاه الجائحة وطرق التكيف معها ومع المتغيرات المترتبة عنها، إن الأغلبية منا إن لم نكن كلنا نشعر بعدم وضوح وقلق وبنسب مختلفة حول الصحة لنا وللأخرين من حولنا".
ويتابع "ذلك جعل الناس عموماً تعاني شعور الخوف والقلق تجاه هذه الجائحة وما ترتب عنها من تباعد اجتماعي، ولذا من المتوقع أن يكون ذوو الاحتياجات الخاصة أكثر من غيرهم تأثراً نفسياً وجسدياً، ولكن في نهاية الأمر سيجدون طريقهم في التكيف والتعامل على الرغم من هذه الضغوط والتأقلم معها، عدا شريحة قليلة منهم قد تصبح بصفة مفرطة قلقة جداً وتعيش في خوف وتوتر شديدين قد يعجزاهم ويؤثران سلباً بشكل ملحوظ في وظائفهم ومهامهم اليومية وقد يتطلب حينها التدخل النفسي العلاجي.
صعوبة الوصول
ويشير الشهري إلى أهم الصعوبات التي تواجه هذه الفئة "كعملية الوصول إلى المعلومات اللازمة لتفهّم هذه الجائحة وما تتطلب من تباعد اجتماعي واحتياطات احترازية لتجنب الإصابة بها، ولعل من الآثار النفسية ارتفاع نسبة القلق والشعور بالوحدة واضطرابات النوم ما ترتب بعض الصعوبات السلوكية لديهم، وفي شكل عام يوجد لدى هذه الفئة الخاصة صعوبات في الوصول إلى الخدمات الصحية نتيجة العوز في طرق التواصل المناسب لحالاتهم، وبالتالي يرتب ذلك استمرارية الأعراض النفسية وتصاعدها، لكن في حال تم إيصال المعلومة الصحية بطرق التواصل السليمة وباللغة التي يفهمونها يساعدهم ذلك على التكيف مع وسائل السلامة المتبعة وتغلبهم على ما يترتب عن التباعد الاجتماعي من آثار نفسية".
ولفت استشاري الطب النفسي "إلى أهمية تمكينهم من التواصل والتعبير عن مشاعرهم ومشاركتهم أحاسيسهم مع المقربين منهم بما يعزز التماسك الاجتماعي والثبات في الاستجابة والتكيّف ما يقلّل الإحساس بالعزلة لديهم".