يُرجع مراقبون استمرار اشتعال الساحة الليبية وامتداد أزمتها لسنوات "إلى كثرة الأطراف الأجنبية المتنافسة وتعقّد مصالحها"، إذ تحول الشقاق تدريجياً بين حكومة الوفاق الوطني الليبية، المعترف بها من الأمم المتحدة، والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في الشرق، من حرب بالوكالة إلى مشارف المواجهة المباشرة بين أبرز داعمي الطرفين مصر وتركيا.
وعلى وقع تهديد القاهرة الأخير بالتدخل المباشر "حفاظاً على أمنها القومي والعربي" في حال تجاوز ما أعلنته "خطوطاً حمراء في مدينتي سرت والجفرة"، وإصرار أنقرة، أبرز الداعمين لحكومة الوفاق على المضي عسكرياً باتجاه الشرق، تزداد المخاوف الدولية والإقليمية من "إعادة صناعة السيناريو السوري" في الشمال الأفريقي جنوب البحر المتوسط، ما يعني وفق معنيين "بداية دخول ليبيا مرحلة اللاعودة مع إصرار الأطراف الخارجية على مصالحها".
مَنْ مع مَن؟، وإلى أي مدى تعقدت سبل الحلول السياسية أمام "عسكرة الأزمة" بعد الانخراط التركي المباشر في الأزمة مستغلة انقسام الموقف الأوروبي وتراجع واشنطن عن الساحة؟
تحاول "اندبندنت عربية" قراءة دوافع وأهداف الأطراف الخارجية المنخرطة في الأزمة، وسيناريوهات مستقبلها بين التصعيد العسكري أو إيجاد حل سياسي، في البلد النفطي الغارق بالفوضي منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، وتتنازع حكمه سلطتان منذ 2015: حكومة الوفاق الوطني ومقرها طرابلس غرب، وحكومة موازية منبثقة من البرلمان المنتخب ومقرها شرق البلاد، ويدعمها قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر.
أنقرة وعسكرة الأزمة
رغم رفض أطراف دولية، فاعلة ومنخرطة عربيا ودولياً في الأزمة الليبية، الانخراط العسكري التركي، الذي يلازمه "أجندة توسعية وأطماع قديمة متجددة بالسيطرة والهيمنة"، بحسب تعبير السفير على الحفني، نائب وزير الخارجية المصري الأسبق. تتصدر أنقرة أبرز داعمي حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.
وخلال الأسابيع الأخيرة، ساعد الدعم العسكري المباشر ونقل المقاتلين الأجانب الذي قدمته أنقرة لحكومة الوفاق الوطني في تحقيق مكاسب عسكرية، وبحسب البيانات الرسمية تعترف تركيا بإرسال طائرات مسيرة ودفاعات جوية ومستشارين لمقاتلي الغرب، كما نقلت مقاتلين سوريين إلى ليبيا، أعقاب اتفاق وقّعته على ترسيم الحدود البحرية عام 2019 مع حكومة الوفاق الوطني، إثر خلافات إقليمية على ثروات شرق المتوسط.
وتعتقد أنقرة أن الاتفاق يحميها من تحركات اليونان وقبرص، التي يمكن أن تحصرها في مياها الساحلية، الأمر الذي يعتبره محمد مطاوع، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، "جوهر الأجندة التركية في ليبيا التي تعاني أزمة اقتصادية وتبحث عن موطئ قدم في شرق المتوسط الذي همشت منه عبر التحرك باتجاه ليبيا".
مطاوع، أوضح أن "تركيا تسعى منذ 2011 أن يكون لها موطئ قدم في سوريا والعراق وليبيا، فملفات إعادة الإعمار واحتياطات النفط والغاز تثير شهية النظام التركي المأزوم اقتصادياً، في وقت جعلت ثروة ليبيا النفطية من احتياطات الغاز منها مكاناً لتنافس الأطراف الخارجية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الاتجاه ذاته، يرصد الحفني، "أن كثرة الأطراف الضالعة والمنخرطة في الأزمة الليبية وتعارض مصالحها في بعض الأحيان، أفسح المجال أمام التحرك التركي، وأحيا أطماعها القديمة في الهيمنة على ثروات المنطقة".
مساء الاثنين، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن بلاده لن تتهاون مع تدخل تركيا العسكري في ليبيا. متهماً أنقرة بممارسة "لعبة خطيرة". مشدداً على أن باريس لن "تتهاون مع الدور الذي تلعبه تركيا في ليبيا". وهو ما ردت عليه تركيا، أمس الثلاثاء بالمثل، معتبرة "فرنسا هي من تمارس لعبة خطيرة في ليبيا". وبجانب تركيا تدعم قطر الموقف التركي بخلاف أغلب المواقف العربية، وأشادت في أكثر من مناسبة بالدور التركي في ليبيا.
ولأنقرة والدوحة، خصومات إقليمية مع عدد من دول المنطقة، على رأسها مصر والسعودية والإمارات والبحرين، بسبب "دعمها لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية والتدخل في شؤون الدول العربية" وفق ما أعلنت الدول العربية في بيان المقاطعة.
مساعي حماية الأمن القومي العربي
انطلاقاً من مبدأ دعم الجيوش الوطنية، وضرورة تفكيك الميليشيات المسلحة ومحاربة الإرهاب حفاظاً على الأمنين "العربي والدولي"، تدعم عدة عواصم عربية ودولية قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وعلى رأسها القاهرة وأبو ظبي وعمان وموسكو.
وتقف مصر والإمارات إلى جانب قوات الجيش الوطني الليبي ضد المتشددين في شرق ليبيا منذ عام 2014، وتعتبراه حصناً ضد الجماعات المتشددة بما في ذلك الإخوان المسلمون، التي تصنفها البلدان "جماعة إرهابية".
وبخلاف أنقرة، حاولت كل من القاهرة وأبو ظبي جمع الفرقاء الليبيين والتأكيد على الحلول السياسية للأزمة الليبية، إذ جمعت العاصمة الإماراتية في فبراير (شباط) من العام الماضي 2019، كلاً من حفتر والسراج لتقريب وجهات النظر، وقدمت القاهرة في السادس من يونيو (حزيران) الحالي، "إعلاناً يتضمن مبادئ للحل السياسي في ليبيا ووقف إطلاق النار"، وهو ما رحبت به عواصم دولية عدة، فيما رفضته أنقرة وحكومة الوفاق.
ورغم توجهات القاهرة وأبو ظبي نحو دعم الحلول السياسية، ذهب باحثون من الأمم المتحدة، إلى أن مصر كانت معبراً للأسلحة، كما كانت أراضيها نقطة انطلاق ضربات جوية في ليبيا، وهو ما نفته القاهرة. الأمر ذاته ردده متخصصون في الأمم المتحدة بشأن تزويد الإمارات حفتر بطائرات مسيرة ودفاعات جوية روسية الصنع ومركبات مدرعة. ونفته أبو ظبي جملة وتفصيلاً، مشددة على تأييدها لوقف إطلاق النار والحل السياسي.
ويرى الحفني، "أنه بخلاف الموقف التركي، تمثل ليبيا امتداداً استراتيجياً وعمقاً حيوياً بالنسبة للقاهرة والعواصم العربية، إذ تربط بين البلدين حدود تتجاوز الـ1000 كم. فضلاً عن علاقات المصاهرة والتداخل القبلي والاجتماعي بين البلدين على مر العصور".
وبحسب الحفني، "أي تهديدات أمنية وعسكرية في ليبيا تمس بشكل مباشر الأمن القومي المصري والعربي معاً، وهو ما بدا في تحذيرات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأخيرة وإعلانه للمرة الأولى بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا حال تجاوز خط سرت والجفرة".
وتابع، منطق مصر بخطوطها الحمراء وعدم تجاوزها تجنباً لمزيد من تهديد الأمن القومي المصري والعربي، الذي يفرض حركته على المسرح الإقليمي والدولي مصحوباً بضغوط لتسريع الحل السياسي وتجنب التصعيد العسكري".
وقالت مصر مراراً إن حدودها الغربية الطويلة مع ليبيا التي تمتد لمسافة 1100 كيلو متر مصدر قلق أساس بالنسبة لها. وأكدت في أكثر من مناسبة أن اعتداءات وقعت داخل الأراضي المصرية خطط لها متطرفون تسللوا عبر الحدود مع ليبيا.
وبعكس الموقف المصري والإمارات الداعم للجيش الليبي، يأتي الموقف الروسي في الاتجاه ذاته لكن، ووفق مراقبين بـ"أجندة مغايرة".
ففي الوقت الذى تقول الأمم المتحدة إن شركة فاغنر الروسية نشرت ما يصل إلى 1200 من المرتزقة في ليبيا. ويقول الجيش الأميركي إن موسكو أرسلت طائرات مقاتلة لدعمهم. وتستخدم الأسلحة الروسية الصنع على نطاق واسع في الحرب. تنفي موسكو إرسال قوات أو طائرات وتدعو إلى الحل السياسي.
وبحسب مراقبين ومعنيين فإن التدخل الروسي في ليبيا "يهدف لكسب المزيد من النفوذ في شرق البحر المتوسط". يقول محمد مطاوع، "الدخول الروسي على خط الأزمة الليبية زاد من مخاوف الأوروبيين والأميركان بشأن التوسع الروسي جنوب المتوسط". تابع "الولايات المتحدة تخشى توسع التدخل الروسي، وهناك بعض التوافقات والتقاطعات في المصالح بين أنقرة وموسكو في الملف الليبي، الأمر الذي يضفي مزيداً من التعقيد على الحالة الليبية".
أوروبا المنقسمة تلملم موقفها
فيما تنظر الدول الأوروبية بقلق إلى ليبيا بسبب قضايا الهجرة وإمدادات الطاقة والجماعات المتشددة. تبقى الخلافات في الآليات والوسائل أهم ما يميز مواقف دول القارة العجوز المنخرطة بشكل مباشر في ليبيا، وبالأخص إيطاليا وفرنسا.
وفي الوقت الذي أرسلت فيه روما قوات لتدريب قوات الأمن في حكومة الوفاق الوطني. تدعم باريس قوات المشير حفتر على نطاق واسع مع الاعتراف رسمياً بحكومة الوفاق الوطني.
من جانبها تعترض اليونان وقبرص على الاتفاق البحري بين تركيا وحكومة الوفاق وتعارضان وجودها في ليبيا. وبين تباين المواقف الأوروبية نشرت مهمة لمراقبة حظر الأسلحة تابعة للاتحاد الأوروبي سفينة تابعة للبحرية الفرنسية. حيث تتدفق معظم الإمدادات المنقولة بحراً إلى حكومة الوفاق الوطني من تركيا.
وبحسب الكاتب والباحث الإيطالي المتخصص بالشأن الليبي، بيير فرانسيسكو كورتسي، "أصابت الخلافات الحادة في مواقف الدول الأوروبية موقف الاتحاد بالضعف تجاه الأزمة الليبية، وباتت فاعلية عواصمه مجردة من مخالبها لحث الأطراف على التوصل لحل سياسي".
يضيف كورتسي، "انخراط أطراف أوروبية بشكل منفرد في الأزمة الليبية كفرنسا وألمانيا وإيطاليا، عقّد من إمكانية إيجاد حلول سياسية سريعة للأزمة المتفاقمة منذ سنوات". منتقداً في الوقت ذاته عجز الاتحاد الأوروبي عن التعاطي مع "التصعيد الجاري بين أنقرة والقاهرة، واحتمالات نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بينهم في ليبيا". مشيراً، على حد وصفه، إلى أن "المصلحة الحقيقية الوحيدة للجماعة الأوروبية تبدو في الحد من وصول المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى عبر سواحل شمال أفريقيا، خصوصاً من ليبيا".
وفيما تبدو أوروبا منقسمة تجاه ليبيا، يصيب الغموض الموقف الأميركي من الأزمة، حيث أبدت فيه واشنطن معارضتها لهجوم حفتر على طرابلس أبريل (نيسان) من العام الماضي، بعد أن أرسلت رسائل متباينة في بعض الأحيان. كما انتقد جيشها التدخل الروسي.
ويرى مراقبون أن احتمال أن تلعب واشنطن دوراً أكثر نشاطاً في ليبيا غير وارد في الوقت الراهن مع "تفضيل الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقليل التدخلات المباشرة لبلاده في أزمات المنطقة".
ويقول الحفني، "تعتقد الولايات المتحدة أنها لا تمتلك مصالح حيوية في ليبيا بالوقت الراهن، وهو ما دفعها إلى الانسحاب بشكل فعلي منذ واقعة مقتل سفيرها في بنغازي عام 2012، لكن أعاد زيادة الدور الروسي في الأزمة إلى مراجعة واشنطن لسياساتها تجاه ليبيا. ومع التصعيد العسكري المرجح في حالة حدوثه قد نجد دوراً أميركياً أكبر في الأزمة".
المدنيون في معادلة الصراع
ومع اشتداد وقع الصراع في ليبيا وطول أمده، يحذر مراقبون ومتخصصون من تدهور أوضاع المدنيين في البلد، الذي يملك تاسع احتياطي نفط في العالم، ويتمتع بثروات كبيرة من الغاز.
ويرصد كورتسي، "يغيب عن المجتمع الدولي الحلقة الأضعف في الصراع؛ وهم السكان المدنيون، الذين يعتبروا الضحية الرئيسة لصراع التنافس الخارجي على ليبيا، وكما حدث في سوريا، تتنافس الأطراف الخارجية على السلطة، عبر دعم وتأييد أحد أطراف الأزمة الداخلية". مشيراً إلى أنه "لن يكون من السهل إيجاد اتفاق لوقف إطلاق نار حقيقي ودائم بسبب تضارب المصالح بين الأطراف الخارجية".
وأمس الأول الاثنين، تبنى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، قراراً بدون تصويت يطلب إرسال "بعثة تحقيق" إلى ليبيا لتوثيق التجاوزات التي اُرتكبت في هذا البلد منذ 2016. وذلك بعد أن قدّمت مجموعة دول أفريقية مشروع القرار مارس (آذار) في إطار الدورة الـ43 لمجلس حقوق الإنسان، لكن الدول لم تتمكن من مناقشته بسبب فيروس كورونا، الذي أرغم الأمم المتحدة على تعليق الدورة.
وندد المجلس في نص القرار، "بكل أعمال العنف التي اُرتكبت في ليبيا" وأبدى قلقه للمعلومات التي تتحدث عن عمليات تعذيب وتجاوزات أخرى في السجون الليبية، وطلب من المفوضة العليا لحقوق الانسان في الأمم المتحدة ميشيل باشليه، "أن تشكل وترسل بعثة تحقيق إلى كامل الأراضي الليبية".