أضفى تلويح القاهرة بـ"التدخل العسكري المباشر" في ليبيا، حال إصرار قوات حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من أنقرة، على المُضي قدماً باتجاه خط سرت - الجفرة "الاستراتيجي والمهم" بالنسبة إلى مصر، وفق تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال تفقده قاعدة براني العسكرية غربي البلاد، مزيداً من الزخم الإقليمي والدولي.
ومع ردّ تركيا وحكومة الوفاق أن أي وقف لإطلاق النار في ليبيا مرتبط بانسحاب قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الرجل القويّ في شرقي البلاد، من مدينة سرت، والعودة إلى خطوط ما قبل عام 2015 (تاريخ توقيع اتفاق الصخيرات الذي انبثقت منه حكومة الوفاق)، تتزايد النقاشات العسكرية والأمنية والسياسية في مصر والإقليم بشأن الأيام والأسابيع المقبلة في ما يخص الأزمة الليبية، وأيّ سيناريوهات ستشهدها حال اندلاع مواجهات مباشرة بين القاهرة وأنقرة في الأراضي الليبية، لا سيما بعد تأكيد الرئيس المصري تحذيره بأن سرت والجفرة "خط أحمر"، قائلاً "إذا كان يعتقدُ البعض أنه يستطيع أن يتجاوز خط سرت أو الجفرة فهذا بالنسبة إلينا خط أحمر".
سيناريوهات التدخل المصري
في الوقت الذي يرى فيه دبلوماسي مصري رفيع المستوى، أن تصريحات الرئيس المصري "أعادت ضبط الموازين العسكرية بالساحة الليبية بتأكيده المباشر خطوط القاهرة الحمراء، وجهوزية القوات المصرية لوفاء التزاماتها، وحماية أمنها القومي دون لبس أو غموض"، ما يعني وفق حديث الدبلوماسي المصري المعنيّ بالملف الليبي لـ"اندبندنت عربية"، "إعادة الأطراف الخارجية المنخرطة بشكل مباشر في الصراع حساباتها، وترجيح استبعاد سيناريوهات المواجهة العسكرية المباشرة المكلفة لكل الأطراف، وإفساح المجال لمزيدٍ من المفاوضات السياسية"، يرسم معنيون بالعمليات العسكرية سيناريوهات نشر قوات مصرية في ليبيا.
وحسب اللواء صفوت الديب، مدير كلية الحرب العليا بأكاديمية ناصر العسكرية، "فإنه ورغم الرفض السياسي المُعلن لتركيا وحكومة الوفاق تصريحات الرئيس المصري فإني أعتقد أن الرسالة وصلت إليهما، ولن تتجاوز قواتهما خط سرت - الجفرة، ما يُبعد احتمالية التدخل العسكري برّاً في المدى القريب من قِبل مصر، مع استمرار دعمها الجيش الوطني الليبي".
ويرى الديب، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن "انتشار قوات برية مصرية كبيرة بالأراضي الليبية قد يُنهي الأمر، لكن إذا طال بقاؤها سيصبح المكان مستنقعاً يستنزف كل الأطراف المنخرطة في الصراع"، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن "أنقرة والوفاق يعلمان أن التدخل المصري المباشر ليس من مصلحتهما وسيتجنّبان ذلك".
ويوضح، "الحسابات الاقتصادية وتعدد جبهات الصراع المنخرطة فيها تركيا من سوريا إلى العراق إلى ليبيا، وحتى التوتر القائم بمنطقة شرق المتوسط في ما يتعلق بالغاز، تدفع أنقرة إلى إعادة حساباتها العسكرية بليبيا في حالة الانخراط المصري المباشر بالأزمة".
وعن احتمالات التدخل المصري، يقول اللواء جمال مظلوم، المتخصص الأمني والمستشار بأكاديمية ناصر العسكرية، "حدوث التدخل من عدمه مرتبط ارتباطاً مباشراً بالموقف التركي وحكومة الوفاق، ومدى إصرارهما على المُضي قدماً في العمليات العسكرية على الأرض، ومحاولة تجاوز سرت والجفرة".
وتدور منذ أسابيع معارك في محيط سرت (المدينة الاستراتيجية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط) بين القوات الموالية حكومة الوفاق وقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر المدعومة من القاهرة وعواصم إقليمية أخرى.
وأمس السبت، شدد الرئيس المصري، في تصريحاته، على أن بلاده "تقف اليوم أمام مرحلة فارقة"، مضيفاً "تتأسس على حدودنا تهديدات مباشرة تتطلب منا التكاتف والتعاون ليس في ما بيننا، إنما مع أشقائنا من الشعب الليبي والدول الصديقة، لحماية والدفاع عن بلدينا ومقدرات شعوبنا من العدوان الذي تشنّه الميليشيات المسلحة الإرهابية والمرتزقة بدعم كامل من قوى خارجية".
وتابع، "أي تدخل مباشر من الدولة المصرية بات تتوافر له الشرعية الدولية، سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة لجهة حق الدفاع عن النفس، أو بناءً على السلطة الشرعية الوحيدة المُنتخبة من الشعب الليبي، مجلس النواب".
ووفق اللواء مظلوم، فإن "أي تدخل عسكري مصري سيكون هدفه الرئيس حماية وتأمين الحدود الغربية لمصر بعمقها الاستراتيجي، والعمل على استعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والأمن القومي العربي"، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن درجة التدخل والانخراط ستعتد بالأساس "على قدرة تنفيذ تلك المهام الاستراتيجية". ولم يستبعد مظلوم انخراط مصر الكامل بريّاً وبحريّاً وجويّاً بالأزمة الليبية حال مُضيّ الطرف الآخر في عملياته العسكرية سعياً للسيطرة على "سرت أو الجفرة".
وحسب تصنيف موقع "غلوبال فاير باور" لأقوى الجيوش في العالم، يقع الجيش المصري ضمن قائمة أقوى عشرة جيوش عالمياً، محتلاً المرتبة التاسعة، بينما نظيره التركي يأتي في المركز الحادي عشر، ويتباين ترتيب أسلحة الجيشين البرية والجوية والبحرية.
ويعتمد الموقع على 55 عاملاً في التصنيف، لتحديد "مؤشر القوة" لكل جيش، ولا يعتمد فقط على العدد الإجمالي للأسلحة الموجودة لدى أي دولة، لكن يركّز بدلاً من ذلك على تنوّع السلاح، وتطور التكنولوجيا المستخدمة.
وقال مظلوم، "كل السيناريوهات مفتوحة في حال تجاوز الخطوط الحمراء المصرية"، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن "مصر لا ترغب في الانخراط عسكريّاً بليبيا، وأن الحلول السياسية تبقى الأجدى لحل الأزمة، وخطاب الرئيس في مجمله لم يكن إعلان حرب بقدر ما كان تأكيد حضور في الملف الليبي".
لماذا سرت والجفرة "خط أحمر" للقاهرة؟
حسب حديث العسكريين المتخصصين إلى "اندبندنت عربية"، فإنّ استراتيجية موقع مدينة سرت باعتبارها نقطة تلاقي بين شرقي وغربي ليبيا، يضاعف من أهميتها لأطراف الأزمة، موضحين أنها "تعد مفتاح السيطرة على ليبيا بكاملها، كونها نقطة التقاء المناطق الليبية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، كما أنها قريبة من موانئ وآبار النفط الرئيسة بمنطقة الهلال النفطي بالشرق الليبي، التي تضم أكبر مخزون للنفط بالبلاد".
ومدينة سرت هي مسقط الزعيم الراحل معمر القذافي، وتقع على بعد 300 كلم من الساحل الأوروبي، وفي منتصف الطريق الساحلي بين طرابلس (تبعد عنها نحو 450 كلم)، وبنغازي (تبعد عنها نحو 600 كلم) حيث مقر الحكومة الليبية الموازية بالشرق.
وفي العام 2015 سقطت المدينة في يد تنظيم داعش، الذي استغلّ الفوضى التي شهدتها ليبيا بعد سقوط القذافي، ليتمدد في مناطق عدة بالبلاد. واستعادتها قوات حكومة الوفاق في 2016، قبل أن يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي يناير (كانون الثاني) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأهميتها بالنسبة إلى مصر، يقول صفوت الديب، "إجمالاً، إن خط سرت الجفرة بمثابة منتصف ليبيا تقريباً، وتجاوزه من قِبل أطراف معادية القاهرة يعني الدفع بمزيدٍ من العناصر الإرهابية والتخريبية عبر الحدود الليبية المصرية، التي تمتد إلى نحو 1115 كلم"، موضحاً "الحفاظ على المصالح المصرية ومواجهة المخاطر يتطلبان تأمين أبعد نقطة ممكنة تمثل مثل هذه التهديدات، وخط سرت الجفرة بمثابة هذه النقطة لمصر".
ويتابع الديب، "مدينة سرت، التي تبعد نحو ألف كيلومتر عن الحدود المصرية، توجد بها قواعد عسكرية مهمة، مثل قاعدة القرضابية الجوية التي تبعد عن جنوب المدينة نحو 16 كيلومتراً، وفي الجفرة حيث تقع قاعدة الجفرة الجوية وهي من أكبر القواعد العسكرية الليبية". وهي القواعد التي قال اللواء جمال مظلوم، إنها "تمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي والمصالح المصرية، في حال سيطرت عليها قوات معادية مصر".
ويوضح مظلوم، "بالنسبة إلى موقع الجفرة فإنها تمتاز بأنها تقع في وسط البلاد، وتعد بمثابة محور الربط الاستراتيجي بين شرق وغرب وجنوب ليبيا الاستراتيجي، والتحكّم في قاعدتها العسكرية يعني التحكّم في النصف الجنوبي لليبيا".