امزج بين مسرحية للنيجيري وول سوينكا وعمل تعليمي لبرتولد بريخت فتكون النتيجة فيلماً لغلاوبر روشا، بل بشكل أكثر تحديداً فيلم روشا الذي يحمل عنواناً في منتهى الغرابة. هو عنوان ستلوح غرابته فقط إن استخدمناه بشكله الأصلي الذي جعله له المخرج/ الكاتب. لكن أحداً لا يستعمله بذلك الشكل خارج البرازيل على الأقل. فإذا كان العنوان يُترجم عادة بـ"للأسد سبع رؤوس" فإنه يتألف في الأصل من كلمات تفيد المعنى ذاته لكن كل واحدة منها كُتبت بلغة، واحدة بالألمانية والأخرى بالإنجليزية ثم بالألمانية فالبرتغالية... إلخ. وبهذا يبدأ اللعب في هذا الفيلم منذ عنوانه، لكنه لا يتوقف عند العنوان.
فإذا كان فيلم روشا المدهش هذا يتناول في مضمونه ذلك الصراع الحادّ، والذي كان معمّماً حين ظهر الفيلم، بين ما كان يُسمى "الإمبريالية" وشعوب "العالم الثالث"، وموضوعه ليس فقط "نهب ثروات تلك الشعوب" بل بخاصة، التوزعات الطبقية والعرقية التي تقف في خلفية ذلك الصراع، فإن الشكل الذي اختاره روشا لفيلمه أتى شكلاً احتفالياً كرنفالياً هو الذي يجمع كما أشرنا بين سوينكا وبريخت، مع ميل أكثر نحو احتفالية سوينكا الصاخبة.
إفريقيا الحاضنة المنهوبة
ولئن كنا هنا نذكر سوينكا فما هذا إلا لأن "أحداث" الفيلم تدور في إفريقيا. ولكن من حول المتوحشة البيضاء مارلين "شقراء الإمبريالية" كما تُعرّف في الفيلم، عشيقة العميل الأميركي والتي تقود معه طغمة من جنسيات مختلفة ترمز إلى مختلف القوى الكولونيالية التي لا تزاال تتقاسم الخيرات التي سبق أن نهبت معظمها، ولكن تحت قيادة الولايات المتحدة هذه المرة. إذاً هو الصراع الاقتصادي التجاري ما نتابعه في الفيلم الذي حققه روشا في عام 1970 في غمرة الاهتمامات "النضالية" بمثل تلك الشؤون، وفي غمرة خروج غلاوبر روشا نفسه من بلده البرازيل ليتحوّل من واحد من مؤسسي "السينما نوفو" إلى سينمائي عالمثالثي بامتياز. بيد أن الأمور ليست على مثل تلك البساطة ولا على مثل تلك التبسيطية.
في فيلم روشا السياسي هذا، ثمة مكان عريض للعب، للفرجة، للضحك للتهريج وللكرنفالية باختصار، وهي أمور لم تكن معهودة من قبل في السينما صاحبة القضايا الجادة في ذلك الحين. كان الجادّون ينظرون إليها بازدراء إن لم يكن بريبة. الضحك ممنوع واللعب خيانة للثورات! ومن هنا حين جاء روشا، الذي كان رمزاً ثورياً أيقونياً في ذلك الحين، وجعل صراعاته لاعبة ضاحكة لا تقسم الناس بين الأسود والأبيض بل توزع الأشرار بين كل الفئات والأعراق، أسقط في يد النقاد المتجهمين. لكنهم لم يتمكنوا من وصم المبدع بالخيانة وبالتالي حدثت تلك القلبة الصاخبة في عالم الإبداع الثوري، ولو إلى حين!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بداية سابقة
مهما يكن لا بد من العودة هنا إلى عام 1964 أي قبل ذلك بستة أعوام، حين كان الاكتشاف العالمي الكبير لذلك التيار السينمائي الذي انفجر كالعاصفة وأثّر في طول عالم السينما وعرضه: "تيار السينما الجديدة" في البرازيل، والذي عرف بـ"سينما نوفو". ففي ذلك العام عرض مهرجان كان في الجنوب الفرنسي فيلم "الإله والشيطان في بلاد الشمس" (الذي عرف باسمه المترجَم "الإله الأسود والشيطان الأشقر"). وعبر ذلك الفيلم اكتشف هواة السينما، ولا سيما منهم أولئك الذين كانوا في ذلك الحين يمعنون في الربط بين فن السينما ونضالات العالم الثالث التحررية، كيف يمكن للسينما أن تقول قضايا المجتمع وأن تدعو إلى الحرية والنضال، من دون أن تكون سينما مملة وقبيحة. فذلك الفيلم، إلى بعده السياسي التحريضي، كان فيلماً عابقاً بالجمال، يمكن لمحبي السينما الصرف أن يستمتعوا بمشاهدته حتى وإن كانوا غير مهتمين بالسياسة عبر السينما.
وكان غلاوبر روشا نفسه مخرج ذلك الفيلم، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، مليئاً بالحيوية، يصر في كل مرة يُسأل فيها على أن فرديته لا تعني شيئاً وأن أهميته تكمن في كونه جزءاً من جماعة (جماعة "السينما الجديدة"). وهكذا جاء غلاوبر روشا ليضفي بفيلمه القديم ذاك، وبتوجهه السياسي وكذلك بخطابه، بعداً جديداً على سينما عالمية كانت تبحث عن نفسها وعن هويتها.
ولكن لئن كان عالم السينما قد اكتشف روشا، عبر ذلك الفيلم، فإن الفتى كان معروفاً لأهل بلده منذ ما قبل ذلك، أولاً من خلال مجموعة من الأفلام القصيرة التي كان حققها بدءاً من 1957، وبعد ذلك بفضل دراسة نقدية عن تاريخ السينما البرازيلية كتبها في عام 1963.
موت مبكر في المنفى
غلاوبر روشا مات بعد ذلك، في صيف عام 1981، في فرنسا، حيث كان يعيش في ما يشبه المنفى. وكانت السنوات التي فصلت بين ظهور اسمه في مهرجان كان، وغروب التيار الذي كان يمثله وكان أبرز زعمائه، كانت قد شهدت اندحار كل تلك الرغبات التجديدية التحريضية، على مذبح تفاهة تلك المرحلة التي بدأت أواسط سنوات السبعين وخبت فيها الأحلام الكبيرة. ولعل لحظة المجد الكبيرة الأخيرة التي عاشها روشا كانت في 1969 حين فاز فيلمه "أنطونيو داس مورتس" بجائزة النقاد في مهرجان كان. بعد ذلك تفرق شمل الجماعة، وراح كل مخرج يحاول أن يبحث عن فرديته. صحيح أن روشا لم يتوقف عن الإنتاج حتى لحظات حياته الأخيرة، لكنه كان قد أضحى أكثر "عقلانية" و"واقعية" ولم تعد الأحلام الكبيرة، على المستوى الجماعي، لتخطر له في بال.
ولد روشا في 1939، في باهيا، وامتهن الصحافة، قبل أن يغرم بالمسرح الشعري، حيث أخرج مسرحيات قائمة على أساس قصائد معروفة أو قصائد كان يكتبها بنفسه. وهو بعد أن توقف عن دراسة الحقوق، انصرف إلى كتابة النقد السينمائي، ثم حقق أول فيلم قصير له بعنوان "أو باتيو" في 1958 وكان في التاسعة عشرة من عمره. أما فيلمه الطويل الأول "العاصفة" فقد حققه وهو في الثانية والعشرين، ومنذ تلك اللحظة ارتبط بزملائه من أمثال روبرتو بيريس ووالتر ليما وكارلوس دييغيز وبيريرا دوس سانتوس، في جماعة راحت تؤسس لسينما برازيلية جديدة تنطلق موضوعاتها وجمالياتها من هموم الجمهور البرازيلي، وتحاول أن تعثر على تمويلها بشكل جماعي. ولقد عرفت تلك الجماعة، أولاً عبر الأفلام القصيرة ثم عبر فيلم دوس سانتوس "حيوات جافة".
خطوات متعثّرة
بعد النجاح الكبير الذي حققه روشا في "الإله والشيطان في بلاد الشمس" حقق أفلاماً قصيرة عدة قدم بعدها فيلمه الكبير "الأرض تهتز" (1966) ثم "أنطونيوس داس مورتيس" (1968) ثم الفيلم الغريب "للأسد سبع رؤوس". وهو بعد ذلك راح يخرج من البرازيل تدريجياً بفضل إنتاجات مشتركة مع فرنسا وألمانيا سهلها انتشار اسمه وكتاباته. لكن مجده الكبير كان قد أضحى وراءه، على الرغم من انضمامه إلى كبار مخرجي جيله عبر أفلام متفاوتة الجودة والتوجه مثل "رؤوس مقطوعة" و"المصور التوبامارد" و"سوبر بالوما" و"تاريخ البرازيل" وبخاصة "رحلات مع جولييت في مصر واليونان"؛ وهي كلها أفلام حققها خلال النصف الأول من سنوات السبعين، وبدت بعيداً جداً عن أساليبه الباروكية القديمة إذ كانت أفلامه الأولى، ولا سيما الطويلة منها، قد اتسمت على الدوام بطابع دينامي، يستلهم المناخ الأسطوري، ويختلط فيه الواقع بالحلم، والسحر بالنضال وتتقاطع فيه الشخصيات تقاطعاً مدهشاً، وذلك على غرار الأدب الأميركي اللاتيني الذي عرف بـ"الواقعية السحرية". في 1981 إذاً، رحل غلاوبر روشا عن عالمنا في وقت كانت تيارات العمل الجماعي قد اندثرت، ليبقى اسمه ويُكتب عنه، بوصفه واحداً من خيرة من أنتجتهم سينمات العالم الثالث، واحتضنتهم أوروبا.