في الفيلم الوثائقي "فقط صوتي" تروي أربع نساء مُهاجرات من سوريا قصة وصولهن إلى مدينة أثينا وتجاربهن الشخصية في العيش والتأقلم مع حياتهن الجديدة، وكيف يتعايشن مع مشاعر الحنين الجارف لأوطانهن. الفيلم مدته إثنتا عشرة دقيقة للمخرجة البريطانية مريام راي. عُرض الفيلم في أكثر من مهرجان دولي منذ إنتاجه عام 2017 ، وحصُل على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان "نوفا فرونتير" السينمائي الدولي في نيويورك، وهو أحد أهم المهرجانات الدولية التي تفسح مجالاً لسينما الأقليات والمهاجرين. وقد استضاف مركز الشارقة للفنون أخيراً عرضاً للفيلم عبر منصته لعروض الأفلام ضمن ثلاثة أفلام أخرى قدمت على المنصة تحت عنوان "أشباح الأغاني: تواريخ شفاهية في سينما الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"
في فيلم "فقط صوتي" فضلت النساء المشاركات عدم الكشف عن هوياتهن، لذا فقد اكتفت مخرجته بعرض أصواتهن فقط. تكشف أصوات النساء الأربع وحكايتهن في الفيلم عن قصص الوطن والشتات والمشاعر المتناقضة والتجارب الشخصية في التفاعل مع بيئة مختلفة عن تلك التي نشأن فيها. يبدأ الفيلم بمشهد للبحر وصوت فتاة تتحدث عن تجربتها. يحمل صوت الفتاة القوي مزيجاً من التحدي والشجن، وهي لا تُفصح بالطبع عن اسمها، لكنها تصر في حديثها على تمسكها بالحياة وتجاوز المحن التي مرت بها. تعمل الفتاة منذ قدومها إلى أثينا في بيع الزهور للعابرين على الطريق بصحبة أمها، ولا تشعر كما تقول بالغربة، فقد تعلمت لغة البلد وأتقنتها خلال السنوات القليلة التي قضتها هنا، حتى أن البعض يتعامل معها كيونانية. كل ما يقلقها هو هذه الذكريات الأليمة التي تحاول نسيانها أو تجاوزها، ورغبتها في زيارة قبور من ماتوا من أهلها في سوريا، وهي تجد السلوى في رائحة أزهار الليمون التي تُذكرها دائماً بالوطن.
إصرار النساء المُشاركات في الفيلم على إخفاء هوياتهن مثّل بلا شك تحدياً لمخرجة الفيلم، لكنها استطاعت بمهارة تُحسب لها، توظيف هذا القيد وتحويله إلى وسيلة إبداعية، فهذا الإخفاء المُتعمد أفسح المجال لأساليب أخرى للسرد البصري قوامها الشكل والصوت. تتداخل في مشاهد الفيلم المناظر الطبيعية للمدينة مع حركة الأجساد، والرسوم الغرافيكية على الجدران وحركة الناس في الشوارع، وغيرها من التفاصيل التي وُظفت كعناصر رئيسية تتفاعل مع شخصيات الفيلم المتوارية خلف عدسة الكاميرا ولا يظهر منها سوى ظلها أو هيئتها أحياناً ضمن لقطات واسعة من دون تأكيد على ملامح الوجه.
حضور الموسيقى
تأتي الموسيقى في الفيلم من بين العناصر الرئيسية التي شكلت تفاصيل العمل ككل، إذ يتشابك إيقاعها مع أصوات النساء وجَلَبة المدينة، لتفرض على أجواء العمل مزيجاً من المشاعر الحالمة والمُتخمة بالشجن. يبدأ الفيلم بلقطات هادئة ثم ما يلبث أن تتسارع وتيرة الحركة فيه مع الوقت، لتنتهي بمشاهد ليلية تزدحم خلالها شوارع المدينة بالمارة. تُختتم المشاهد أخيراً بصوت إحدى النساء وهي تتلو قصيدة تُعبر خلالها عن حنينها إلى دمشق، مع خلفية باهتة لميناء أثينا وقد خيم عليه الضباب. في الفيلم ربط مهندس الصوت "فابيان ديبار" بين صوت كل فتاة وتفاصيل صوتية أخرى مميزة للمدينة، مع مزيج موسيقي قريب الشبه بإيقاعات الغناء العربي ليعكس هذا المزيج مشاعر الانتظار والحنين والشجن والتحدي في آن. ما يؤخذ على الفيلم- وهو أول عمل وثائقي لمخرجته البريطانية- أنه أزال الحدود بين الشخصيات المُشاركة فيه، على نحو بدت فيه هذه الشخصيات الأربع ككيان واحد، من دون البحث عن سمات تميز كل شخصية على حدة، فبدى السرد كحكاية واحدة ممزقة الأوصال. ولتجاوز ذلك يتطلب الأمر أن يكون المُشاهد على دراية مُسبقة بطبيعة هذا السرد المتعدد الأطراف.
تستمر عروض الأفلام حتى السادس والعشرين من يونيو وتضم خلافاً لفيلم "فقط صوتي" فيلمين آخرين هما "بابا كركر" للمخرج جلال وحيد، وفيلم "كسلسلة من الخرز" للمخرجة الفلسطينية إيناس حلبي. يستكشف الفيلم الأول وهو تجريبي مدته سبع دقائق، الرمزية التي تُحيط بالنيران المشتعلة في حقل بابا كركر النفطي في شمال العراق (بابا كركر تعني بالكردية الأب المُشتعل) وهو تركيب لغوي له انعكاس في الثقافة الكردية. أما الفيلم الآخر للمخرجة إيناس حلبي فهو فيلم تسجيلي مدته نحو نصف ساعة، وتوثق من خلاله المخرجة الفلسطينية حياة تسعة أشقاء يقيمون في قرية إعبلين شمال فلسطين. يستكشف الأشقاء في هذا الفيلم تواريخهم الشفاهية الفردية، ويُحاول أفراد العائلة بناء تاريخ جماعي لهم عبر الذكريات والحكايات المتوارثة. يكشف الفيلم عن تجارب متباينة للأحداث نفسها، متناولاً نقاط الخلاف والاتفاق الجماعي، ويتتبع إيقاعات الحياة اليومية والذكريات التي تسكن البيت. تتعرض حلبي في هذا الفيلم إلى ديناميكيات الأسرة في سياق النضال الفلسطيني الأوسع، مستكشفة تأثير المقاومة والعيش تحت ضغط الاحتلال على حياة الأفراد، ودوره المتواصل في تشكيل تاريخهم العائلي.
تأتي هذه العروض ضمن سلسلة عروض الأفلام التي تُقدمها مؤسسة الشارقة وتضم أفلاماً روائية طويلة وأفلاماً تجريبية ووثائقية تتناول موضوعات مختلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تسليط الضوء على تأثير الصراعات والقلاقل السياسية على حياة الأفراد. تُقدم هذه النماذج المنتقاة من الأفلام روايات بديلة لتلك المُتضمنة في التواريخ السائدة، ومعظمها مُستمد من ذكريات الشتات الجماعية المتوارثة.