مع تصاعد المخاوف بشأن تجدّد موجة تفشٍ ثانية لفيروس كورونا، ترتفع حدة التوقعات بخصوص أزمة الديون العالمية المتفاقمة، والضرر الكبير الناجم عن تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب عمليات الإغلاق التي يمكن أن تتكرر، إذا اشتدت رياح الموجة الثانية من الوباء المميت بما تحمله من تأثيرات أكثر ضراوة تقوض فرص التعافي الاقتصادي ولو بشكل تدريجي لندخل في سيناريو أكثر قتامة.
فما إن يتم اكتشاف علاج لفيروس كورونا، يصطدم الاقتصاد العالمي بمستويات ديون مرتفعة تهدد استقراره المالي، وينذر ذلك بطول أمد الأزمة المالية المرتبطة بالجائحة التي قد تستمر لسنوات طويلة.
لا يزال الوضع تحت السيطرة
وفي هذا الشأن، قال محللون ومتخصصون، إن أزمة الديون الحالية تثير القلق ولها تأثير كبير في زعزعة مفاصل النظام المالي العالمي، إلا أنهم أكدوا أن الوضع ما زال تحت السيطرة حتى الآن، لكن المخاوف من توقف النشاط الاقتصادي بشأن هجمة مرتدة للجائحة.
من جهته، دعا صندوق النقد والبنك الدوليين، إلى تعليق مدفوعات الديون الثنائية على الدول الأشد فقراً، لتخفيف العبء عليها في ظل مكافحة كورونا، حيث أشار الصندوق أخيراً إلى أن الوباء دفع العالم إلى حالة من الركود، وبالنسبة إلى عام 2020 فإنه سيكون أسوأ من الأزمة المالية العالمية في 2008، حيث يتصاعد الضرر الاقتصادي في مختلف الدول، مع الزيادة الحادة في حالات العدوى وإجراءات الاحتواء التي تطبق من جانب الحكومات.
كما اتفقت مجموعة العشرين، في أبريل (نيسان) الماضي على إجراءات لتخفيف عبء الديون عن الدول الأكثر فقراً التي أصابها كورونا، اعتباراً من الآن ولمدة عام واحد، بهدف منح الدول النامية "مساحة للتنفس" وسط جائحة فيروس كورونا المستجد، ما يوفر نحو 20 مليار دولار من السيولة الفورية.
ونهاية الشهر الماضي، قالت مجموعة العشرين إن 36 دولة تقدمت بطلب الاستفادة من مبادرة خدمة تأجيل سداد الديون، خلال الشهر الأول من تفعيل المبادرة، التي ستمكن الدول المستحقة من تحرير ما يصل إلى 14 مليار دولار من مستحقات الديون.
الديون الحكومية وصلت إلى مستوى قياسي
وفي تقرير حديث، حذّر معهد التمويل الدولي من تزايد الديون في العالم، خصوصاً في الفترة الحالية التي قد ينتج عنها تخلف دول وشركات عن سداد التزاماتها. وأوضح أن إجمالي الإصدارات من الديون الحكومية وصل إلى مستوى قياسي عند 2.1 تريليون دولار في مارس (آذار) الماضي، ما يساوي مثلي متوسط إجمالي إصدارات الحكومات الشهرية من أدوات الدين خلال الفترة من عام 2017 وحتى 2019 والبالغ نحو 900 مليار دولار. وتصل هذه الديون إلى 3.2 تريليون دولار إذا ما أُضِيفت إليها ديون باقي القطاعات الاقتصادية.
وذكر أنه إذا بلغ إجمالي قروض الحكومات مثلي مستواها عام 2019، وإذا ما حدث انكماش قدره 3 في المئة في النشاط الاقتصادي العالمي، فإن هذا سيرفع إجمالي الديون في العالم من 322 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 342 في المئة بنهاية العام الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجميد الديون
وفي هذا الشأن، قال رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، الإثنين الماضي، إن مبادرة تجميد ديون الدول الأشد فقراً في العالم التي أعلنتها مجموعة العشرين تحقق تقدماً، لكن ثمة حاجة إلى مزيد من الإعفاءات وإلى مشاركة أكبر من الدائنين في القطاع الخاص.
وأضاف مالباس أن 35 من 73 دولة مؤهلة تشارك في مبادرة مجموعة العشرين، التي ستجمد خدمة مدفوعات الديون الثنائية الرسمية حتى نهاية العام، وأن دولاً أكثر عبّرت عن رغبتها في المشاركة.
وتظهر قاعدة بيانات البنك الدولي أن مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الديون ستتيح ما يصل إلى 12 مليار دولار يمكن للدول استخدامها للتعامل مع الأعباء الاقتصادية والصحية الناجمة عن جائحة كورونا.
أزمة مقلقة
من جانبه، قال عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، وضاح الطه، إن أزمة الديون مقلقة للغاية، وتحتاج إلى انتباه وسيطرة، بعد أن أثرت كورونا في ارتفاع مستوى الديون في العالم، التي كانت مرتفعة بالأساس، حيث كانت التوقعات مطلع 2020 تشير إلى ارتفاع الدين إلى 257 تريليون دولار في الربع الأول من العام نفسه.
وأضاف أنه عند توزيع إجمالي الدين العالمي على 7.7 مليار نسمة (عدد سكان العالم) يكون نصيب كل فرد 32.5 ألف دولار من الديون، كما أن إجمالي الدين أكبر 3.2 مرة من الإنتاج العالمي.
وأرجع ارتفاع الديون بشكل أساسي إلى تكثيف سياسات التيسير الكمي كإحدى أدوات إدارة الأزمات المالية، ما أدى إلى ارتفاع الدين خصوصاً في الأسواق المتقدمة إلى 180 تريليون دولار، ما يعادل 383 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، وبالنسبة إلى الدول الناشئة تضاعف هذا الرقم بعد أن كان في 2010 في حدود 72 تريليون دولار.
سياسة التحفيز
وتابع الطه "رغم ارتفاع مستويات الدين إلا أن سياسة التحفير فعّالة وأفضل الطرق للخروج من الأزمة الحالية بعيداً عن التقشف، كما أن أحد الحلول المطروحة بقوة قيام الحكومات بعمليات الإنقاذ بالنسبة إلى الشركات الكبرى عبر ضخ أموال مقابل حصة لحين تجاوز الأزمة، ثم بعد انتهاء الأزمة تنسحب الحكومات تدريجياً بعد تعافي الشركات".
وأكد أنه رغم الدور الكبير للسياسات النقدية، فإنه لا يجب الاعتماد عليها بشكل كامل لتحقيق التعافي المرجو، إنما يجب أن تكون للسياسات المالية دور أيضاً يساعد في تخفيف الأضرار لعدم الوقوع في إخفاقات كبيرة في سداد الديون والتعرض للإفلاس.
تفاقم الديون
وقال جون لوكا، مدير التطوير في شركة "ثانك ماركتس"، إن حزم التحفيز عامل أساسي في تفاقم الدين العالمي خلال الفترة الحالية، وسيكون للتداعيات الاقتصادية للجائحة أثر أكبر خلال الفترة المقبلة، مضيفاً أن فترة ما بعد كورونا ستشهد مزيداً من إصدارات الديون لتمويل خطط التعافي الاقتصادي.
وأضاف أن مبادرات تعليق سداد الديون للدول الناشئة فرصة، لكنها بحاجة إلى تدابير مالية تقدر بـ2.5 تريليون دولار لتحفيز اقتصاداتها على النحو المطلوب، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
وأفاد لوكا بأن الاقتصادات الناشئة اقترضت أكثر من 83 مليار دولار من خلال سوق السندات الدولية، منذ بداية أبريل (نيسان) الماضي من أسواق الأسهم والسندات في أكبر 30 اقتصاداً ناشئاً لتمويل خطط التحفيز في هذه الدول، إلا أن المبالغ غير كافية وبحاجة إلى مزيد من التمويل، وقد تتفاقم حال تباطؤ عودة الأنشطة الاقتصادية.
التخلف عن السداد
وبحسب تقرير حديث لمعهد التمويل الدولي، فإن حالات التخلف عن سداد الديون بدأت تتزايد ووصلت إلى مستوى قياسي، إذ إن حجم تعثر سداد السندات الصادرة عن المؤسسات غير المالية صعد إلى 70 مليار دولار في الربع الثاني من 2020. وتمثل الشركات الأميركية ثلثي إجمالي حالات التعثر.
ووفق التقرير، بدأت حالات التخلف عن سداد الديون تتزايد، ووصلت إلى مستوى لم تشهده من قبل، و60 في المئة من هذه الحالات كانت بين الشركات الأميركية، وفقاً لأحدث الإحصائيات.
حزم ضخمة
ويصل حجم حزم التحفيز التي أقرتها دول العالم حتى الآن نحو 16 تريليون دولار، إلا أن التعافي الاقتصادي قد يكون له آثار جانبية مؤرقة خلال الفترة المقبلة، لا سيما على صعيد ملف الديون، بحسب التقرير.
وذكر معهد التمويل، أن أسواق المال ترحب بحزم التحفيز التي تقرها الحكومات، إلا أن التعافي الاقتصادي قد يأتي على حساب الإنتاجية الأقل ومعدلات الدين المرتفعة، مضيفاً أن حزم التحفيز العالمية تقدر بنحو 11 تريليون دولار، وهناك حزم قيد الموافقة قيمتها 5 تريليونات دولار، وأغلب تلك الحوافز تحصل عليها الدول من خلال إصدارها سندات في الأسواق المالية.
وأضاف المعهد أن الشركات المملوكة للحكومات ستكون لاعباً حيوياً في مرحلة التعافي، خصوصاً في الأسواق الناشئة، كما أن الدول لم تجد سبيلاً سوى الاقتراض من أسواق المال لتحفيز الاقتصاد، إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن احتياطيات البنوك المركزية العالمية فقدت أكثر من 175 مليار دولار خلال أقل من شهرين فقط.
ضيف ثقيل على الاقتصاد
وقال وائل حمّاد، المدير الإقليمي لدى شركة "آي سي إم كابيتال" البريطانية، إن القضاء على كورونا قد يكون ممكناً من المنظور الطبي البحت، لكن من المؤكد أن التخلص من تبعاته الاقتصادية أمر غير ممكن، حيث إن الإرث الذي سيخلفه هذا الضيف الثقيل على الاقتصاد العالمي سيكون كارثياً لمجرد التفكير فيه، موضحاً أنه بالتزامن مع المخاوف المتعلقة بشأن انكماش النمو العالمي والتوقعات بدخوله مرحلة كساد طويلة هي الأسوأ منذ قرن تقريباً، ويعود الضوء ليسلط مجدداً على أزمة تعاظم الدين التي كانت محور حديث الاقتصاديين حول العالم على مدار السنوات التي تبعت الأزمة العالمية في عام 2008.
وأكد أنه مع تقديم حكومات العالم تريليونات من الدولارات في حزم تحفيز والتعهد بالمزيد للمساعدة في دعم اقتصاداتها، يعود الحديث عن هذا الشبح الذي يرعب صناع السياسات المالية والنقدية لمجرد الحديث عنه، لا سيما أن تزامن الصدمة التي أحدثها الفيروس التاجي في الأسواق العالمية جاء على خلفية مالية خطيرة تتسم بتزايد الديون العالمية أصلاً.
ارتفاع المديونية العالمية
وأشار إلى أنه رغم ذلك، شهدت المديونية العالمية ارتفاعاً خلال مارس (آذار) الماضي في أعقاب لجوء الحكومات إلى تبني حزم ضخمة للتحفيز الاقتصادي لمجابهة كورونا، ما أدى إلى زيادة مستويات الاقتراض الداخلي والخارجي، وهو ما يتوقع في ضوئه ارتفاع المديونية العالمية بنسبة 342 في المئة عام 2020.
وقال إنه يجب على صناع السياسات النقدية والمالية تبني كافة الأدوات المتاحة للتغلب على صدمة الفيروس، إلا أن تراكم الدين (منذ الأزمة المالية الأخيرة) في قطاع الشركات غير المصرفية أمر يبعث على القلق، لافتاً إلى أن الانقطاع الحالي لسلاسل التوريد وانخفاض النمو العالمي ينطوي على هبوط الأرباح وصعوبة أكبر في خدمة الديون، الأمر الذي يثير احتمالات غير بعيدة لأزمة ائتمانية في عالم ذي أسعار فائدة منخفضة للغاية وسلبية في بعض الدول.
ارتفاعات غير مسبوقة
وقال رائد الخضر، رئيس قسم الأبحاث لدى "إيكوتي جروب"، مقرها دبي، "سجلت مستويات الدين العالمية سواء الداخلية أو الخارجية لحكومات العالم ارتفاعات غير مسبوقة منذ بداية أزمة تفشي كورونا، وهي في زيادة مستمرة طالما لم يتم التوصل إلى علاج أو لقاح ضد الفيروس".
وأوضح أن تلك الارتفاعات تأتي بعدما اضطرت الحكومات على الصعيد العالمي إلى زيادة مستويات الإنفاق وتقديم حزم قوية من التدابير المالية التحفيزية بعد إغلاق بلادها أمام المصانع ورحلات الطيران وتوقف عجلة الإنتاج وكسر سلاسل التوريد العالمية في محاولة لتعويض الضرر الناجم ولو بجزء بسيط عن تفشي جائحة كورونا.
وبيّن الخضر، أن الدول النامية هي الأكثر تضرراً جراء تفشي فيروس كورونا بما له من عواقب اجتماعية وصحية، ما دفع مجموعة العشرين إلى وضع ملف سداد ديون عام 2020 ضمن قائمة الأولويات القصوى التي تهدف إلى تخفيف تأثير مستويات الدين في الجهات المانحة وعلى الدول النامية.
وأكد أن مستويات الديون الحالية قد تضطر الحكومات بعد انتهاء الأزمة إلى اتباع سياسات تقشفية قوية في محاولة لإعادة بناء الموازنة العامة من خلال سياسات فرض الضرائب ومعدلات الفائدة المنخفضة أو السلبية على المدى الطويل، لكن ستكون هناك أضرار قوية على أرباح البنوك.
مضاعفة الأعباء
وفي هذا الشأن، قالت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، الإثنين الماضي، إن فيروس كورونا سيرفع مستويات الدين في الدول الأكثر ثراءً في العالم بنحو 20 نقطة مئوية في المتوسط في العام الحالي، وهو تقريباً مثلي الضرر الذي شهدته إبان الأزمة المالية.
وتوقع تقرير "موديز" الذي شمل تقييم الدين في 14 دولة من الاقتصادات المتقدمة، أن تعاني إيطاليا واليابان وبريطانيا من أكبر زيادة في الدين بنحو 25 نقطة مئوية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لكل منها، بينما ستسجل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وكندا ونيوزيلندا قفزة بنحو 20 نقطة مئوية.