لازمت اللبناني دوماً صورة نمطية معينة لاعتبار أن كبرياءه يمنعه من القيام بأشغال معينة فيستعين بالأجنبي لتنفيذها. وثمة أعمال عدة كان اللبناني يعتبر أنه من غير اللائق أن يقوم بها بنفسه. إلا أن واقع الحال اليوم يفرض تغييراً جذرياً على هذه الصورة، سواء تم ذلك إرادياً أو قسرياً. فالوضع الاقتصادي في البلاد لا يفسح المجال أمام التشبث أكثر بعد بهذه الذهنية. شيئاً فشيئاً يقر اللبناني أنه لا عيب في العمل أياً كان نوعه، طالما أنه يساعده على كسب العيش بشرف وبعرق جبينه. استبعد اللبنانيون الأعمال المنزلية دائماً، فكانت حكراً على الأجانب، إلى أن حصل ما حصل من أزمة اقتصادية خانقة في البلاد وأُرغموا على الرضوخ للواقع. وشهدت الأسابيع الأخيرة، تزايداً في الطلبات لمزاولة هذه الأعمال، وظهر ميل إلى القبول بهذه المهنة التي باتت هناك حاجة ماسة إليها في المجتمع اللبناني.
سعر الدولار
في السنوات الأخيرة، شهد قطاع استقدام العاملات الأجنبيات تراجعاً واضحاً إلى أن أتى ارتفاع سعر صرف الدولار بمعدلات خيالية بمثابة ضربة قاضية له. في الوقت ذاته، فرضت الأوضاع الاقتصادية المستجدة حاجة ملحة إلى التغيير التدريجي والقسري في ذهنية اللبنانيين ونمط عيشهم ليتأقلموا مع الوضع الحالي. وفُرض على المواطن اللبناني واقعاً مغايراً لذاك الذي كان يتبعه، ولم يعد قادراً على الاستمرار بذات المستوى المعيشي. عبارة "الشغل مش عيب" (العمل ليس عيباً) يرددها اللبنانيون منذ أجيال من دون أن يقرّوا بها ضمناً أو يلتزموا بها، إذ منعهم كبرياؤهم عن القيام بالأعمال المنزلية ومهن عدة أخرى. اليوم، لم يعد استقدام العاملات الأجنبيات وارداً في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار. في المقابل، ثمة حاجة إلى عاملات المنازل بسبب ظروف الحياة التي تفرض على الزوجين العمل خارج المنزل. لذلك، مع تردي ظروف المعيشة وارتفاع معدلات البطالة والفقر المتزايد، أصبحت الأعمال المنزلية من الأعمال التي بدأت تلقى قبولاً على لائحة وظائف اللبنانيين كما بدا في الأسابيع الأخيرة.
طلبات متزايدة للأعمال المنزلية
بدأ السيد إيلي مصروعة، الذي يملك مكتباً لاستقدام العمال في منطقة زحلة (محافظة البقاع، شرق لبنان) بالاستعانة بعاملات لبنانيات منذ حوالى الأسبوعين، بعدما توقف عن استقدام العاملات الأجنبيات نتيجة الظروف. وإضافة إلى الأعمال المنزلية التي تقوم بها شابات لبنانيات من المنطقة، تتراوح أعمارهن بين 20 و40 سنة، يستعين المكتب بشبان لبنانيين لتنفيذ مهمات عدة كانت حكراً على الأجانب ولم يُقبل اللبنانيون يوماً عليها، كأعمال الصيانة والعناية بالحدائق ورش المبيدات وغيرها. وقال مصروعة "بدأت الذهنية تتغير وثمة إقبال على هذه الأشغال التي كان يستبعدها اللبناني سابقاً. أما الأعمال المنزلية فتتقدم إليها شابات من الطبقة الفقيرة بشكل عام، هن من غير المتعلمات ويجدنها مهنة شريفة يمكن أن يعتشن منها. كما حضرت ممرضة سابقة خسرت عملها وتقدمت بطلب لمزاولة هذه الأعمال أو رعاية مريض أو مسن". وتتقاضى الفتاة لقاء عملها هذا حوالى 6 دولارات في الساعة وتعمل بمعدل 8 ساعات في اليوم، فيما يحدَد سعر مختلِف مناسِب لقاء الاتفاق على العمل في منزل ما، مرات عدة في الأسبوع. وتتقاضى العاملة حوالى 5 دولارات عن كل ساعة إضافية. وبالتالي تجد الفتاة هنا عملاً شريفاً يمكن أن تجني منه أكثر من 1000 دولار أميركي في الشهر فتكون فرصة مناسبة لها في ظل ندرة فرص العمل في البلاد حالياً. أما بالنسبة إلى الذين يحتاجون هذه الخدمة، فيبدو أن تقدم اللبنانيات للقيام بهذه الأعمال شكّل حلاً أمثل، لأن العاملة الأجنبية باتت مكلفة جداً ولم يعد استقدامها ممكناً للجميع.
البحث عن العاملات اللبنانيات
ويبدو واضحاً أن دائرة العاملات اللبنانيات اتسعت في الأسابيع الأخيرة وبتنا نشهد تقبلاً أكبر لهذه الأعمال، إذ تزايدت الطلبات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن مجال للعمل. حتى مكاتب استقدام العاملات التي فقدت الأمل من إمكان استقدام الأجنبيات نظراً للأوضاع الحالية، وجدت الحل الأمثل في العاملة اللبنانية التي قد تقوم بهذه المهمات على أكمل وجه وقد تستحوذ على معدل أكبر من الثقة من قبل طالبي الخدمة. ولم يكن اللبناني عامةً يقبل العمل في تنظيف المنازل إلى أن اضطر إلى التكيف مع الوضع.
ويعتبر السيد غابي بيشاي صاحب أحد مكاتب الاستخدام في منطقة الفنار (محافظة جبل لبنان)، أن القطاع انتهى من حيث التعامل مع العاملات الأجنبيات، وينتظر طلبات اللبنانيات للأعمال المنزلية لاعتبارها الخيار الأمثل في هذه المرحلة. ويدعو حتى الطلاب إلى التوجه إلى مزاولة الأعمال المنزلية لأن "هذا العمل شريف وليس عيباً"، داعياً إلى "العمل على تغيير الذهنية السائدة لدينا كشرقيين، فطالما أن العمل منظم وضمن شركة تحفظ حقوق العاملة لا خوف عليها من أي تعدٍ".
ويبدو واضحاً لبيشاي أن الذهنية الشرقية بدأت تتغير تدريجاً لكن لا يزال انتشار وباء كورونا يشكل عائقاً أمام دخول الشابات إلى المنازل. ويقول "الأعمال المنزلية مطلوبة جداً لأن السيدة اللبنانية تعمل غالباً خارج منزلها وتحتاج إلى مَن يهتم بهذه المهمات عنها. نأمل بأن تتقدم الطلبات وسأعمل جدياً على هذا الموضوع من خلال البحث عن الشابات الراغبات بذلك. وثمة أعمال، يُفضَل أن يقوم بها اللبناني أصلاً لما لديه من مقومات، ولقدرته على التواصل مع الناس بشكل أفضل، فلم نكن نعتمد في أعمال معينة على الأجنبي".
لكن حتى مع تغيير الذهنية، لا يمكن أن ننكر أنه ثمة ثقافة إجتماعية تحتاج إلى التغيير. فلا يقف كبرياء اللبناني وحده عائقاً أمام قيامه بهذا النوع من الأعمال، إنما أيضاً نظرة المجتمع عامةً إلى مَن يقوم بهذا العمل الذي لا يقل أهمية أو قيمة في الواقع عن أي عمل آخر يمكن أن يقوم به في بلاده أو خارجها. كما أن العامل الأجنبي يجد مؤسسات تحميه وقد تكون حقوقه محفوظة أكثر من اللبناني ما يزيد من المخاوف على حقوق أي شابة لبنانية يمكن أن تتقدم لمزاولة أعمال منزلية.
قانون "على النار" بانتظار إقرار التعديل
حتى اليوم يُستثنى العمل المنزلي من قانون العمل اللبناني وقد يكون هذا من الأسباب الرئيسة التي تثير المخاوف بشأنه. فبحسب المحامية موهانا إسحق التي تعمل ضمن لجنة مع وزيرة العمل لميا يمّين الدويهي على تغيير نظام الكفالة وتعديل قانون العمل، كان مفهوم العمال المنزليين معروفاً قديماً من دون أن يُنظَّم ذلك في القانون. مع الوقت، ازدادت الحاجة إلى العاملات المنزليات لأن المرأة اللبنانية عاملة إجمالاً وبدا سهلاً تشغيل العاملة الأجنبية لأن المقابل المادي ليس كبيراً، إلا أن الممارسات السيئة واعتماد نظام الكفالة وانعدام التنظيم في قانون العمل، كلّها عوامل انعكست سلباً على القطاع.
أما الظروف الحالية ففرضت واقعاً جديداً وثمة عمل جدي في وزارة العمل بحسب المحامية إسحق للتعديل في القانون. وقالت "من المفترض أن تصبح المهنة منظمة ويحفظ القانون حقوق العاملة ويصونها. للعاملة حقوق كالضمان الاجتماعي وتحديد ساعات العمل وظروف فسخ العقود. وسيتناول القانون الذي يحدد أيضاً الأجر الذي يمكن أن تتقاضاه كل هذه الأمور. ونعمل أيضاً على رفع مستوى شروط العقد المنزلي من دون حجز الأوراق الخاصة كما في نظام الكفالة".
وأوضحت إسحق أنه "يبدو أن التنظيم بات ضرورياً اليوم بالنسبة إلى العاملة اللبنانية مع عودة العاملات الأجنبيات إلى بلادهن. فالمرحلة المقبلة ستكون مختلفة ولا بد من فتح الباب أمام مجال عمل لائق يحترم حقوق مَن تختاره وفق المعايير الدولية، بما أن الواقع الاقتصادي يفرض ذلك. مع الإشارة إلى أن وضع العاملات اللواتي يتقاضين أجورهن على الساعة مختلف. ومن المتوقع أن تكون لتنظيم المهنة آثار إيجابية تحفز على التوجه إليها من قبل الاشخاص ذوي القدرات التعليمية المحدودة، فليس متوقعاً من المتعلمين الاتجاه إليها".
وشرحت المدير العام في وزارة العمل مارلين عطالله أن "تعديل القانون يتناول اللبنانيات والأجنبيات أيضاً. وشُكّلت لجنة لهذا الهدف وستُعنى بكل التفاصيل المطلوبة لتنظيم هذه المهنة كأي مهنة أخرى، لأنه حتى اللحظة، لا يتناول قانون العمل وضع العاملة اللبنانية. أما توفير الحماية الاجتماعية والقانونية للعاملة فمن شأنه طبعاً أن يزيد من إقبال اللبنانيات على هذه الأعمال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل التنظيم يكفي لتقبّل الوضع؟
في مقابل الذهنية والثقافية المجتمعية التي بدأت تتغير، من شأن تنظيم مهنة العمالة المنزلية أن يكون له وقع إيجابي فعلاً لدفع المجتمع نحو تقبل مزاولتها. فالحرص على حقوق العاملات يزيد الثقة بالمهنة والشعور بالأمان لدى مَن يخترنها.
وقال رئيس نقابة مكاتب استقدام عاملات المنازل علي الأمين "حتى اليوم ليس هناك اعتراف في القانون بهذه المهنة ولاستقدام العاملات الأجنبيات آليات مختلفة عن توظيف العاملات اللبنانيات للعمل المنزلي". لكن يُضاف إلى البعد التنظيمي أبعاد أخرى تقف عائقاً أمام هذه المهنة. فعلى الرغم من أنها مهنة شريفة مشابهة لأي عمل يمكن القيام به، لا يزال الناس ينظرون إلى المهنة بنظرة فوقية أملتها العادات والأعراف السائدة. وهذه صورة راسخة قد لا تُلغى بقانون وإن كان التنظيم القانوني قد يساعد إلى حد ما وله أهمية كبرى.
وبعيداً من مسألة النظرة المجتمعية إلى هذه المهنة والمسائل القانونية، يبدو للبعض أن لدخول العاملة اللبنانية إلى المنزل أبعاداً أخرى، فهل إن دخول اللبنانية إلى منزل للعمل فيه له الأبعاد والتداعيات ذاتها التي كانت للأجنبية؟
ويقول علي الأمين إن "للمنازل خصوصيات، ودخول فتاة من ذات البيئة والمجتمع، وتملك الثقافة ذاتها إلى منزل ما، له وقع مختلف. ثمة أسرار يمكن أن تُنقَل في المجتمع بهذه الطريقة، الأمر الذي لا يحصل كثيراً إذا كانت العاملة أجنبية. كما أن القادم من خارج الإطار الثقافي لمستخدَميه يتأثر بما في البيت. أما إذا كان العامل من الإطار ذاته، فيكون هو المؤثِر كونه جزءاً منه ويفهم كل التفاصيل المتعلقة بشؤون الأسرة. ويبدو الأمر أخطر من المتوقع. ثمة تداعيات لا يمكن الاستهانة بها هنا لمَن يدخل إلى المنزل وهو من البيئة ذاتها، بحيث يبدو أن إسناد مهمة الأعمال المنزلية إلى لبنانية قد يكون صعباً عملياً فهل سيكون ممكناً الإحاطة بكل هذه الإشكاليات؟