عززت التحذيرات المستمرة من تحول النقود أو الـ"كاش" إلى مصدر مهم لنشر فيروس كورونا المستجد، من اتجاه البنوك المركزية على مستوى العالم، إلى التمسك بموقفها المتشدد من ضرورة إصدار عملات رقمية، للمنافسة في سوق العملات الإلكترونية الذي لامس التعامل فيه مستويات قياسية خلال عام 2018 اقتربت من حاجز التريليون دولار.
لكن في الوقت نفسه، وعلى الرغم من تحذيرات البنوك المركزية والحكومات على مستوى العالم، من خطورة انتشار الاعتماد على العملات الرقمية في المعاملات، وتأثيرها المباشر في البنوك، لكن عندما بدأت البنوك المركزية التفكير في إصدار عملات رقمية لم تنتبه إلى تحذيراتها السابقة، ما يضع المصارف والبنوك التجارية في مواجهة حتمية مع أزمة تهدد استمرارها على قيد الحياة، في حال مضي البنوك المركزية في إصدار عملات رقمية.
ويشير تحليل حديث، إلى أن وباء "كوفيد-19" المستجد، يعمل بالفعل على تسريع دراسات البنوك المركزية حول إنشاء عملات رقمية خاصة بها. لكن ومع ذلك، فإن أسئلة مهمة حول كيفية تطوير هذه العملات الرقمية وكيفية نجاحها في الحياة العملية، تظل قائمة، بحسب التحليل الذي نشرته مدونة البنك الهولندي "آي أن جي".
كورونا وخطط مواجهة الركود الاقتصادي الكبيرة
وفق التحليل، تتصدر العملات الرقمية سريعاً قائمة أولويات البنوك التجارية، وعلى الرغم من الخطة الكبرى لشركة "فيسبوك" بشأن العملة العالمية "ليبرا"، فإن وباء "كوفيد-19" يعطي دفعة قوية لدراسات البنوك المركزية حول إنشاء عملات رقمية خاصة بها. وبغض النظر عن القفزة الحادة في المدفوعات الرقمية التي لا تعتمد على الـ"كاش"، فقد أثار الوباء اهتماماً متجدداً بإمكانية أن تعمل العملات الرقمية للبنوك المركزية على توسيع مجموعة أدوات السياسة النقدية لمواجهة الركود الاقتصادي الكبير.
كما يمكن أن تساعد العملات الرقمية البنوك المركزية في إرسال النقود أو حتى القروض بسرعة للأفراد والشركات أو السماح بخفض حاد في معدلات الفائدة داخل النطاق السالب. لكن في الوقت نفسه، يمكن أن تكون التداعيات على الدور الذي تلعبه البنوك التجارية وربحيتها عميقة وسلبية إلى حدود كبيرة.
وحتى وقت قريب، كانت البنوك التجارية تعمل على فرضية أن البنوك المركزية سوف تركز على العملات الرقمية للبنوك المركزية لأغراض البيع بالجملة بدلاً من الأغراض العامة، بمعنى استخدامها من جانب الأفراد. ولن يُعد ذلك بمثابة وضع مخرب للنظام، لكنه في واقع الأمر سيكون موضع ترحيب بالنسبة للبنوك التجارية.
كما أن العملات الرقمية للبيع بالجملة ستكون متاحة فقط لمؤسسات مالية منتقاة، وسوف تحسن قضايا التسويات العابرة للحدود عبر تسريع المعاملات مع تقليل التكاليف ونطاق الأخطاء. بيد أنه في الوقت الحالي، ينبغي على البنوك التجارية أن تتأقلم مع فكرة إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية لاستخدامها في معاملات التجزئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن أن تكون العواقب وخيمة، حيث يمكن للبنوك التجارية أن تجد نفسها تتنافس مع البنوك المركزية وكذلك شركات التكنولوجيا الكبرى. والواقع أن بعض أنشطة المصارف التجارية قد يتم السيطرة عليها حتى من جانب البنوك المركزية. ومن شأن الوصول الشامل إلى الموازنة العمومية للبنك المركزي وإنشاء أصول جديدة خالية من المخاطر، أن يخلق فرصاً جديدة، لكنه في الوقت نفسه سيفرض تحديات جديدة أمام البنوك المركزية والبنوك التجارية والأسواق المالية.
لكن بالتأكيد، فإن الشكل الذي تتخذه العملات الرقمية للبنوك المركزية سيكون معقداً بدافع حقيقة أن البنوك المركزية المختلفة ستسعى لاتباع دوافع واستراتيجيات وتجارب مختلفة. وبصرف النظر عن تحسين البنية التحتية للمدفوعات الحالية، سيتطلع البعض أيضاً إلى تعزيز الشمول المالي (بمعنى دمج الفئات المهمشة مالياً أو من ذوي الدخل المنخفض في عمليات النظام المصرفي) أو كبح الجريمة المالية والاقتصاد التحتي (السوق السوداء التي لا تخضع لأيّ عملية أو رقابة تنظيمية)، لكن تدور الأسئلة المهمة حول كيفية تقاسم القطاعين الخاص والعام للأدوار والمسؤوليات بينهما.
تحديات كبيرة أمام البنوك التجارية
التحليل يرى أن أحد الخيارات الرئيسة يكمن في ما إذا كان سيتم تبادل العملات الرقمية للبنوك المركزية المصممة للأفراد باستخدام دفاتر الأستاذ القائمة على الحساب أو الرموز الرقمية. في حين أن الأمر الآخر يتمثل في ما إذا كان سيتم توزيع هذه العملات الرقمية مباشرة من قبل البنك المركزي أو عبر البنوك أو من خلال وسطاء آخرين.
وفي شكله الأكثر نقاءً، سيمثل إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية القائم على الحسابات المصرفية بشكل مباشر تحدياً خاصاً أمام البنوك التجارية. ومن ثم، ستجد هذه المصارف التجارية أنفسها تتنافس على الودائع لدى البنك المركزي، وهو الأمر الذي سيكون صعباً بشكل خاص إذا عرضت العملات الرقمية للبنوك المركزية معدلات فائدة جذابة أو إذا أثارت أزمة ما حالاً من "الذعر المصرفي".
وطرح التحليل حول ما إذا كان البنك المركزي سيقدم قروضاً، وما هي الآلية للقيام بذلك. وذكر أنه وبالنظر إلى أن البنوك المركزية - على الأقل في الوقت الحالي - تفتقر إلى الموارد اللازمة لمثل هذه الهيمنة على الوظائف المصرفية، ربما يكون من المرجح أن يتم توزيع العملات الرقمية للبنوك المركزية من خلال المصارف والمؤسسات الأخرى. ومن شأن ذلك السماح للبنوك المركزية بتفادي الكثير من تكلفة ومخاطر فحص وخدمة العملاء وتقديم الخدمات التكميلية (مثل بطاقات الائتمان وأدوات الاستثمار) وبناء وتشغيل التكنولوجيا والعمليات.
ومن الناحية النظرية، فمن المحتمل أن تكون العملات الرقمية للبنوك المركزية القائمة على رموز، وهو السيناريو الأقل اضطراباً، إذ إن الرموز ستكون نسخاً رقمية من الأموال (الكاش) بشكل فعال وتتجنب عبء إدارة الحسابات والتحقق منها.
ومع ذلك، إذا كان ذلك من شأنه السماح للاعبين غير الماليين مثل شركات التكنولوجيا الكبرى (كعملة ليبرا لشركة "فيسبوك") بالدخول في مجال التمويل الرقمي، فقد يزيد ذلك من المنافسة في سوق محل منافسة بالفعل، مما يقلل هوامش الربح بشكل أكبر ويضع ضغوطاً على علاقات العملاء بالبنوك. وبالتبعية، يثير ظهور العملات الرقمية للبنوك المركزية بعض الأسئلة الاستراتيجية العميقة حيال مستقبل البنوك التجارية، في وقت أصبحت ربحيتها عرضة بالفعل للتحديات.