لعل الحكاية الإطار، لرواية "باب الخيمة" للكاتب المصري محمود الورداني، الصادرة حديثاً عن دار "العين" في القاهرة، وهي في المجمل تدخل ضمن الأعمال الأدبية المنشغلة أساساً بإشكالية علاقة المثقف بالسلطة، يمكن تقديمها بحسب الصورة الآتية: يلبي الصحافي ذو التوجه اليساري "جمال الصاوي"، دعوة من وزارة الثقافة الليبية للمشاركة في ندوة في سِرت على هامش فعاليات معرض طرابلس للكتاب في دورة سبقت سقوط حكم معمر القذافي بسنوات قليلة، مقابلَ ألف دولار، فضلاً عن الإقامة لبضعة ليال في فندقين فخمين، وتذكرة سفر ذهاباً وإياباً. لكنه، ربما بدافع من الرغبة في الحفاظ على ما تبقى من "نقائه الثوري"، يتخلف عن لقاء دعي إليه مع زعيم البلد يضم نخبة من "ضيوف المعرض" في خيمته، للتحدث عن أعماله "الأدبية" ونظامه الذي يؤرق الإمبريالية العالمية، ويعتبر أن عودته إلى القاهرة هي بمثابة طوق النجاة من خيانة مبادئه.
"الصاوي"؛ الذي يشرف على الخمسين من عمره، يعمل في القاهرة بدوامين، أحدهما في جريدة "المال اليوم" وهي يومية اقتصادية تصدر من القاهرة بتمويل "عربي"، والثاني في جريدة "المستقبل"، وهي أسبوعية ثقافية تصدرها مؤسسة "آخر خبر" المصرية الرسمية، ومع ذلك يعاني بشدة من شظف العيش، ويحلم بعمل يدر عليه مالاً وفيراً في ليبيا المتجهة في ذلك الوقت، بحسب المعلَن، نحو إصلاح جذري بعد سنوات طويلة من حصارها إقتصادياً من جانب الغرب على خلفية قضية لوكيربي الشهيرة.
يرافقه في الزيارة إلى ليبيا شاعر وصحافي بارز هو "عبد الرحمن سبعاوي". "سبعاوي"؛ في باله أنه أمام فرصة لا تعوَّض للقاء القذافي، خلال تلك الزيارة، عسى أن يدفع ذلك السلطات الليبية المعنية إلى تسليمه مستحقات مالية متأخرة، فهو كان يشرف من قبرص على إصدار مجلة "الطلقة" التي يمولها نظام العقيد قبل أن يقرر إغلاقها.
كواليس نصف قرن
وبين الاستعداد لتلك الزيارة وإتمامها، يأخذنا ساردٌ بضمير الغائب إلى كواليس صحافية وأدبية وإنسانية تغطي نحو نصف قرن، ما بين القاهرة وبغداد وطرابلس الغرب والكويت وبيروت ودمشق ودبي وليماسول ولندن، ولكن من وجهة نظر "جمال الصاوي" بالذات، والذي يتماس في كثير من التفاصيل "المتخيَّلة" مع محمود الورداني نفسه وتجربته في الصحافة وعلاقته المتأزمة مع السلطة على خلفية انتمائه إلى خلية شيوعية، ما ترتَّب عليه اعتقاله لبضعة أشهر عقب اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في العام 1981، ثم عمله في مكاتب صحف عربية عدة في القاهرة قبل (وبعد) التحاقه بجريدة "أخبار الأدب" التي أسَّسها الكاتب الراحل جمال الغيطاني وتولى رئاسة تحريرها.
وعلى مدى حيز كبير من صفحات الرواية يبدو "جمال الصاوي" منشغلاً إلى حد الهوس السلبي، إذا جاز التعبير، بشخصية رئيس تحرير "المستقبل"؛ "يوسف مطاوع"، الذي يقدمه دائماً باعتباره نقيضاً لشخصية "عبد الرحمن سبعاوي"، من حيث علاقة كل منهما مع السلطة السياسية في بلديهما؛ مصر. فالأول الذي زامَل "الصاوي" في تجربة الاعتقال، التي أعقبَت إغتيال السادات، هو مِن "المغضوب عليهم"، والثاني الذي جرَّب السجن لشهورعدة في ستينات القرن الماضي لانتمائه إلى تنظيم يساري مغمورعُرِفَ إعلامياً باسم "الصوت والضوء"، بات من "أهل السلطة ونعيمها".
يحسم "جمال الصاوي" تردده بشأن تلبية الدعوة للمشاركة في الندوة التي لا يذكر السارد شيئاً عن موضوعها، لكنه يكتفي بأن يذكر أن أهميتها تكمن أساساً في أنها ستتيح لـ"الصاوي" أن يحصل على مبلغ لم يسبق أن تقاضى مثله عن أي عمل قام به من قبل. يقول السارد: "سبعاوي ومطاوع كلاهما شاعر تفعيلة من نجوم ستينيات القرن الماضي، ويكره كل منهما الآخر، ليس بسبب التنافس الشعري فقط، بل لأن الأول كان أكثر حرية وصاحب الصوت الأعلى في الهجوم على النظام في مصر على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، بينما كان مطاوع أحد الكبار المعروفين بحنكتهم - ربما على الصعيد العربي- في العمل بفلسفة أخرى ترى أن السياسة هي فنُ الممكن... ما يستلزم أن تكون ذكياً جداً وقريباً من بعض الدوائر التنفيذية والسيادية" (الرواية ص 12، 13).
وكان ذلك السفر يستلزم موافقة "مطاوع"، ورأى "الصاوي" أنها "مضمونة"؛ لآن الأول "لا مصالح له تذكر في الجماهيرية، بعدما صدرت قبل بضع سنوات طبعة كاملة لمجموعاته الشعرية وبعض كتبه النثرية عن دار "المسير" اللبنانية المعروفة بتمويلها الليبي".
تتوزع أحداث الرواية على ثلاثة أقسام، غطى أولها وهو مِن مئة صفحة، أربعة أيام سبقت ركوب "الصاوي" الطائرة، في طريقه من القاهرة إلى طرابلس الغرب، وفيها انشغل السرد باسترجاع أيام بطله منذ مولده في العام 1956 في أسرة تحب عبدالناصر، حتى أنها أطلقت على ابنها اسم "جمال". وفي القسم نفسه يتحدث "جمال الصاوي" عن تخرجه في كلية الإعلام في جامعة القاهرة، وتردده لسنوات عدة في الالتحاق بعمل صحافي مستقر في مؤسسة "آخر خبر"، لأنها "حكومية"، والاكتفاء بالعمل بالقطعة في مكاتب صحف عربية عدة في القاهرة، حتى رضخ في النهاية وسعى إلى العمل في المؤسسة نفسها، لحاجته إلى الاستقرار المادي بعدما تزوج وأنجب طفلين.
بين غضب السلطة ورضاها
ويغطي القسمان التاليان أربعة أيام في طرابلس وسرت، حيث انغمس "الصاوي" و"سبعاوي" في تدخين الحشيش سراً، وتلبية دعوات لعشاء أو غداء. وعشية سفرهما براً إلى سرت التي تبعد عن العاصمة بأكثر من 400 كيلومتر، يتوجهان إلى مقر مسؤول أمني ومعهما صحافي ليبي يدعى "هاشم الفزاني"؛ يعاني من غضب السلطة عليه بعد سنوات عدة من رضاها عنه. كان الغرض المعلن من تلك الزيارة هو أن يطلب "سبعاوي"، من ذلك المسؤول؛ بحكم علاقة وطيدة ربطتهما في السابق، أن ينال ذلك المغضوب عليه الرضا من جديد، لأنه بلغ حافة الجوع بسبب منعه من العمل. لكن "جمال الصاوي"، عندما يلاحظ أن جلستهم طالت في انتظار مقابلة ذلك المسؤول يرتاب في أمر "سبعاوي" ويظن أنه استدرجه أصلاً ليسلمه إلى الاستخبارات الليبية، من دون أن يكون هناك مبرر مقنع لمثل هذا الظن، إلا إذا كان الارتياب هو أساس علاقات "الصاوي" نفسه بسبب عمله السري السابق ضمن خلية شيوعية مناهضة لنظام حكم السادات.
يتنفس "الصاوي" الصعداء، بعدأن يقرر "سبعاوي" العودة إلى الفندق وعدم مقابلة ذلك المسؤول الأمني احتجاجاً على تأخره في السماح لهم بدخول مكتبه. وفي الفندق يعتذر "الصاوي" لصديقه بعد أن صارحَه بأنه أساءَ الظنَّ في نياته، ويستأنفان تدخين السجائر"الملغمة" بالحشيش، ويبث كل منهما للآخر شجونه.
"الصاوي" يأمل أن يتلقى عرضاً للعمل في ليبيا "الجديدة" التي كانت في ذلك الوقت تُقدِم سيف الإسلام القذافي باعتباره سيرث الحكم، وسيؤسس صحفاً ومشاريع إعلامية تعبر عن نزعة إصلاحية تنفتح على مختلف الرؤى والتوجهات السياسية بعد عقود من قمع حرية التعبير.
أما "سبعاوي"؛ "فحكى له للمرة الأولى منذ التقيا عن علاقته بليبيا والقذافي". قال إنه "أضطر أولاً للسفر إلى بغداد التي اختارها منفى، بعد أن وقَّع السادات معاهدة كامب ديفيد. أعادوا طباعة دواوينه هناك، وعرضوا عليه أن يعمل في جريدة حزب البعث. صدَّق أنه في مهمة وطنية لإسقاط حكم السادات من المنفى. لم يتحمل أكثر من ثلاثة أعوام، فقد كان يفقد أصدقاءه من الشيوعيين العراقيين أمام عينيه. أمضى عدة سنوات بين بيروت ودمشق قبل أن يتوجه إلى قبرص ليرأس تحرير "الطلقة" التي يمولها القذافي وكان يعاونه هاشم الفزاني".
كان قد مضى على توقف "الطلقة" خمس سنوات، وبقيت لـ"سبعاوي" لدى الليبيين مستحقات؛ "عن قصائد سجلتُها وأذيعت وبرامج كتبتُها، وذكريات رويتُها في التلفزيون وجرى بثها، ودواوين وكتب أخرى أعيد طبعها هنا. لي عندهم مبلغ ضخم، وعندما أقابل القذافي لن أطلب منه شيئاً. ولكن مجرد لقائي به سيجعل هؤلاء الكلاب يرتعشون ويسارعون بصرف مستحقاتي. أريد أن أسدد ديوني يا جمال وأعيش الأيام الباقية لي بكرامة. أريد أن أتمكن من الرفض. أتمكن من الاختيار" صـ21 .
في الختام، يترك "جمال الصاوي" رفيق الزيارة في سرت، بعدما شاركا في ندوة لم يذكر شيء عن موضوعها، وسيركب سيارة تقله إلى مطار طرابلس؛ ومنه استقل طائرة التاسعة صباحاً - الكلام هنا للصاوي بضمير المتكلم - و"عندما أحلق في السماء، يكون سبعاوي في طريقه للقاء القذافي، وربما على باب الخيمة. لحظتها فقط، أي لحظة استواء الطائرة في السماء، أكون قد نجوتُ".