تشهد العلاقات بين تركيا وفرنسا توتراً ملحوظاً حول ليبيا. وأخيراً صعَّدت باريس موقفها، وأخذت تكثف انتقاداتها حيال تصرفات أنقرة في ليبيا، ووصفتها بأنها "غير مقبولة"، و"لا يمكن لفرنسا السماح بها"، إلى غير ذلك من عبارات تنم عن مواقف فرنسا الرافضة للطموحات التركية في تلك المنطقة.
ولكن السؤال، هل كل هذه الاحتجاجات الفرنسية تجاه تركيا من منطلقات إنسانية بحتة؟
للأسف كلنا نعلم أن وجود تركيا في ليبيا ليس لأسباب إنسانية، كما أن احتجاجات فرنسا ضد هذا الوجود هي أيضاً ليست للأسباب نفسها. فليست كل هذه الزوبعة إلا انعكاساً لتَضارُب مصالح الأطراف في الساحة الليبية.
وبدلاً من أن تسعى الدولتان، القويتان العضوان في حلف شمال الأطلسي، لإيجاد حل يخدم مصالح الشعب الليبي، ويضمن لها مخرجاً من أزمتها الحالية، نراهما تُفضلان تصعيد التوتر بسبب أهدافهما التجارية الرامية إلى زيادة حصتهما في طاولة المساومة والحصول على قطعة أكبر من الكعكة الليبية، ولكن كل ذلك بطبيعة الحال على حساب الشعب الليبي.
إن السياسة التركية والفرنسية في ليبيا على طرفي نقيض تماماً، فبينما تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، تدعم فرنسا الجنرال خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن الصراع بين فرنسا وتركيا بشأن ليبيا ليس وليد اللحظة، بل يعود تاريخه إلى عشر سنوات، أي إلى فترة حكم ساركوزي، حيث إنه بعد مقتل معمر القذافي في عام 2011، قام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بزيارة مفاجئة إلى ليبيا مصطحباً معه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وبعدها بيوم واحد زار رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء آنذاك، ليبيا. وقد لفتت هذه المنافسة بين القادة أنظار العالم كله، ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل تلتها أحداث أخرى.
الحادثة الثانية التي أججت الصراع بين باريس وأنقرة في البحر الأبيض المتوسط هي البحث عن الغاز الطبيعي قبالة سواحل قبرص، حيث إن حكومة قبرص اليونانية همّشت تركيا وشمال قبرص التركية عن فعاليات التنقيب عن حقول الغاز الطبيعي العملاقة، المكتشَفة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ومكّنت الشركات الدولية، بما فيها الشركة الفرنسية توتال، من البحث عن الغاز واستخراجه متجاهلةً غضب أنقرة.
وبالمقابل بادرت أنقرة هي الأخرى بعمليات التنقيب والحفر في "مناطق النفوذ البحرية"، أو ما يسمى بمناطق الصلاحية الاقتصادية لتركيا وليبيا، ما أثار توترات بين أنقرة وأثينا، بالإضافة إلى بعض دول البحر الأبيض المتوسط الأخرى بينها فرنسا.
واندلعت أزمة ثالثة بين البلدين؛ تركيا وفرنسا، أدت إليها ما ذكرتُ تفاصيله في مقالي السابق حول قضية تهريب الأسلحة من تركيا إلى ليبيا، ملخصه، أنه في 24 يناير (كانون الثاني) انتقلت سفينة شحن من تركيا إلى ليبيا تم الاستيلاء عليها من قِبل البحرية الفرنسية، وتَبيَّن أنها تحمل على متنها أسلحةً غير قانونية.
وهناك أزمة رابعة هي أن الفرقاطة العسكرية الفرنسية "كوربيه"، التي تعمل في البحر الأبيض المتوسط في إطار مهمة الناتو، أرادت في الأسبوع الماضي تفتيش سفينة تحمل الراية التنزانية متجهة إلى ليبيا، بتهمة خرقها حظر الأسلحة المفروض على ليبيا.
وصرح المسؤولون الفرنسيون أن الفرقاطة الفرنسية تعرضت لمضايقات من قِبل السفن العسكرية التركية التي كانت ترافق هذه السفينة، ما أدى إلى عطل راداراتها ثلاث مرات. مع العلم بأن أردوغان نفسه كان قد وقّع في يناير على اتفاقية برلين، التي تنص على حظر بيع الأسلحة إلى ليبيا.
والأسوأ من ذلك أن حكومة حزب العدالة والتنمية بدأت تهرب الأسلحة على مرأى ومسمع من العالم، ولا تجد حرجاً في انكشاف أمرها لدى الإعلام الدولي.
فهذه هي المرة الثانية التي يتم ضبط الأسلحة، ومن المتوقع أن يفتح الناتو تحقيقاً حول القضية، وآمل ألا تذهب ضحية لصفقات تتم من وراء الكواليس.
هذا مجمل حيثيات الأزمة بين تركيا وفرنسا.
وكما تلاحظون ليس هناك، لسوء الحظ، ما يتعلق بمستقبل الشعب الليبي ولا مصالحه الوطنية، وليست ليبيا في هذا الصراع إلا عبارة عن ساحة للقتال وأرضاً يتعارك عليها الأطراف من أجل الحصول على أكبر حصة من مصادر الطاقة.
إن ليبيا والشعب الليبي لا يستحقون هذا الموقف. ولكن هذا هو الواقع المرير، ولا يزال الوضع يزداد خطورة وفداحة بمرور الأيام.
وإذا لم يتم التوصل إلى حل تحت مظلة الأمم المتحدة بمشاركة أطراف دولية وإقليمية، مثل حلف الناتو وجامعة الدول العربية، فسيظل الشعب الليبي يعاني مرارات الإرهاب والجوع والبؤس والموت، بل الانقسام في نهاية المطاف.
إن الأطراف الدولية المتنازِعة على ليبيا تملك بطاقات مهمة في المجال الدبلوماسي. ويا ليتها استخدمت هذ البطاقات من أجل إحلال السلام في ليبيا، ولكن هيهات هيهات.