هناك مشكلة مستعصية في عقل من يسمون أنفسهم "محور الممانعة والمقاومة". وقبل شرح ماهية المشكلة يفترض تحديد عناصر هذا "المحور"، باعتبار أن التباساً شديداً يسود أفكار أنصاره عنه.
نشأت فكرة "الممانعة والمقاومة" واتخذت أبعادها الراهنة من دمجٍ بين نهجين سياسيين سادا المنطقة منذ سقوط الشعارات الكبرى عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. النهج الأول تبنته مجموعة الأنظمة العربية المسماة تقدمية ووطنية في ردها على اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل. تلك الأنظمة وفي مقدمها النظام السوري، كانت أمعنت قتلاً وتشريداً وسجناً بحق الفلسطينيين، وبحق الشعب السوري نفسه. وخلال حروب لبنان أمسكت برقاب منظمة التحرير الفلسطينية بحجة حماية المقاومة، ومهدت واقعياً لاجتياح لبنان في 1982 الذي سيرسل المقاومة الفلسطينية إلى أبعد نقطة ممكنة عن فلسطين، فحلّت في ضيافة تونس حيث ستلاحقها آلة الاغتيال الإسرائيلية.
اتخذت تلك المرحلة بين كامب ديفيد واجتياح لبنان عنواناً لها هو "الصمود والتصدي". وكان ذلك امتداداً لصيغة "جبهة الرفض" التي قامت في وجه الرئيس جمال عبد الناصر في سنواته الأخيرة وتشكلت "جبهة الصمود والتصدي" من أنظمة سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن الجنوبي، والجزائر وعقدت اجتماعها الأول في دمشق ليخرج بعده وزير الخارجية السورية في حينه عبد الحليم خدام معلناً أنه تم الاتفاق "على استراتيجية موحدة".
أَذكر أنني سألته يومها، وكان الاجتماع منعقداً في فندق "شيراتون" الدمشقي "استراتيجية في أي اتجاه؟" لم يوضح خدام شيئاً، مع أنه كان يفترض أن تكون استراتيجية لتحرير الأرض العربية المحتلة بالقوة باعتبار أن "الجبهة" قامت لمواجهة استراتيجية مصر لاستعادة الأرض بالمفاوضات .
لم تعِش جبهة الصمود والتصدي طويلاً. دخل العراق في حرب ضد إيران فساندته سوريا، وليبيا وانهار نظام اليمن الجنوبية من الداخل، واقتربت الجزائر من "العشرية السوداء" لتنهمك في صدامات داخلية مريعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انهارت "جبهة الصمود والتصدي" بمجرد ولادتها، وحل محل العنوان الذي اختارته شعار آخر هو نتاج لعقل النظام السياسي الحاكم في سوريا منذ مطلع السبعينيات، وتحكمه الترتيبات الأمنية في الجولان المتفق عليها مع إسرائيل منذ عام 1974.
صار "التوازن الاستراتيجي" عنواناً وسقفاً للنظام السوري. وفحوى ذلك أن لا صدام مع إسرائيل قبل تحقيق الغَلَبة الاستراتيجية، ما يعني عملياً الإبقاء على الأمور على ماهي عليه بما يحفظ النظام الذي سيورثه حافظ الأسد لذريته.
استمر ذلك طوال سنوات مديدة. لم يدافع النظام السوري عن لبنان "المشمول برعايته"، ولا عن الأراضي السورية عندما كانت تتعرض لهجمات الطيران الإسرائيلي، ودائماً كان الوعد بأن "الرد سيكون في الوقت المناسب"، إلا أن هذا الوقت لم يأتِ أبداً.
آن أوان تغيير الواجهة بعد اندلاع الانتفاضة ضد النظام في سوريا، ودخول إيران بميليشياتها وحرسها دفاعاً عنه، وتكريساً لمشروعها التوسعي في العالم العربي، والمشرق منه خصوصاً.
في مواجهة انهيار نظام الأسد ولد محور "الممانعة والمقاومة" من دمج بين سياسة "عربية" قوامها "ممانعة العدو" حتى إضعافه، وبين سياسة إيرانية تتخذ من "مقاومة إسرائيل" منذ 40 عاماً غطاء لتوغلها في "غرب آسيا" العربي.
وبتبسيط شديد ليس المحور المذكور أكثر من ثوب فضفاض للتدخل الإيراني. فالصين التي صُوَّرت كأنها عنصر فيه بعيدة عنه، وتعمل من أجل حفظ مصالحها المتجذرة في العالم العربي الأوسع، وفي إسرائيل نفسها، وروسيا رفضت مراراً تصنيفها ضمن هذا المحور الذي تعتبر قيادته الإيرانية أن الصراع مع أميركا هو قدرٌ أبدي سرمدي حتى ضمان مصالحها.
من "الرفض" إلى "الصمود والتصدي" إلى "التوازن الاستراتيجي" إلى "الممانعة والمقاومة" تواصل بلدان المشرق العربي انهيارها الكامل من دون أُفق، وليس من يفكر بتغيير مسار الخراب هذا رغم الإمكانات والفرص، وآخرها ما جرت إعادة التأكيد عليه من جانب القوتين الأكبر في العالم، أميركا وروسيا لجهة إرساء الحل في سوريا، بما يريحها ومحيطها، استناداً إلى القرار الأممي 2254 وتوجهات الأمم المتحدة.