منذ انسحاب "الجيش الوطني الليبي" الذي يقوده المشير خليفة حفتر، من غرب البلاد، وإعلان "مبادرة القاهرة" للسلام، عادت قضية الطرح الفيدرالي لشكل الدولة القائم على الأقاليم التاريخية الثلاثة (برقة وفزان وطرابلس)، لتطفو إلى سطح الأحداث، بعد سنوات من التواري، كحل محتمل، ينهي الأزمة الليبية ويرضي أطراف النزاع.
وشهدت الأسابيع الماضية معاودة التيار المنادي بالنظام الفيدرالي للحكم نشاطه، بخاصة في إقليم برقة، الغني بالثروات النفطية في شرق ليبيا، والذي كان مركزاً لهذا الطرح، منذ سقوط نظام معمر القذافي الشمولي والمركزي، في عام 2011.
ولم تقتصر تحركات ناشطي التيار الفيدرالي، على الداخل، بل توسعت إلى الخارج والتواصل مع دول غربية عدة، من ضمن المنظومة الدولية الفاعلة في الملف الليبي، لإيصال وجهة نظرهم ومطالبهم، وسط مخاوف كبيرة عبرت عنها جهات عدة، من أن يقود هذا الطرح ليبيا، إلى التقسيم.
المبادرة المصرية والأقاليم الثلاثة
وكان للمبادرة المصرية، التي أُعلنت في السادس من يونيو (حزيران) الحالي، دور كبير في إلقاء الضوء مجدداً على فكرة عودة النظام الفيدرالي إلى ليبيا، لحل الخلافات المزمنة حول تقاسم وتوزيع الثروة والسلطة، وتوسيع صلاحيات الحكم المحلي، لحل مشكلة النظام المركزي في البلاد، الذي جعل من العاصمة طرابلس، مركزاً دائماً للصراع.
ودعت المبادرة في بعض بنودها، إلى نقاط كانت مطلباً "برقاوياً" ملحاً في السنوات الماضية، مثل المحاصصة السياسية في تقاسم السلطات، وتشكيل مجلس رئاسي جديد، مكون من رئيس ونائبين، يتم اختيارهم على أساس عضو لكل إقليم جغرافي، من الشرق والغرب والجنوب.
كما ركزت على قضية "التوزيع العادل" للثروة بين الأقاليم الثلاثة، وهو مطلب قديم لسكان الشرق الليبي، حيث تتركز أغلب الثروات النفطية في البلاد، وحيث يُنتَج نحو ثلثي النفط الخام المصدَر حالياً.
تفهم دولي وخطوات للتنفيذ
وكان رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح كشف في تصريحات تلفزيونية أن "المجتمع الدولي أبدى تفهماً لمطالب إقليم برقة، وبدأ الإعداد لتنفيذ خطوات عملية، لحل هذه المشكلات والنقاط الخلافية بينه وبين معسكر طرابلس".
وبيّن صالح طبيعة هذه الإجراءات، قائلاً إن "هناك طرحاً لقي قبولاً دولياً وهو قيد الدراسة قبل طرحه على النقاش وتنفيذه، يقضي بتقسيم عائدات النفط، بحصة 50 في المئة لإقليم طرابلس، الأكثر كثافة سكانية، و38 في المئة لإقليم برقة و12 في المئة، تُخصص للجنوب الليبي، على أن يُخصص حساب في الخارج، بإشراف دولي، لإدارة عائدات النفط الليبي".
فتح قنوات تواصل دولية
لم يكتف الحراك الفيدرالي المتزايد في إقليم برقة، بالتحرك داخل الحدود الليبية بل تعداها، إلى فتح قنوات للتواصل مع دول كبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، حيث أُنشئ مجلس سمي "مجلس العلاقات البرقاوية الأميركية".
وقال أحد أعضاء هذا المجلس، خالد امشاظي، المقيم في الولايات المتحدة، لـ"اندبندنت عربية"، إن مجلسهم، يسعى عبر نشاطاته الخارجية إلى "دعوة الأمم المتحدة والدول الصديقة والحليفة، إلى الاستماع إلى نداءات أبناء برقة المتكرّرة، في أن يكون لبرقة تمثيل سياسي وحضور في كل المحافل التي تتعلق بمصير الإقليم".
وبيّن أن "مجلس العلاقات الأميركية - البرقاوية" يرى أن "النظام الكونفيدرالي هو الأنسب لإدارة شؤون البلاد لفترة وجيزة، حتى تستقر الدولة، ولدفع خطر التقسيم، الذي قد يكون واقعاً بسبب الظروف الأمنية الراهنة والحروب الأهلية القائمة، التي أحدثت شرخاً سياسياً واجتماعياً واسعاً، من الصعب لملمته في الظروف الحالية".
مخاوف من التقسيم
عودة الطرح الفيدرالي، إلى واجهة الأحداث في ليبيا، بقوة أكبر وبدعم أقوى داخل البلاد وخارجها، أعاد معه المخاوف التقليدية التي دائماً ما تصاحب الدعوات الفيدرالية، على رأسها المخاوف من تقسيم البلاد.
وكان لافتاً، من بين الأصوات المحذرة من انزلاق ليبيا نحو خيار التقسيم، ما صرحت به المبعوثة الخاصة إلى ليبيا بالإنابة، ستيفاني ويليامز، خلال لقاءات أجرتها مع مسؤولين وخبراء دوليين، عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة، في اليومين الماضيين، إذ عبّرت عن مخاوفها من أن تقود حالة الاستقطاب الحاد، بين الأطراف الداخلية والخارجية الفاعلة في المشهد الليبي، إلى تقسيم البلاد.
وأثارت تصريحات ويليامز، جدلاً واسعاً في ليبيا على كل المستويات، فاعتبر الصحافي الليبي محمد الصريط أن "الغريب ليس ما قالته رئيسة البعثة الأممية في ليبيا حول مخاوفها من أن تؤول الأمور إلى التقسيم، بل الغريب هنا، هو ردود فعل النخب عليها، وقبولهم الضمني بمبدأ التقسيم، وكأنه خيار إستراتيجي".
كذلك، علّق الباحث والمحلل السياسي الليبي، محمد الجارح بالقول "أشارك ستيفاني ويليامز تخوّفها وتحذيرها من مسألة التقسيم، وليعلم الجميع أن التقسيم لن يحدث لأنه إرادة الأطراف الليبية، في ظل عملية التدويل المتسارعة للصراع في ليبيا، بل سيكون القرار في هذه المسألة، للقوى والأطراف الخارجية المتدخلة في الشأن الليبي". وأضاف، في تدوينة على مواقع التواصل "ليعلم الجميع، أن عملية التقسيم لن تكون سهلة، ولن ينتج منها دول مستقلة ومستقرة كما يتوقع البعض، على العكس تماماً، ما سينتج عن عملية التقسيم، هو محميات خاضعة لسلطة دول وقوى خارجية، ولن يمتلك سكان هذه الرقع الجغرافية التي ستنتج من عملية التقسيم، أي إرادة سياسية حقيقية أو سلطة لحكم أنفسهم بأنفسهم، لعقود طويلة من الزمن على الأقل" .
فشل محاولة سابقة
الدعوات إلى التحول إلى النظام الفيدرالي بعد الثورة الليبية في عام 2011، المقبل جلها من إقليم برقة، ليست جديدة، ففي عام 2013وبدافع مما وصفوه بـ "التهميش والغبن" الذي يحركه التناقض بين ما يحويه إقليم برقة من ثروات، والعوائد التي يحصل عليها بعد استخراجها وتصديرها، حاول بعض المتشدّدين للطرح الفيدرالي من أهل المنطقة، فرضه من جانب واحد، وهي الخطوة التي أدت إلى إقفال موانئ النفط سنوات، مخلفةً تداعيات كبيرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي كان له دور مهم، في المساهمة في تأجيج الصراع الليبي، في السنوات اللاحقة.
هذه المحاولة لفرض الأمر الواقع، بإعلان برقة إقليماً فيدرالياً داخل النظام الاتحادي، من طرف واحد، كانت متعجلة وغير مدروسة، وقوبلت برفض دولي كبير، واستهجان محلي وقتها، حتى من قبل الغالبية العظمى من سكان شرق البلاد، ما أدى إلى إجهاضها وفشل القائمين عليها في تحقيق مطالبهم منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تاريخ الفيدرالية في ليبيا
وكانت ليبيا أمضت سنواتها الأولى بعد نيلها الاستقلال، في عام 1951، في ظل النظام الفيدرالي، القائم على ثلاث ولايات، بصلاحيات محلية واسعة في الحكم والإدارة، تحت راية الإدارة السياسية الاتحادية. وتحقق ذلك بعد سنتين، من ظهور إقليم برقة، ككيان مستقل ودولة منفصلة في عام 1949، بقيادة الأمير إدريس السنوسي وقتها.
وأتى استقلال برقة على خلفية نزاعات مع قادة التيار الطرابلسي، حول تفاصيل يتقدمها رفض قادة إقليم طرابلس تولي السنوسي الحكم، ملكاً على البلاد، قبل أن تعود وترضخ فاتحةً الطريق أمام توحيد أقاليم ليبيا الثلاثة تحت مظلة النظام الفيدرالي، وتولية إدريس السنوسي ملكاً عليها.
وسارت البلاد في السنوات الأولى بعد الاستقلال سيراً حسناً، وكسبت رهان قيام دولة، على الرغم من الفقر وقلة الموارد، حيث كانت ليبيا، إحدى أفقر دول العالم. وظهر في هذا السياق، أن النظام الفيدرالي، الذي اعتُمد على أساس دستور 1951، مناسب لدولة حديثة النشأة، ذات تكوين جغرافي صعب.
ومع اكتشاف النفط، حدثت تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتحولت الدولة من النظام الفيدرالي، إلى نظام الدولة الموحدة البسيطة في عام 1963. ساهمت بذلك الضغوط الكبيرة التي مارستها الشركات المسكتشِفة للنفط، ثم تحسن الدخل القومي وتغير مظاهر الحياة الاجتماعية نحو مجتمع يرنو إلى المدنية.
من الفيدرالية إلى الكونفيدرالية
وقال محمد بزازة أحد نشطاء الحراك الفيدرالي في بنغازي لـ "اندبندنت عربية"، حول فرص عودة النظام الفيدرالي وقيادته للبلاد إلى بر الأمان، كما حدث قبل 70 سنة، إنه "في عام 2012، كنا نطالب بالنظام الاتحادي، لتأسيس الدولة الليبية، على الأسس والهيكلية ذاتهما، التي بنى عليها الآباء والأجداد المؤسِسون عام 1951، بهدف حلحلة المشاكل الإدارية والمالية والسياسية والاجتماعية التي بدأت منذ عام 1963 وحتى عام 2011، لكن النظام الفيدرالي، يقتضي توافقاً بين كل الشركاء في الوطن، وهذا التوافق لم يكن موجوداً، منذ عام 2012، حيث رفضت القوى الطرابلسية المركزية وجماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤهم، هذا التوجه وحاربوه وشيطنوه إعلامياً وسياسياً".
وتابع متحدثاً عن تغيّر مطالب القوى الطرابلسية بتغيّر الظروف منذ ذلك الوقت، فقال "نحن الآن في عام 2020، حين انعدمت الثقة بالكامل، ولم تعد هناك أي أسس أو قيم مشتركة يمكن أن تجمع بين إقليمَي برقة وطرابلس، بخاصة بعد قبول الكثيرين بالتدخل التركي ضد القوات المسلحة الليبية. اليوم نرى، أن الكونفيدرالية قد تكون حلاً، وبدأت كل القوى الوطنية البرقاوية تتّحد، وتجهّز مشاريعها، إما للمضي نحو الحل الكونفيدرالي، أو العودة إلى دستور برقة المستقلة، لعام 1949".