كان من عادة المفكر الفرنسي جاك بيرك الذي أمضى حياته كلها وهو يعمل على دراسة التاريخ والحاضر العربيين، أن يجيب حين يسأله أحد عما أوصله إلى "الاستشراق" بأنه ليس مستشرقاً بل لا يفهم حتى ما هو الاستشراق. "أنا، إذا شئتم، مستعرب أهتم باللغة العربية وتاريخها وبالأقوام التي تكلمت بها". بالنسبة إلى جاك بيرك كانت العروبة حقيقة سواء ناصرناها أو ناوأناها، أما الشرق فليس أكثر من فرضية جغرافية يرتبط وجودها بالتوافق عليها. والحال أن هذا الموقف المنطقي لجاك بيرك، يرد على البال حين يجد المرء نفسه أمام واحد من الأعمال الموسيقية الفرنسية التي كانت أواسط القرن التاسع عشر، قد أحدثت تأثيراً كبيراً في الحياة الفنية الفرنسية، وبخاصة إذ قُدّم، وسط عالم كان ينظر إلى كل ما هو غرائبيّ واستشراقي باحتفالية مدهشة، ولا سيما في مجالي الرسم والموسيقى، بصفته موسيقى عربية، من دون أية إشارة إلى أي بعد استشراقي، وعلى الأقل من قبل صاحب العمل نفسه: فيليسيان دافيد، الذي يبدو مستبعداً اليوم من الصورة تماماً. ومع هذا كان دافيد هذا ملء السمع والبصر في زمنه، ولكن بخاصة من خلال كونه واحداً من كبار المبدعين الذين انتموا إلى السان سيمونية.
السدّ والقنال كمشروع اشتراكيّ
وكانت السان سيمونية المتّبعة الخطّ الفكري للاشتراكي الفرنسي سان سيمون، بدورها، ملء السمع والبصر في تلك السنوات التي راحت الأفكار الخيالية والواقعية الاشتراكية تتزاحم فيها. بل إن السان سيمونيين وبقيادة بروسبير آنفانتان، الوريث الشرعي لسان سيمون، عرفوا كيف يوسعون دائرة تحركهم الجغرافي بإرسال بعثات إلى خارج فرنسا التي كانت مهد حركتهم. ولكن بخاصة إلى مصر محمد علي باشا التي خصّوها بعناية مذهلة ولا سيما في مجالات العمران والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية... كل هذا وسط اهتمامهم بإرفاق بعثاتهم بشتى أصناف المبدعين. ولئن كان في وسعنا ملء صفحات عديدة عن الجهود التي بذلها السان سيمونيون في مصر فحسبنا أن نتوقف عند مشروعين أساسيين قدموهما لمحمد علي ومعاونيه، لكنهما لم يتحققا إلا لاحقاً وفي وقت كان كثر ينسون كونهم أصحاب المبادرة: شق قناة السويس وإقامة السد العالي!
طبعا ليس مجالنا هنا التوقف عند هذه الأفكار فهي تحتاج وقفات أكثر خصوصية، لكننا سنعود إلى موضوعنا الأول: فيليسيان دافيد، الكاتب والموسيقي الذي كان في طليعة المبدعين الذين رافقوا البعثة ليمضي فترة طويلة من حياته في مصر مستلهماً إبداعات أبنائها وهيامه بطبيعتها وتاريخها. ولسوف ينجز دافيد أعمالاً موسيقية وكتابية عديدة عن مصر، نتوقف هنا منها عند سيمفونيته "صحراء" التي ربما يصح القول إنها كانت أول عمل موسيقي يُقدّم في فرنسا، بل في أوروبا بصورة عامة، بكونه موسيقى عربية، سابقاً بها أعمالاً للنرويجي إدوارد غريغ وللروسي رمسكي – كورساكوف وغيرهما من الذين اعتادوا الانفصال عن الفكرة الاستشراقية للتركيز على الاستلهام العربي لأعمالهم. وحسبنا أن نشير هنا إلى أن فيليسيان دافيد سبق أولئك وغيرهم بما لا يقلّ عن ربع قرن!
كان فيليسيان دافيد يتيماً تبناه السان سيمونيون وساعدوه واصطحبوه في جولاتهم ليصبح ذات مساء، أواخر عام 1844، وإثر حفل موسيقي مشهود أقيم في العاصمة الفرنسية، رائداً موسيقياً حوّل الإثارة الشرقية إلى إثارة عربية ممهداً في ذلك الطريق لمواطنين له تابعوه لاحقاً منهم غونو وماسّينيه وسان – سانس و... رافيل. وحتى لو إن دافيد عاد وغاب في النسيان بعد ذلك بعشرين عاماً، فإن أولئك الذين حذوا حذوه، بل حتى تأثروا به، لم ينكروا فضله عليهم متحدثين عن "صحراء" ولكن أيضاً عن "الأسيرة" و"الياقوت" (وهما أوبراتان هزليتان) و"موسى في سيناء" و"عدن" (أوراتوريو).
موسيقى صحراوية حقيقية
من المؤكد أن "صحراء" تعتبر الأشهر بين مؤلفات فيليسيان دافيد الموسيقية "العربية" وهي عبارة عن نشيد سيمفوني طويل يتألف من ثلاثة أجزاء مُوسقت انطلاقاً من نص شعري لآرمان كولين وتؤدى من قبل مغني تينور وكورس إضافة إلى الأوركسترا. ولعل في إمكان النص التالي الذي كتبه ثيوفيل غوتييه، الروائي الذي كان في حينه من أكثر الكتّاب الفرنسيين تذوّقاً للموسيقى العربية هو الذي قام برحلات عديدة إلى مصر وتركيا وكتب رواية "المومياء"، في إمكانه أن يضعنا على تماس مع رد فعل الأوساط الثقافية الفرنسية على ذلك الإنجاز الموسيقي الذي احتفلوا به في خشوع يومها، يكتب غوتييه: "تظهر القافلة من بعيد... كثعبان أسود نحيل يعبر الأرض الصفراء القاحلة. في البداية تبدو الموسيقى هادئة بالكاد تُحسّ، لكنها تبدأ بالتصاعد تدريجياً بمقدار ما تقترب القافلة، وسيبدو هنا للمستمع أنه يبدأ بسماع صوت الأقدام وهي تضرب في الغبار الملتهب للأرض الجافة بمقدار ما يقوى الإيقاع. وهنا إذ يكاد المستمع يشعر وكأن التصاعد سوف يتواصل كما هي الحال في سيمفونية لبيتهوفن من مقام لا، يعرف دافيد كيف يكبح نفسه وكيف وأين ينبغي أن يتوقف. وهنا تبدو القافلة وكأنها قد فوجئت برياح السموم التي تهب فجأة ويكون لديها عادة من القوة ما يمكّنها من تبديل تضاريس التلال الرملية وجعل أشجار النخيل تنحني بل حتى إزاحة العابرين عن طريقهم... وبالتالي يحدث للموسيقى أن تعلو إلى حدود قصوى بشكل مباغت في كريشندو صاخب أجمع الجمهور على أنه صوّر أجمل وأقوى عاصفة في تاريخ الموسيقى". هنا ينتهي اقتباسنا من غوتييه، ومن الواضع مدى الحماسة التي وضعها الكاتب الفرنسي في هذا الكلام عن عمل كان قد بدأ أصلاً بنوطة هادئة واحدة تؤديها آلة وترية، ما وعد بسياق موسيقي عذب يدنو من السوناتا وعالم الأحلام.
لكن دافيد سرعان ما انتقل إلى ذلك الكريشندو العنيف الذي عبّر به عن عنف الأحاسيس المتبدّلة في ذلك المناخ العربي/ المصري الذي عايشه ونهل من أزقته ودروبه وزوايا حياته الاجتماعية أنغاماً ليس من المنطقي وصفها بالغرائبية أو الإثارة، ما يفرّقها بهذا عما وسم الموسيقى الاستشراقية المتصوَّرة حتى لدى موتزارت!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من موسيقى الشرق الأوسط
منذ اليوم التالي لتقديم ذلك العمل، راحت باريس الموسيقى بأسرها تلهج بالثناء على ذلك الموسيقي الذي كان في حينها في الرابعة والثلاثين من عمره، وسوف يعيش وينتج موسيقاه حتى رحيله عام 1876 عن ست وستين سنة. وهو كان بالكاد قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره حين ترك وظيفته كمساعد في الكونسرفاتوار الوطني ليلتحق بالسان سيمونيين في حملتهم المصرية. ومن المعروف أن هذه الجمعية كانت تعطي الموسيقى دوراً بالغ الأهمية في وحدة الشعوب وتلاقح الثقافات. وهو أمضى ورفاقه، ومن بينهم عدد من موسيقيي الكونسرفاتوار إضافة إلى الرسامين والكتّاب والشعراء والعمرانيين و"خبراء التنمية"، فترة من الوقت كانت كافية لهم للتشرب بكل ما التقوه في مصر، ولكن كذلك في فلسطين والساحل السوري وصولاً حتى إلى صحراء تدمر حيث جرى لقاء شهير بين بعضهم والليدي إستر ستنهوب شارك فيه لامارتين الذي التقوه في الجبل اللبناني أيضاً. ولسوف يقول فيليسيان لاحقاً أن تلك الجولة الشرق أوسطية قد علمته وصقلت خبرته الموسيقية وشحذت ملكة الإبداع لديه بأكثر مما فعلت كل سنوات دراسته وخبرته في فرنسا. ولقد ظهر ذلك واضحاً بالطبع في أعماله العديدة ولكن بخاصة في "صحراء" التي افتتحت في الحياة الفنية الفرنسية نوعاً جديداً من الشغف بكل ما هو عربي كبديل عن ذلك الهوس القديم بكل ما هو شرقيّ.
إلى جانب "صحراء" كتب دافيد بعد عودته من مصر عدداً لا بأس به من الأعمال بينها قطع من نوع "الرومانس" وثلاث سيمفونيات كتبها على التوالي في الأعوام 1837 و1838 و1849 إضافة إلى عدد من الأوبرات كان أشهرها "جوهرة البرازيل" (1855) و"لولا روخ" (1862). والطريف أن دافيد الذي كان غارقاً في الديون الناتجة من نفقات رحلته باع حقوق "صحراء" بمبلغ يسير جداً من المال.