عندما أصدر المفكر الفلسطيني الأميركي "إدوارد سعيد" كتابه الشهير عن الاستشراق جاء ذلك بمثابة المواجهة الموضوعية لقضايا الاستشراق والمستشرقين منذ بدأ اهتمام الغرب بالشرق عربياً وإسلامياً آسيوياً وإفريقياً، وإن تنامت في الوقت ذاته أزمة الثقة المفقودة بين الجانبين رغم اتصاف بعض المستشرقين بروح الإنصاف تجاه مشاهداتهم لظواهر الشرق وأساليب الحياة فيه إلا أن كثيراً من الكتابات أيضاً اتصفت بقدر من العجرفة والاستعلاء وعدم الفهم الحقيقي لروح الشرق، ولعل كل محاولة لاستقراء تاريخ حركة الاستشراق سوف تقودنا بالضرورة إلى فهم الملابسات التي ارتبطت بها وأحاطت بظروف كل منها، ويجب أن أنوه هنا أن المستشرق بطبيعته مغرم بالشرق، ولذلك فقد كان من المتوقع أن تكون كتاباته إيجابية، ولكن الأمر اختلف من مستشرق لآخر ولعلنا نسجل هنا الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد تشكلت نظرة الغرب إلى سحر الشرق باعتباره أرض الغيبيات والأساطير التاريخية والعادات الغريبة والأفكار والفلسفات التي قد لا تروق للعقل الغربي، ولكنها تشده بقوة نحو اكتشاف ذلك العالم الغريب والعجيب في ذات الوقت، ولقد أسهمت حركة الكشوف الجغرافية ومحاولة الوصول إلى الهند على الجانب الآخر بعد اكتشاف كروية الأرض في ازدهار تيار الاستشراق، فكان ذلك بداية الانفتاح على العالم الجديد، مروراً ببقاع محددة من العالم القديم، ثم انطلقت الظاهرة الاستعمارية لتنهش دولاً وأقاليم في إفريقيا وآسيا بدعوى التحديث والتحضير وانتشال تلك المناطق من مرحلة التخلف إلى عالم التقدم بالمنطوق الغربي، ولم يكن ذلك صحيحاً بالطبع فقد كانت الأهداف استعمارية ـــ بالدرجة الأولى ـــ تقف وراءها أطماع في ثروات العالم القديم في القارتين الآسيوية والإفريقية.
ثانياً: إذا أمعنا النظر في كتابات المستشرقين فسوف نجد أنها قد تعددت، بل وتلونت تبعاً للدولة التي زارها المستشرق وعاش فترة بين أهلها فتكون كتاباته انعكاساً طبيعياً لما رآه وما عرفه عن أهلها وأرضها وثقافة شعبها، وقد يكون المستشرق مبهوراً بما يشاهد وقد يكون أيضاً رافضاً لكل ما يحيط به وفي الحالتين تتشكل كتاباته بالرضا والقبول بل والاستحسان أو بالرفض القاطع والابتعاد الكامل عن كل ما أحاط به، إن الشخصنة وثقافة المستشرق والتجارب التي يمر بها تحدد بقدر كبير درجة قبوله للأفكار الغريبة عنه والقصص التي يرويها والنتائج التي يصل إليها، ولقد شعرنا من كتابات كثير من المستشرقين أنهم مفتونون بالبلاد التي يزورونها والبقاع التي يكتبون عنها والعادات الغريبة بالنسبة لهم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد الاندماج في البلاد الجديدة التي وصلوا إليها وعاشوا فيها.
ثالثاً: لا يخفى على أحد أن الاستشراق قد مضى متواكباً مع تنامي الظاهرة الاستعمارية الوافدة من الغرب إلى الشرق، بل إن كثيراً من المستشرقين كانوا يتحركون وفقاً لأهداف سياسية وغايات قومية خرجوا بها من بلادهم لتحقيق أهداف معينة ونتائج مرسومة، وإذا اعتبرنا "Lawrence of Arabia" أحد نماذج الاستشراق السياسي فإننا نرصد الدور الضخم الذي لعبه في غضون الحرب العالمية الأولى وعلاقته بالهاشميين وبالشريف حسين تحديدًا، ولقد عاش "لورانس" في المنطقة العربية وارتدى زي أهلها وأمضى معظم سنوات عمره فيها إلى أن انتهت حياته بحادث غامض في "لندن"، ولكن خدماته الجليلة لبلاده تؤكد أن الاستشراق ليس ظاهرة مطلقة، ولكنه مشروع نسبي يرتبط بأهداف الزمان وغايات المكان، ولماذا نذهب بعيداً إذ إن "برنارد لويس" يمثل نموذجاً واضحاً للدور السياسي الذي يلعبه المؤرخ الغربي في حياة الشرق، وتجسيد الصورة المطلوبة عن أهله والتبشير بالمشروعات الوافدة على ممالك الشرق ومجتمعاته، ويكفي أن نتأمل مشروع (لويس) في تقسيم العالم العربي وتفكيك أجزائه لكي نتيقن من خطورة النظرة الغربية وأغراضها الخفية في المناطق المختلفة من عالم الجنوب.
رابعاً: عجز بعض المستشرقين من الرحالة والمكتشفين عن فهم كثير من عادات الشرق وتقاليده، ولازلت أتذكر كيف أن أحد المستشرقين كان يعيش في بلد إسلامي ولفت نظره قبيل عيد الأضحى وجود خراف صغيرة أمام أبواب المنازل استعداداً للتضحية بها في العيد، فظن ذلك المستشرق أنهم يربونها بديلاً للكلاب وكتب يقول: (إنه يبدو أن أهل هذه البلاد يفضلون تربية الحمل الصغير بديلاً عن الكلب الوفي)، ولو قرأنا ما كتبه كثير من المستشرقين عن مشاهداتهم في مصر أو المغرب أو بعض مدن الشام لوجدنا ما يثير الدهشة ويدعو إلى التساؤل، فقد لفتت أنظارهم الأزياء المختلفة عن الغرب مثلما هو "القفطان" و"الزعبوط" في الشمال الإفريقي أو "الجلباب الريفي" في مصر أو "الزي البدوي" في الشام والجزيرة العربية، لقد عاشوا دائماً في ظل مشاهد غير مألوفة وأحوال مختلفة، بينما انصرف بعضهم إلى تسجيل ما يرون بدقة لا تخلو من الإلهام والتأثر بكل ما هو قائم، وكأن الاستشراق هو محاولة غربية لإعادة اكتشاف الشرق.
خامساً: لا يجادل أحد في أن حركة الاستشراق لم تكن طريقاً واحداً لاتجاه دون غيره، بل إن هناك ما يمكن تسميته بحركة الاستغراب لأولئك الذين خرجوا من الشرق إلى الغرب، فلقد كنت أقرأ عن رحالة مغربي طاف بالمدن الأوروبية في العصور الوسطى فأدهشه ما رأى حتى وصلنا إلى الإمام محمد عبده رائد التجديد الديني والاجتماعي الذي انبهر بالحياة في فرنسا، مثلما جرى الأمر لطه حسين بعد ذلك، وآل عبد الرازق وغيرهم ممن خرجوا من القرى إلى عاصمة النور في مطلع القرن الماضي، فالاستشراق لم يكن من الغرب إلى الشرق بلا مقابل، ولكن كانت هناك تدفقات فكرية وعلمية انطلقت من الشرق إلى الغرب في اتجاه معاكس وبأهداف مختلفة، ليس آخرها حالة الانبهار بالغرب ومظاهر الحداثة في حياة أبنائه نتيجة الإيمان المغلوط بأن التحديث يعني التغريب، وكأنما الغرب وحده هو مصدر الحداثة ومركز الحضارة ومنبع الثقافة، وإذا كان بعض المستشرقين قد خرجوا عن الخط العام ولم يدركوا أهمية ما يفعلون فإن لدينا على الجانب الآخر من ذهبوا من الشرق إلى الغرب وعادوا بأفكار غير عصرية ورؤى مناهضة للحياة الحديثة والتطور الطبيعي نتيجة رفضهم لما عاشوا فيه، ولعل نموذج "سيد قطب" بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية دليل على صحة ما نقول فقد سافر معتدلاً وعاد متشدداً.
إن الاستشراق هو ظاهرة انفتاحية وحركة ثقافية، ولكنه لم يبرأ أيضاً من تأثيرات الهوى الغربي والغرض القومي، بل والمسحة الاستعمارية التي شكلت الكثير من كتابات المؤرخين ودراساتهم المختلفة عبر العصور بحيث تلونت كتاباتهم وفقاً لأهوائهم ونوعية التجارب التي مروا بها والخبرات الإنسانية التي اكتسبوها.
إن الاستشراق بحر متلاطم الأمواج، يحتاج إلى مزيد من الدراسات التي يجب أن يعكف عليها الباحثون، بل إنني أظن أن الحملة الفرنسية على مصر لا تخلو هي الأخرى من مظاهر الاستشراق، ويكفي أن نتذكر الآن ذلك العمل الضخم الذي تجسد في كتاب علماء الحملة الشهير (وصف مصر).