ما اجتمع الثلاثة الكبار من القادة السياسيين/العسكريين في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين ضد شخص واحد اجتماعهم ضد الكاتب الإيطالي غريب الأطوار كورزيو مالابارتي. فإذا كان تروتسكي قد ندد بمالابارتي بكل وضوح، فإن هتلر أحرق له معظم كتبه ولا سيما منها واحد هو ما نتحدث عنه هنا، في احتفالية حرق الكتب النازية الشهيرة، أما موسوليني فأمر بملاحقته دون هوادة. والسبب في هذا كله هو بالتحديد كتابه "تقنية الانقلاب العسكري". والحقيقة أن مالابارتي شعر بدهشة كبيرة من دون أن يفوته الشعور بقسط كبير من العظمة إزاء ردود فعل أتت بهذه الضخامة بصدد كتاب سيظل يقول دائماً إنه لم يتوخ منه أن يكون سياسياً أو عسكرياً أو حتى أيديولوجياً وتاريخياً. بالنسبة إليه كان الكتاب تقنيّاً لا أكثر. كان كتاباً أراد منه أن يشرح كيف ولماذا يحدث الانقلاب العسكري. وكيف يمكنه أن يفشل أو ينجح مستنداً في تحليله "العلمي" إلى عدد من الأمثلة المعاصرة للزمن الذي عاش وكتب فيه هذا النص الذي لا يزال يحمل غرابته حتى الآن.
تاريخ تقني للانقلابات الحديثة
ثمانية انقلابات عسكرية يتناولها مالابارتي في هذا الكتاب لعل أهمها ذاك الذي صاحب انتصار الثورة البلشفية وقاده تروتسكي ليكون الفشل مآل هذا الأخير فيما تمكن لينين من الاستيلاء على السلطة ليكون مؤسس الإتحاد السوفياتي فيما هُمّش تروتسكي، ولا ننسى أننا هنا في زمن تأليف الكتاب عام 1930 لم يكن ستالين قد تمكن بعد من تدبير إزاحة تروتسكي نهائياً عن السلطة، بل كان الصراع بينهما قد وصل إلى نهايته على خلافة لينين، ما انتهى إلى ما يصفه مالابارتي بـ"حكاية انقلاب عسكري أخفق: تروتسكي ضد ستالين". وهنا يفيدنا مالابارتي بأن "رجل الدولة الأوروبي الوحيد الذي استفاد من درس 1917 كان ستالين نفسه، ما مكّنه من إفشال انقلاب تروتسكي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد ذلك يدرس الكاتب تجربة انقلاب فارصوفيا على يد بيلسودسكي مقارناً إياها بتجربة انقلاب بريمو دي ريفيرا في المكسيك، قبل أن يعود إلى انقلاب لوي بونابارتي (18 برومير) الذي يعتبره "أول انقلاب في العصور الحديثة" مستنداً إلى تحليلات كارل ماركس للتعليق عليه، ما يقوده إلى انقلاب فون كروب في برلين العام 1920 متحدثاً عن أن هذا الجنرال نسي وهو يقود انقلابه أن ثمة في برلين مفاعلات كهربائية ومجلس نواب ووزراء لكل منهم قوته وزاوية تحركه... وكان ذلك النسيان درساً للانقلاب التالي الذي سيكون من أنجح الانقلابات: انقلاب فاشيي موسوليني في مسيرتهم نحو روما. ويرى مالابارتي أن انقلاب موسوليني هذا لم يحدث يوم انتصاره في عام 1929 بل قبل ذلك بسنوات عدة، أي في عام 1922 حين انطلقت فاشية موسوليني في مسيرة بات من الصعب التصدي لها. ومن هنا فإن الانقلاب الفاشي إنما أتى استكمالاً لمسار طويل ناجح رسم الخطوط الأساسية لكل تقنية تريد أن تصل في انقلابها إلى نجاح مؤكد. وبالتالي فإن الكاتب يتحدث عن حال النازية في مسارها المماثل كما كان يبدو له عام تأليف الكتاب أي قبل ثلاث سنوات من وصول الانقلاب الهتلري إلى ذروته.
منذ البداية إذاً وضع مالابارتي فصول كتابه محاولاً أن يجيب على سؤال مزدوج وفي "منتهى البساطة": كيف يمكن الاستيلاء على السلطة في دولة معاصرة"؟ ثم كيف يمكن الحفاظ على تلك السلطة؟ ومن هنا، بفضل تقنيته والبورتريهات التي رسمها بحذاقة لكبار الانقلابيين، عرف الكتاب منذ صدوره نجاحاً كبيراً، غير أن أصحاب الشأن أنفسهم، أو على الأقل من كان منهم في السلطة حينها، لم ينظر إلى الأمور من هذا المنظور فكان الغضب المشترك الذي حل على المؤلف...
ضد بونابارتي ولو بالاسم!
والمؤلف كان اسمه في الأصل كورت-إيريك سوكيرت، لكنك لو ذكرت هذا الاسم أمام أي شخص كان سيعجز عن التعرف إليه، لأن صاحب هذا الاسم دخل ملكوت الخلود الأدبي تحت اسمه المستعار "كورزيو مالابارتي". ومالابارتي في اللغة الإيطالية تعني "الجانب السيء"، فلماذا اختار هذا الاسم؟ لمجرد أن نابليون كان يحمل الاسم الذي كان يود أن يختاره: بونابارتي أي "الجانب الطيب". وعلى هذا النحو يبدو لنا هذا الكاتب الإيطالي ذو الأطوار الغريبة، استفزازياً وطريفاً منذ البداية، أي منذ اختياره الاسم الذي حمله كأديب.
ويقيناً أن الاسم لعب دوراً في شهرة صاحبه، لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته في شهرته مؤلفاته الروائية وكتاباته الصحافية ومواقفه السياسية الصاخبة، المتبدلة تبدلاً جذرياً في بعض الأحيان، أي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مع تنويعات على مواقف الوسط ندر أن كان لها ما يبررها من الناحية المنطقية. من هنا كان المبرر الوحيد هو القلق الذي كان لا يكف عن الاستبداد بالرجل، وضياعه بين تقلّبات القرن العشرين وتقلّبات بلده الإيطالي ولامنطقية السياسات المتلاحقة.
في هذا المعنى كان كورزيو مالابارتي، إبنا من أبناء القرن العشرين. وفي هذا المعنى كان زميلاً وندا لكل أولئك الكتاب الكبار، الأوروبيين خاصة، الذين كانت تقلّباتهم السياسية تأتي على حجم خيبات أملهم، واكتشافهم لحقائق كانت عيونهم عامية عنها على الدوام، فإذا بها حين تظهر للعيان تسبب لهم من الألم والصدمة ما يحرّفهم ويدمرهم وينعكس تقلبات واهتزازات تبدو بعض الأحيان غير مبررة، وفي معظم الأحيان متفاوتة القياس مع حجم الخيبة نفسه، نقول هذا وفي ذهننا حكاية أشخاص مثل أندريه جيد وجورج أورويل وآرثر كوستلر بين آخرين.
عكس التيار السائد
غير أن الطريف بالنسبة إلى حالة كورزيو مالابارتي أن تقلّبه اتخذ وجهة معاكسة لوجهة زملائه المعاصرين له. فلئن كان معظم أدباء النصف الأول من القرن العشرين قد انقلبوا من اليسار إلى اليمين، أو إلى الوسط أو إلى نوع من العبثية الحيادية، تحت وطأة خيبة أملهم بستالين، فإن سـيرة مالابارتي كانت معاكسة تماماً. فهو كان في السادسة عشرة من عمره حين اندلعت الحرب العالمية الأولى فانضم متطوعاً إلى الطابور الغاريبالدي الذي كان يعتبر الأكثر تطرفاً إلى اليمين في إيطاليا. وبعد انقضاء الحرب قاده إذلال وطنه إلى الانضمام إلى الفاشيين وهو معتقد أنه سيجد لديهم ما يحقق له ثأره وما يضفي عليه آيات البطولة. وهو ظل فاشياً طوال سنوات عديدة، يكتب في صحف الفاشيين ويبرر لهم كل تصرفاتهم وأفعالهم، وخاصة في ليبيا والحبشة، بيد أن طبيعته المتقلبة وحساسيته ككاتب أدتا به في النهاية إلى إظهار سأمه من الفاشية ومن ادعاءاتها، فبدأ يناهض النظام الموسوليني، بخجل أول الأمر، ثم بجرأة بعد ذلك، فإذا بالفاشيين يغضبون عليه، بعد مناصرة وتبجيل وإسهام في نشر كتبه وتوزيعها، فأودعوه الإقامة الجبرية. لكن سرعان ما تمكّن من الإفلات ليساهم في تحرير إيطاليا واضعاً نفسه وأدبه في خدمة المحررين الأميركيين، معتبراً الديمقراطية الأميركية حلاً ناجعاً.
...فإلى أحضان ستالين
غير أنه سرعان ما خاب أمله من الأميركيين فوجد طريقه تقوده هذه المرة إلى الشيوعية، فراح يكتب مناصراً الشيوعيين الذين احتضنوه. ولقد بلغ من حماسته أنه أوصى بكل ما يملكه، بما في ذلك حقوق كتبه وترجماتها، للصين الشعبية.
ومع هذا لم ينضم مالابارتي إلى الحزب الشيوعي الإيطالي ولم يتلق بطاقته الحزبية إلا وهو على فراش الموت. وهو أعلن عن سروره بذلك قبل ساعات من رحيله في شهر يوليو (تموز) 1957 قائلاً إنه نادم لكونه لم يمض كل حياته شيوعياً يكتب نصوصاً وروايات تخدم فكرته وتطوره الجديد. بموته فقدت إيطالياً كاتباً شعبياً لا تزال رواياته، ومنها "كابوت" (1944) و"الجلد" (1949) تعتبر حتى اليوم من أبرز معالم الأدب الإيطالي الحديث.