مهما كان التشابه مدهشاً بين ما يحدث في رواية الإيطالي دينو بوتزاتي "صحراء التتار" وما حدث في منطقة كفرا الليبية خلال الحرب العالمية الثانية ويبدو نسخة مما في الرواية، فإن ثمة أمراً مؤكداً هو أن دينو بوتزاتي لم يحاول التأريخ لتلك الهزيمة الساحقة التي حلّت بالقوات الإيطالية في المنطقة الليبية، ولم يتعمّد أن تكون أحداث روايته مقتبسة منها. والسبب غاية في البساطة والإقناع. بوتزاتي كتب روايته ونشرها بين العامين 1939 و1940، أما هزيمة الإيطاليين في كفرا فكانت في ربيع عام 1941، ما يعني هنا، مرة أخرى، أن الحياة هي التي قلّدت الفن لا الفن أتى محاكياً لما يحدث في الحياة. وبالتالي فإن التشابه يلعب هنا لصالح الفن، بين رواية تعتبر من قبل النقاد والمؤرخين من قمم أدب العبث في القرن العشرين، وواقع تاريخي يعتبر دائماً من مفاخر المآثر العسكرية الفرنسية؛ بل سيقول بعض المهتمين إن من الضروري الاحتفال به دائماً باعتباره يشكل واحداً من انتصارات عسكرية نادرة حققها الجيش الفرنسي في القرن الفائت، لكن هذا ليس بيت قصيدنا هنا. ما يعنينا، مرة أخرى، هو ذلك التقاطع بين ما يبدعه الفنانون وما يحكيه التاريخ.
آية ذلك أن هناك في التاريخ الفرنسي الحديث فصلاً علامته الأساسية ما يطلق عليه الفرنسيون اسم "قسم كفرا"، وبطله الكولونيل لو كليرك، أحد أبطال فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. ويرى الكثيرون من الفرنسيين أن "قسم كفرا" هذا كان عاملاً أساسياً من عوامل إثارة الحماسة خلال الحرب العالمية الثانية، ضد الاحتلال النازي لفرنسا، وضد ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية بصورة عامة.
صحراء ليبية ضائعة
بيد أن ما يتجاهله (أو يجهله) الكثير من الفرنسيين اليوم، إنما هو السـبب الذي جعل القـسم يحمل اسم "قسم كفرا" بل أين تقع كفرا أساساً. والحال إن كفرا هذه بلدة تقع في الـصحراء اللـيبية، وانطلاقاً من تلك الصحراء، أقـسم الكولونيل لو كليرك وجنوده في ربيع عام 1941، على تحرير فرنسا، كل فرنـسا وصولاً إلى ستراسبورغ التي كانت أول مدينة يحتلها الألمان خلال إلحاقهم الهزيمة المهـينة بفرنسا عند بدايات الحرب العالمية الثانية أي قبل ذلك بعام ونيّف.
إذن، وسط الصحراء الليبية، وسط الحصن المنيع في كفرا، وبعدما كانت قوات "فرنسا الحرة" بقيادة لو كليرك، قد أوقعت هزيمة أولى بالإيطاليين، راح النفير يدق نشيد "إلى العلم" فيما وقف الكولونيل الفرنسي (الذي تحمل اسمه اليوم شوارع تنتشر في طول المدن الفرنسية وعرضها) مع قواته ليقسموا وسط لهيب الشمس الحارة، ذلك القسم الذي ما لبث أن قاد خطاهم من تلك اللحظة وصاعداً. قال لو كليرك يومها لرجاله: "لقد حققتم انتصاراً من شأنه أن يملأكم بالفخر. ولكن كفرا ليست سوى مرحلة واحدة على طريق تحرير فرنسا. وإننا لن نضع سلاحنا جانباً إلا بعد أن يرفرف العلم الفرنسي فوق باريس وستراسبورغ". وفيما كان لو كليرك يقول هذا، لم يكن غائباً عن باله، أن الخصم الأكثر شراسة، الجنرال الألماني أرفن رومل، كان قد وصل إلى طرابلس الغرب قبل ذلك بثلاثة أسابيع فقط، وأن وصوله إلى هناك قد يعني أشياء كثيرة، أولها أن الألمان قرّروا أن يكشّروا عن أنيابهم بعدما بدت لهم هزائم الإيطالين، حلفائهم، أموراً في غاية السهولة والخطورة في آن.
الجنود يتمردون على حكومتهم
بيد أن انتصار لو كليرك، في كفرا، كان قد أعطاه اندفاعة قوية منعته من أن يمعن التفكير في إمكانية انتصارات ألمانية لاحقة. والحال أن لو كليرك كان في البداية قد احتل التشاد وضمّها إلى منطقة أفريقيا الإستوائية الفرنسية، قبل أن يتوجه إلى كفرا، التي كانت واقعة تحت الاحتلال الإيطالي منذ 1931. في البداية اكتفت قوات "فرنسا الحرة" بإزعاج الحامية الإيطالية التي ترابط في حصن كفرا، فما كان من الجنرال الإيطالي غروسي إلا أن وجه رسالة احتجاج إلى الحكومة الفرنسية التي سارعت لتطلب من قواتها "عدم مبارحة الأراضي القومية للمشاركة في أية أعمال عدائية ضد الإيطاليين". وفي تلك الأحيان كانت "الأراضي القومية" تشمل، بالطبع، المستعمرات الفرنسية في أفريقيا ولا تتضمن أياً من الأراضي الليبية. مهما يكن فإن قوات فرنسا الحرة بقيادة لو كليرك لم تعر التفاتاً إلى مطلب الحكومة الفرنسية. بل عمدت إلى اجتياز الصحراء الليبية، اعتباراً من يوم 26 يناير (كانون الثاني) لتصل يوم 31 من الشهر نفسه إلى حيث اصطدمت بقوات إيطالية خرجت لها من الحصن (كما في رواية "صحراء التتار") لمنازلتها. وبالفعل تمكنت تلك القوات الإيطالية التي كانت تضم المئات من الجنود الليبيين، من صد القوات الفرنسية آسرة العديد من جنودها، قبل أن تعود إلى حصن كفرا لتتحصن فيه.
بعد راحة دامت بضعة أيام، لعب خلالها الفرنسيون بأعصاب القوات الإيطالية المرابطة في الحصن (ودائماً كما يرد في رواية دينو بوتزاتي كما سنرى بعد سطور)، عمدت قوات لو كليرك إلى مهاجة الحصن يوم 17 فبراير (شباط)، وهو هجوم استمر نحو عشرة أيام، انتهت بإلحاق الهزيمة بالإيطاليين، الذين ما إن حل الأول من مارس (آذار) حتى كانوا قد رفعوا علم الاستسلام الأبيض فوق الحصن، في وقت كان الفرنسيون يدخلون إلى ذلك الحصن آسرين من تبقى فيه من جنود إيطاليين (64 جندياً) وليبيين (250 إلى 300 جندي). وفي اليوم التالي بعدما ارتاح الجنود ونظموا فيه شؤون الحصن، كان قسمهم الشهير إثر ذلك الانتصار، الذي كان على أي حال وكما لمّحنا، واحداً من الانتصارات الفرنسية النادرة خلال الحرب العالمية الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رواية العبث المطلق
ويوصلنا هذا هنا إلى الرواية، التي عاد الفرنسيون وحولوها فيلماً في سبعينيات القرن العشرين. صحيح أن الهوة واسعة بين الحدث التاريخي الحقيقي والحدث المتخيّل في رواية بوتزاتي، ولكن من المؤكد أنه لو كان ثمة بين الجنود الإيطاليين المرابطين في الحصن جندي من هواة الكتابة حلا له أن يكتب يوميات ما خلال الشهور التي سبقت الهزيمة، واصفاً فيها بشكل خاص ذلك التوتر الذي عاشه الحنود خلال انتظارهم العدوّ الذي سيأتيهم من قلب الصحراء، لما بدا النص سوى وصف حقيقيّ لتلك الأجواء التي يصفها الكاتب الإيطالي في روايته... وربما حرفياً أيضاً: خواء وفراغ ذهني وانتظار للمجهول وتفرّس في كل يوم وساعة في المناطق الصحراوية المحيطة بالحصن – والحصن غير محدّد في الرواية ولا اسم له يبدو ضائعاً وسط صحراء تيه لا نهاية لها. بل تبدو الصحراء نفسها وكأنها هي جحافل العدو الفاغرة فاها لابتلاع جنود الحصن. مناخ رهيب ذاك الذي يصفه بوتزاتي بل إنه بالتأكيد مناخ جوانيّ، لأن ما كان يمثل الأهمية القصوى بالنسبة إليه ليس الحدث/ الانتظار/ الرعب الخارجي، بل انعكاس ذلك على حياة الحنود ويومياتهم وكأنه كان يعيش بينهم – أو بالأحرى: سوف يعيش بينهم! -.
والحقيقة أننا إذ نتحدث بهذه الشاكلة عن "صحراء التتار" فكأننا نجمل الحديث عن أدب دينو بوتزاتي (1890 – 1972) الذي يعتبر واحداً من كبار الكتاب الإيطاليين في القرن العشرين. بل أكثرهم سوريالية منذ شبابه الباكر أي منذ تحولّه من الرسم والصحافة إلى الكتابة الروائية ضمن خط عبثي وسوريالي لعله يمتل بأفضل ما يفعل في أجمل وأغرب صفحات تلك الرواية التي أتت بعد رواية كبيرة أخرى له هي "برنابو الجبل" (1933) لتصور ما اعتبره النقاد "عبثية الشرط الإنساني" وأن حياتنا ليست إلا نوعاً من "انتظار طويل يعبق بيأس من الوصول إلى أية نهاية". والحال أن تينك الروايتين أمنتا لبوتزاتي شهرة عالمية استفادت منها أعماله اللاحقة التي أجمع النقاد على أنها قد لا ترقى إلى المستوى الذي بلغته الروايتان المذكورتان، ومن بينها "الرسل السبعة" (1942) و"صورة الحجر" ناهيك بعدد من المجموعات القصصية القصيرة.